العثور على 168 قصيدة موريسكية باللهجة الأندلسية، اكتشاف يثبت أن الموريسكي لم يفقد ثقافته !
مقال نُشِرَ بجريدة “باينتي مينوتوس”.
ترجمة سميرة فخرالدين
أبدعت الأقلية الموريسكية بلُغَتِها الأم شعرا في الحب و الدين ، وفي الأحداث المعاصرة و الأساطير.
يستند جوهر البحث الذي قامت به كل من ‘آنا لبارتا’ و ‘كارمن برثيلو’ على 56 قصيدة نُسِخَت في مخطوط واحد مكون من 180 صفحة.
تشير الإحصائيات إلى أن أعلى نسبة من الساكنة الموريسكية قطنت مملكة بلنسية.
تعرضت هذه الأقلية للطرد من شبه الجزيرة الايبيرية بأمر من الملك فيليب الثالث سنة 1609.
تُزاول كل من “كارمن برثيلو” و “آنا لبارتا” مهنة التعليم العالي بجامعة بلنسية، تخصص دراسات عربية و إسلامية. بعد اكتشاف القصائد، تقاسمت الباحثتان عمليتي الترجمة و النشر. يبلغ عدد القصائد المُكتشفة 168 قصيدة منظومة باللهجة الأندلسية. تعود لمورسكيين عاشوا ببلنسية في القرن السادس عشر. يؤكد اكتشاف هذه المؤلَّفات، التي صُودِرَت حينها من قِبَل محاكم التفتيش، أن الأقلية الموريسكية أبدعت بلُغَتِها الأم شعرا في الحب و الدين، في الأحداث المعاصرة و الأساطير، مما يؤكد أن اللغة العربية كانت لغة ثقافة في ذلك الوقت(1).
كرَّسَت الباحثتان حوالي 40 عاما للبحث العلمي في مجال اللغة و الثقافة الموريسكية. تكمن أهمية هذا الاكتشاف، في إثبات مدى حيوية الأدب المُدَوَّن بالعامية الأندلسية في شبه الجزيرة الايبيرية إلى غاية أوائل القرن السابع عشر، و لعل استمرار تداول القصائد القديمة و نظم أخرى جديدة لخير دليل على ذلك. تقول “آنا لبارتا” : ” استعمَل المجتمع الموريسكي البلنسي لهجته العربية العامية بشكل يومي. تدحض هذه القصائد فكرة إقصاء هذه الأقلية المُستضعفة. لم يفقد موريسكي بلنسية ثقافته و لم يعش حياة بربرية “.
الموريسكيون هم المسلمون الذين خُيِّروا سنة 1520 بين التحول للمسيحية و الخضوع للتعميد الإجباري أو الطرد . استطاعوا الاندماج تارةً في نمط حياة المسيحيين القدامى، ذلك الاندماج الذي لم يتحقق في أغلب الأحيان. تعرَّض الموريسكيون للطرد في أوائل القرن السابع عشر من ممالك شبه الجزيرة الايبيرية بموجب مرسوم ملكي صادر عن فيليب الثالث سنة 1609.
يستند جوهر البحث الذي قامت به كل من “آنا لبارتا” و “كارمن برثيلو” على 56 قصيدة منسوخة في مخطوط واحد مكون من 180 صفحة، محفوظ حاليا في المكتبة التاريخية لجامعة بلنسية. اقتفت الباحثتان أيضا أثر الوثائق المحفوظة بالأرشيف التاريخي الوطني لمدريد، حيث توجد مواد صودِرَت يومها من قِبَل محاكم التفتيش من موريسكيين بلنسيين، كما اقتفتا أثر الوثائق المحفوظة بالأرشيف العام لجامعة بنبلونة، بالإضافة إلى وثائق أخرى من الأرشيف التاريخي الإقليمي لمالقة.
” ضاعت اللهجة الأندلسية الخاصة بموريسكيي بلنسية مع عملية الطرد. مما دفعنا لاستنتاج معنى القصائد و بنيتها من الوثائق ذاتها.” تُصرح “آنا لبارتا”.
إن جُلّ الكتابات المعروفة عن موريسكيي بلنسية حتى الآن هي عبارة عن رسائل، وصفات طبية، شروحات تجارية أو تفسيرات متعلقة بالمحاسبة وغيرها. يهدف هذا البحث المُستجد إحياء التراث الثقافي الخاص بالموريسكيين الذين عاشوا في بلنسية القرن السادس عشر.
يعتبر بحث الأستاذتين الجامعيتين على قدر من الأهمية و ذلك لاهتمامه بدراسة الماضي الموريسكي في بلنسية. فمن بين كل أراضي شبه الجزيرة الايبيرية، سجلت الإحصائيات تواجد أعلى نسبة من الموريسكيين في هذه المملكة. ومع قرار الطرد، أبحر إلى شمال افريقيا ما بين 120.000 و 130.000 موريسكي من ساكنيها الذين يبلغ تعدادهم حوالي 400.000 موريسكي. لقي آلاف الموريسكيين حتفهم في المواجهات التي سبقت عملية الطرد في عدة معارك نذكر من بينها : معركة إسبدان، كبايو بيردي، و مويلا دي كورتيس. كما تعرض الموريسكيون للقتل خلال تنقلهم في القوافل الطويلة المتجهة نحو موانئ الابحار. و في حالات أخرى استطاعوا الرحيل نحو منفاهم الأخير و لكن دون أطفالهم الذين تعرضوا للاختطاف (2).
بعد اكتشاف النصوص، واجهت الباحثتان صعوبة نسخها. من الواضح أن القصائد قد كُتِبَت في الكثير من الحالات عن طريق الإملاء، وِ بكلمات مُتَصِلة خَطِيًّا ببعضها البعض. تؤيد الباحثتان “آنا لبارتا” و “كارمن بارثيلو” فرضية أن القصائد المُكتشفة عبارة عن مُؤَلفات موسيقية نُظِمَت لتُؤدَّى بشكل علني. يتعلق الأمر بمؤلَّفات متأخرة، معظمها لم يُنشر من قبل. حُفِظت القصائد على الأرجح على مر السنين كمخطوطات عربية ذات موضوع شعري أو كقصائد مُدوَنة بالعربية على أوراق فردية مستقلة، خُزِنت بالصدفة و بشكل عرضي بين وثائق أخرى.
حدث فرار الموريسكيين من منطقة كالوسا دن سارايا البَلَنسية في مُؤَلَّف
نُشِرَ بحث أستاذتي جامعة بلنسية سنة 2016 تحت عنوان “كتاب أغاني موريسكية”. يتكون المؤلَّف من مجموعة شعرية مُنقطعة النظير و فريدة في بابها على مستوى الأدب العربي العامي الشعبي بشكل عام.
تتنوع مواضيع هذه القصائد ما بين الدين و الحب و الأساطير و مغامرات شخصيات الإسلام الأولى و قصص الأنبياء المذكورة في الكتاب المقدس، نذكر من بينها قصة محاورة عيسى للجمجمة (3) . كما تروي بعض القصائد المُسْهَبَة أحداثا معاصرة، كاستيلاء الأتراك على رودس (1522)، و حصار شارل الخامس للجزائر (1541) ، بينما تنتقد أخرى سلوكيات السلطات المسيحية ، الكنيسة و محاكم التفتيش.
تغنَّت الساكنة الموريسكية البلنسية بحدث فرار الموريسكيين من منطقة “كالوسا دن سارايا” سنة 1580. يتعلق الأمر بعملية هروب من بعض المناطق البلَنسِيَّة ألا و هي : ” الغار”، “كالوسا” و “بولولا”. تمكن الموريسكيون من الفرار دفعة واحدة بمساعدة حاكم الجزائر الذي أرسى 23 سفينة في لاس بينياس ديل ألبير (اليوم سييربا خيلادا) بمساعدة 1.800 شخص، بهدف تهريب كل الموريسكيين من كالوسا؛ بينما اكتفى المسيحيون القدامى بالدفاع عن القلعة ( 4).
من بين القصائد المُكتشفة، تروي القصيدة رقم 13 من مُؤَلَّف “كتاب أغاني موريسكية” الحدث كما يلي:
” أما بعد،/ أيها الحُضَّار!/ اسْمَعُوا وَعُوا !/ تعالوا و اسمعوا!/ مقطوعة جمالٍ جللِ، بعد اليوم لن تنجلي ! : / قصة “كالوسا”، “بولولا” و “الغار” / أيها الحضور!/ أيها الحُضَّار!/ لقد كان يوم ثلاثاء،/ قُبيلَ الظهيرة بساعتين،/ هلَّ مسلمون من البحر علينا / نحو كالوسا مُتَّجِهينا …/ تقدَمَ “الرايس”، فكان من القائلينا:/ “أيها الكرام!/ لقد أتيتكم اليوم/ لأحملكم لأرض الإسلام/ بكل الأسطول أتيتكم. / من أرض النصارى، سأخرجكم. / رجلا أو امرأة؟! لن أستثني أحدا منكم!/ جميعا.. بالتساوي، سأحملكم! (5).
يتعلق الأمر، حسب “كارمن بارثيلو” و “آنا لبارتا” : ” بحدث نال استحسان العامة. لقد كان الموريسكي منهكا من مُضَايَقَات السلطة المسيحية و إملاءاتها، مُتعبا من تهتك رجال الدين و الجوار”. سبق هذا الهروب عدة محاولات أخرى، نذكر من بينها، دائما حسب الباحثتين، ” المحاولة الأولى التي وقعت سنة 1579، حيث فر نحو شمال افريقيا، من “كالوسا” و “بولوب” أكثر من 40 شخصا”.
الباحثتان:
تُدَرِّسُ “كارمن برثيلو” و “آنا لبارتا” اللغة العربية بجامعة بلنسية، كلية فقه اللغة و الترجمة و التواصل. قبل اللحاق بجامعة بلنسية سنة 1995، درَّسَت لبارتا بجامعة برشلونة، سرقسطة و قرطبة. بينما مارست كارمن بارثيلو معظم نشاطها الأكاديمي بجامعة بلنسية، حيث عُيِنَت كأول عميد للكلية.
تتخصص الباحثتان في دراسة العامية الأندلسية. و قد كرستا أكثر من 40 سنة لدراسة اللغة، التاريخ، الثقافة، الأعلاَميات (دراسة أسماء الأعلام)، و الانتاجات الكتابية و الأدبية الخاصة بمسلمي بلنسية، سواء منذ بدايات القرن الثامن إلى غاية طردهم سنة 1609 بشكل عام، أو ما بين القرنين الخامس عشر و السادس عشر بشكل خاص.
نَشرَت الباحثتان عدة كتب و مئات المقالات، بشكل فردي أو مشترك. من بين الدراسات التي ارتكزت على وثائق عربية الأرشيف، نذكر على سبيل المثال: “أقليات مسلمة في إقليم بلنسية” (1984) ل”كارمن برثيلو” ، “دراسة أسماء أعلام المورسكيين في بلنسية” (1987) ل “آنا لبارتا” ؛ “أرشيفات موريسكية” (2009) الذي نُشِرَ بتعاون بين الباحثتين و “بلنسية العربية في النثر و الشعر” (2011).
الموريسكيون في بلنسية:
في بلنسية القرن السادس عشر، عاشت معظم الساكنة الموريسكية في المناطق الجبلية، بعيدا عن مراكز السلطة. أما في المدن الرئيسية لمملكة بلنسية : كشاطبة، بلنسية، غانديا، دانية و أُورِيُولَة، فلقد عاش الموريسكيون في حالة عزلة بالضواحي. عند حدوث عملية الطرد، كانت الأغلبية الموريسكية تقطن المحور الذي يمثل اليوم المناطق الواقعة ما بين “لاريبيرا ألتا” بالشمال و “لامارينا باخا” بالجنوب. و هي أراض ظلت عمليا فارغة بعد عملية الطرد. كما تجدر الإشارة أيضا لمركز آخر على قدر من الأهمية ألا و هو نواحي “سييرا دي اسبادان”.
………………………………………………….
هوامش المُترجِم:
(1)مارست السلطات الكاثوليكية ومحاكم التفتيش ضغطًا على المسلمين للتخلي عن الإسلام، واعتناق المسيحية، والتحدث بالقشتالية بدل العربية وغيرها من الانتهاكات التي تهدف إلى طمس الهوية الإسلامية الأندلسية؛ فَخُير المسلم سنة 1501 بين التحول للمسيحية أو الطرد والنفي خارج أرض الوطن. وفي ظل هذا القرار قرر هؤلاء «المسيحيون الجدد» ممارسة الإسلام خفية، ونصرة البقية الباقية من تراثهم، وثقافتهم، وهويتهم باللجوء لاستعمال لغة «الألخميادو» السرية (أو عجمية الأندلس)؛ وهي لغة رومانية قشتالية كُتبت بأحرف عربية. إلا أن هذه الوثائق تبرز أن الموريسكي تداول إلى جانب الألخميادو، العامية العربية الأندلسية.
تتجلى أهمية المخطوطات المكتشفة في كونها مخطوطات دُوِنت باللهجة الأندلسية. تعتبر اللهجة العربية الأندلسية، إحدى لهجات اللغة العربية المستخدمة في الأندلس. ورغم أنها منقرضة الآن، إلا أنها تستخدم أحيانًا في الطرب الأندلسي. حسب الدكتور محمد بن شريفة، كان لهذه اللهجة تأثيرا كبيرا في اللهجات المستخدمة في شمال غرب المغرب وسلا وغرب الجزائر. وكان لها تأثير آخر على لهجة المستعربين، واللغة الإسبانية، والقطلونية، والبرتغالية.
(2)يرى الدكتور علي بن المنتصر الكتاني في كتاب انبعاث الإسلام في الأندلس أن أمل الموريسكيين في الخروج بسلام من مملكة بلنسية لم يتحقق، إذ لم يرحمهم عدوهم، فصاحبت عمليات الطرد جرائم وفظائع لاتصور. فقد أمرتهم السلطات بحمل ما استطاعوا من أمتعتهم ، على ظهورهم. ثم تكونت في الطرقات عصابات، تسطوا عليهم وتجردهم مما يحملون من حلي ومال ويقتلون منهم من شاؤوا ، وشارك في النهب والسبي والقتل أفراد الجيش الذين يحرسونهم الذين شاركوا أيضا في عمليات الخطف التي تعرض لها الأطفال الموريسكيون.
(3)قدم الموريسكي في كتاباته أحيانا حججا دينية مقتبسة عن المسيحية. هاجم الخطاب الديني المسيحي. انتقد بعض المواضيع الجدلية (التثليث، شخصيتي مريم العذراء والمسيح، الكنيسة، البابوية، أسرار الكنيسة…) في أغلب الأحيان استنادًا إلى حجج مقتبسة عن المسيحية لا الإسلام. إنه لأمر قد يرد ضمن ما هو إيجابي إذا ما أخدنا بعين الاعتبار قدرة المورسكي على نقد المسيحية بحجج غير غريبة عن المجتمع الكاثوليكي ومن صلب عقيدته؛ للبرهنة للمورسكيين والنصارى على السواء أن الإسلام هو الدين الحق وأن النصرانية دين محرف خاطئ، وردا على سيل المنشورات والكتب الكنسية التي هاجمت بين الأوساط المورسكية الإسلام ومبادئه والقرآن الكريم وشخص النبي محمد..
ولكن يعتقد بعض الباحثين أن الأمر قد يعتبر مأساويا، خاصة إذا ما نظرنا للموضوع من زاوية أخرى، حيث دخل الموريسكي، بالنسبة لهؤلاء، مرحلة فقدان هوية فهو الآن عدو للمسيحية أكثر من كونه مسلما. من المؤكد أن تقديم الكُتاب الموريسكيون الممارسات الإسلامية أحيانا من منظور «المقارنة» مع ديانة أخرى لأمر مخالف لطريقة العرض التقليدية المعتادة، ولكنه طرح يلائم واقع الموريسكي الذي تحمل حصص الوعظ الكنسي والممارسات المسيحية المعارضة لتعاليم الإسلام.
(4)في مقاله “تضامن الجزائر مع مسلمي الأندلس أيام المحنة الكبرى 1492-1640 “يرى الأستاذ. الصادق دهاش أن الجزائر تمكنت في الفترة الممتدة ما بين سنتي 1528 و1584م من شنّ ثلاثة وثلاثين غارة بحرية ناجعة على السواحل الإسبانية، أنقذوا خلالها كثيرا من الأندلسيين.
(5)في ظل عدم حيازتنا للقصيدة الأصلية التي دُونت بالعربية العامية الأندلسية، نكتفي بترجمتها عن الإسبانية للعربية الفصحى