قِراءةٌ في كتَاب “الرّياضَة فِي الإسْلام”
تألِيف الفَقِيه أبُو عبد الله مُحمّد بن أحمَد الكانُوني (1357-1310هـ، 1893- 1938م)
بقلم : عبد العزيز الإدريسي
الملخص:
لا شكّ أن الرياضة من أهم الأنشِطة الإنسَانيـة التي يقُوم بها الإنسَان في حيَاته، بشكْل فردِي أو جمَاعي، بانتظام أو تقطُّع، بالاختيار أو الاضطِرار، بشكل احترافي أو هوية، ولذَلك لا يكاد تخلُو حضَارة من الحضارات أو ثقَافة من الثّقافات من المظَاهر الرّياضية بغض النظَر عن دوافعها ومرجعياتها، أو عن تقدم ذلك المجتمع وقوته، أو تخلفه وضعفه.
أما اليَوم وفي عصرنا الحَالي فقد تحولت الرّياضة إلى علم وصنَاعة، وفن وتجَارة، وسياسة واستراتيجية، وهي دليل على تقدم الأمم ورقيها، والمتَابع للبطولات الرّياضية والمسابقَات المتنوعة يندهش من المستَوى العالي الذِي وصلت إليه بعض الأمم والدّول، فضلا عن تنوع الرّياضات وتوالدها بحسب الفئَات والتخصُّصات والمجالات والفصول والتضاريس…
بل أصبحتْ الرّياضة مادةً دراسية “التربِية البدينة” ضمن المناهِج والبَرامج الدراسيَّة في أغلب المنظومات التربوية والتعليمية في العالم، بل خُصصت لها مدارس ومراكز ومعاهد لتخريج الأبطال والمنتخبات القوية.
في هذا السيّاق يأتي تقديم ومراجعة هذا الكتاب “الرّياضَة في الإسْلام” لبيان حكم الرياضة في الإسلام، وأهميتها في المحافظة على الكليات الخمس(الدين-النفس-العقل-العرض-المال)، وضمان سلامة كينونة الإنسان، بالإضافة إلى ذكر بعض وظائفها الصحية وفوائدها الاجتماعية، وعلاقتها بالشعائر الإسلامية؛ وبالنظر إلى خلفية المؤلف الفِقهية والنقلية فقد أكد العلّامة الكانوني رحمه الله على مركزية الرياضة والممارسة الرياضية من خلال تتبع الآثار النبوية الشريفة وأحداث السيرة العطرة، وكان موفقا إلى حدٍّ كبير في بيان الكثير من الجوانب التي خَفيت على الكثير من المسلِمين، وأماط اللثَام عن نماذج من الصّحابة والتابعين وعلى رأسهم الخلفاء الراشدين الذي اقتدوا بالنبي عليه الصّلاة والسّلام، وكان الحضُّ والدعوة إلى وجوب وضرورة تعليم الآباء للأبناء أنواع الرياضات البدنية التي تسهم في بناء شخصيته البدنية والعقلية والروحية، مشيراً أيضا إلى اقتداء الخلفاء رضوان الله عليهم بالجَناب الشريف في الحضّ على تعلّم أنواع الرياضات البدنية وتعليمها للأولاد، بل إن رأي الفقيه الكانوني رحمه الله استقر على وجوب الرياضة انطلاقا من القاعدة الأصولية :ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، والقاعدة المقاصدية للوسائل حكم المقاصد.
ولأن مؤلِّف هذا الكتاب عالمٌ مغمور عند الكثِير من المسلِمين، رغم عبقريته وكثافة إنتاجه العلمي والمعرفي، ودوره الطلائعي في مقاومة الإستعمار الفرنسي بالمغرب الأقصى، فقد حرص هذا المقال على تقديم تعريف مقتضب به، نشأة وعصرا وسياقا، بالإضافة تقديم مسرد لأهم مؤلفاته، وكذلك بيان ظروف استشهاد في سن دون الخامسة والأربعين، فقد توفي الفقيه الكانوني رحمه الله تعالى سنة1938م.
تمهيد:
يأتي هذَا المكتُوب في سِياق التّفاعل التَّحديات المعاصِرة التي تواجهُ الفِكر الإسلامي، والانفتاح على قضايا التجديد في الفكر الإسلامي ومجالاته، ومن بين قضاياه الحيوية ومجالاته الرّاهنة التي لا يلتفت إليها إلا لِماما، نجد المجال الرياضي أو التربية البدنية، التي تكاد تكون من نافلة القَول.
ونظرًا لكَوني من المنشغلين بقضايا الفكر والإصلَاح، والمهتَمين بالشّأن التربوي والعِلمي من مُنطلق البحث والمدَارسة، والتّنزيل والممَارسة، تأكد لي أن الاهتمام بالقَضية الرِّياضية يحتاج إلى خبرات علمية ومهارات عملية و أدوات معرفِية وفكرية ومنهجية قلَّما تجدُها في الباحثين والمهتمين، لذلك ارتأيتُ أن أشَارك بقِراءة ومرَاجعة كتَاب «الريَاضة في الإسْلام»[1] لأحد عُلماء المغرب الأقصى الأفذَاذ في القَرن العشرين.
عُموما هذا العالِم وفكره، لم يلقَ حقه من العِناية والاهتمَام، حتى قال الشّيخ عبد الله كنُون الحسني في رثَائه لهُ رحمهما الله تعالى: “وهكذا لا نزَال ينطبِق علينا القولُ بأنَّا أمة تُهمل نُبغاءَها في حياتِهم، وتوسِّدهم تراب النِّسيان بعد وفَاتهم، فإلى الله المشتكى من هذِه الحال!”[2].
وهذه القراءة تتَضمن التَّعريف بالمؤلِّف والمؤَلَّف، والتي تهدف إلى ابرَاز مكانةَ هذا العالِم المغمُور الذي ألَّفَ عشَرات الكُتب والرَّسائل لما تزل أغلبها مخطُوطة تنتظر من يخرجها ويبعثها إلى عالم الكتب والأحياء[3]، وحتى المطبوع منها يحتَاج إلى عمَل علْمي ومنهَجي وفني لإخراجه في أحسَن تَقويم، وفي الوَقت نفسِه تُعَرِّف بهذا الكِتاب النفيس الذي يعتبر من أهم الكُتب -على صِغر حجمه- التي تبين حُكم الرّياضة في الإسلام، ووظائفها وأقاتها، مكناتها وأنواعها، آثارها ومقاصدها، وبعض النّماذج من سيرة الحبيب ﷺ، وسير الصَّحب الكرام والأئمة الأعلام، وأقْوالِ فلاسفَة التَّشريع فِي الإسْلَام، وَعَلَاقة الرّياضَة بالنُّسك والشعَائر الإسلَامية، وعلاقة الرّياضة بالقِيم والأخْلَاق، وضرورة ترغِيب الصبيان وتدريبهم على بعض أنواع الريَاضات.
أولا: من هو الفقيه الكَانُوني العَبْدي
1: النَّسبُ والنَّشأة
هو الفقِيه العلَّامة ، المؤَرخ البَحّاثة، الكَاتِب الفَهّامة،والمصلِح الوطنيُّ ،الشَّاب الألمعيُّ، الخَطِيبُ المفْتِي، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الزيدي الجحشي الكانوني[4] العبدي الآسفي، المعروف بالفقيه ابن عائشة[5] أو الفقيه بولحية[6]، ولد برباط أبي زكرياء بأولاد زيد[7] على بعد سبعين (70) كيلومترا شرق مدينة آسفي[8] ، من حواضر المغرب الأقصى، المملكة المغربية، عام 1310 هـ، الموافق لسنة 1893 م.
تربَّى في حِجر أمه عائشة بنت محمد بن علي الزياني بعد أن سُجن والده من طرف القائد عيسى بن عمر العَبدي، وهو في السَّنة الثالثة من عمره، وبعد أن تزوجتْ والدته، كفلته جدته لأمّه وهو ابن ثمان سنوات حيث بقي معها إلى أن عقل.
وعلى عادة الأسَر المغربِية ،دفعت الجدة حفيدها في ظل تلك الظّروف العصيبة التي عاشَها، إلى مسَالك العِلم والتَّعلم ، والتَّربية والتكوِين، فحفظ القرآن المجيد على عدد من المشايخ ، كان من بينهم عمُّه الطالب سيدي محمد نزيل غربية دكالة، ثم انتقل بعد ذلك إلى مدينة سَلا عند والدته حيث قرأ بها على الأستاذ البركة السيد أحمد الخلطي بدرب الصُّوف، وغيره منَ العلماء، حيث أتمَّ حفظَ القرآن الكريم في تسع ختَمَات، منها خَتمة بقراءة نافع والمكي، ثم قرأ بعد ذلك مجمُوعة من المتُون العلميَّة منها: الأجرومية، والألفية، والمرشد المعين، والتحفة و مختصر الشَّيخ خليل، وغيرها من أمهات العلوم نظمًا ونثرًا.
وللشيخ الفقيه الكانوني رحلات علمية عديدة، إلى مدن فاس والرباط، والبيضاء، ثم مراكش حيث توج هذه الرحلة الأخيرة بمؤلف خاص سماه: “المحاسن الفاشية في الرحلة المراكشية”، وقد عرفت هذه الرحلات مجموعة من العراقيل والمثبطات من طرف الاستعمار، أو أذانبه، أو من طرف بعض العوام الذين حاولوا ثني الفقيه الكانوني عن القيام برحلاته طلبا للعلم وتفقها في الدين.
2: النُّبوغ العِلمي للكانوني
إن تعَدد شيُوخ الفقيه الكانوني العبدي الآسفي، وتنَوع رحلاته في طلَب العلم، جعلت عطاءه المعرفي متنوعا وزَاخرا، علما بأنه جمَع بين التأليف والتَّدريس والخطابَة والمواعظ بالمسَاجد، والمدَارس الحُرّة التي كان يلقي فيها محاضراته، تصديا للتَّعليم والاستعمَار الفرنسيين، وفي هذا الصدد يمكن نورد عناوين بعض المؤلفات التي تُظهر مقاربته للكثير من القضايا الشرعية والتاريخية والاجتماعية والسياسية والفقهية والأدبية و…
وقد جمع الأستاذ محمد السعيدي الرجراجي في كتابه: “الفقيه محمد بن أحمد العبدي الكانوني حياته وفكره ومؤلفاته” كل عناوين مؤلفاته تقريبا، وأغلبها مخطوط وبعضها مطبوع، والآخر مفقُود،
نجوم المهتدين في طبقات المجتهدين[9].
تاريخ الطب العربي في دول المغرب الأقصى وهو في جزأين[10]
جواهر الكمال في تراجم الرجال (الجزء الأول والجزء الثاني)[11].
الجواهر الصافية في تاريخ الديار الآسفية[12].
البدر اللائح والمتجر الرابح في آثار أبي محمد صالح[13].
عائق أسفي ومنطقتها بملوك المغرب[14]
طرفة الأدباء بدليل المنع من أرض الطاعون والوباء. (الحجر الصحي)[15]
تطهير الأحاديث النبوية المرفوعة من الأحاديث الباطلة الموضوعة. (مخطوط)
كشف الغطا والبلوى من حديث دخول عبد الرحمان بن عوف الجنة حبوا (مخطوط)
الكشف المعرب عن أسماء الصحابة الذين دخلوا المغرب (مخطوط)
الكوكب الضاوي بدليل طهارة العطر الأوروباوي. (مخطوط)
الإشادة والإعلان ببطلان صلاة أربع ركعات في آخر جمعة من رمضان. (مخطوط)
الكواكب المتناثرة في الأحاديث المتواترة. (مخطوط)
إتحاف الخلان بحديث ابن التيهان. (مخطوط)
إرشاد اللبيب إلى عدم الاستهزاء بالخطيب. (مخطوط)
المصباح المنير على الجامع الصغير. (مخطوط)
الجامع الحاوي للنوازل والفتاوي. (مخطوط)
الجواهر والدرر في طلب اللطف بما جرى به القضاء والقدر. (مخطوط)
ينبوع الدر الثمين من تفسير آية ﴿إنما الصدقات للفقراء والمساكين﴾.(مخطوط)
برهان الأذواق في نقض فتيحة الحذَّاق. (مخطوط)
توضيح السبيل فيما ورد في السنة من التقبيل. (مخطوط)
الدرر المتناثرة من الأحاديث المتواترة. (مخطوط)
إتحاف الخلان بفوائد حديث ابن التيهان. (مخطوط)
الهداية والإرشاد إلى معالم الإسناد. (مخطوط)
المصباح المنير على الجامع الصغير. (مخطوط)
آداب الإسلام في غسل اليد قبل الطعام. (مخطوط)
نزهة الأحداق في وجوب زكاة الأوراق. (مخطوط)
الياقوت الوهاجة في مفاخر رجراجة. (مخطوط)
تنوير بصائر الأبرار بتاريخ زاوية تيط وآل أمغار.
المرأة المغربية، وقد ترجم فيها لنحو مائتي امرأة مغربية، والمسمى أيضا شهيرات نساء المغرب، (مخطوط)
الخطابة والوعظ بين الأمس واليوم. (مخطوط)
بيوتات آسفي ونواحيه. (مخطوط)
إرشاد اللبيب إلى عدم الاستهزاء بالخطيب. (مخطوط)
نصرة أهل الإيمان بوجوب الجمعة إذا توفرت الشروط والأركان.
في سبيل قيام الفرد بالواجب.
برهان ذوي الأذواق على نقض نتيجة الحذَّاق (منظومة رجزية).
آسفي وما إليه قديما وحديثا (مطبوع).
المحاسن الفاشية بفوائد الرحلة المراكشية. (مخطوط)
المنهج الأقوم في تأويل حديث عليكم بالسواد الأعظم. (مخطوط)
الفلك المشحون في أسماء الكتب والفنون (عبارة عن بيبلوغرافيا). (مخطوط)
الرياضة في الإسلام (مطبوع).
هذا الأخير هو الكتاب الذي نشْتغل علَيه في هذَا المقَال عرضًا وتقْرِيبًا، تعريفا وتحليلا.
3: استشهَاده على يَد المستَعمر الفرنسِي:
كان الفقيه الكانوني العبدي الآسفي عَالما عامِلا، فقيها مجتهدا، رافضا للجُمود والتّخلف، مفكرا مقاومًا للاستعمار الفرنسي، ومناهضا لتواجده في بلَاد المغرب، من منطلق العمَل الوطني الذي يستند إلى المرجعية القرآنية الرّافضة للظلم والافساد والاستبداد، ولذلك كان دوره طلائعيا في التوعية والتحسيس بخطورة الإستعمار، وضرورة مقاومته فكان يجوب القرى والمدَائن، البَوادي والمداشر معلما وموجها، حاملا لواء الوطنية الصادقة في مقاومة خُطط الاستعمار الخبيثة، إلى جانب العَشرات من العلماء الوَطنيين، وقد خصص الأستاذ الباحث سَعيد البهالي فصْلا من كتَاب له، تحْت عُنوان: “مؤرخ أسفي الفقيه الكانوني ودوره في مواجهة الاستعمار وإثبات الهُوية الوُطنيَّة”[16]، الأمر الذي جعله هدفا دائما للاستعمار.
وقد اختلفتْ الروايات في وفاة الفقيه الكانوني، غير أن الرواية الراجحَة، أنه اسْتشهد بمكيدة مدبرة من طرف المستعمر الفرنسي، لأنه كان مقاوما للاستعمار مناهضا لتواجده بالقول والفعل والقلم، وهذه الرواية الراجحة القوية نُقلت عن ولده الحاج محمد التي يقول فيها: “كنتُ صغيرا أجلِس بجَانب أبي حينما دخَل عليه مُمرضان، شرعا في إزالة ثِيابه عن ظهْره، لحَقنه بإبَر تشبه قناني صغيرة، وفي أثنَاء العملية بدءا يُحركانه وينَاديان الفَقيه، الفقيه لقد مَات وفرَّا ن وترك أحدهما فردة من حذائه”[17].
ورغم استشهاده رحمه الله في سِن مبكر حوالي 45سنة، إلا أنه تَرك رصيدًا معرفيا ضخْما وكنزا علمِيًّا نادرَا، من المؤلفات والمخطوطات والتَّقايِيد والدفاتر، جعَلته قِبلة للبَاحثين والدّارسين والمهتَمين.
ثانيا: كتاب “الرّياضة في الإسْلام”
الكِتابُ الذي بينَ أيدينا عنوانه هو “الرّياضة في الإسلَام” من منشورات مجموعة أسيف الإعلامية، ونشر الأستاذ سعيد الجدياني، الطبعة الأولى أكتوبر 2010، ويقع 63 ورقة، ويتضمن قضَايا فِقهية وأصُولية واجتِماعية وثقَافِية وتَوجِيهيَّة وحضَارية.
وعمومًا فالكتاب رغْم صِغَر حجْمه إلا أنه عظيمُ في فائدَته وسابق لعصره وزمَانه، دلَّ على ذلك ما تضمه من رُؤى وأفكار وأمثِلة حول الرياضة في الإسلام، في زمن كَان أغلب العلماء والمفكرين والمثقفين، منشغلين بمقاومة الإستعمَار، وقلةٌ من العلماء والمفكرين والمثقفين التي تصدت للتأليف في هذه الجوَانب المنسية والخفية من الثَّقافة والحضَارة الإسلامية.
ولذلك نقول إن كتاب “الرّياضة في الإسلَام” للفقيه الكَانوني بالنظر إلى السِّياق التاريخي، من أهم المؤلفات التي قاربَت بشَكل مُستقل القَضية الرّياضية، بمنْهج تأصِيلي وبِأفُق استشْرافِي، وبرؤية إسْلامية شمولية مستَوعبة للتَّحولات التي كانت تعتمِل داخِل المجتَمع المغْربي خصوصا والعالم الإسلامي بشكل عام ، فالفَقيه الكَانوني العبدي- رحمه الله تعالى- يرى أنه :” بِناء على ما أصله علماء التَّشريع الإسلامي، من أن ما لا يتِم الواجِب به فهُو واجب، وأن الوَسيلَة تُعطى حكم المقْصِد، نجِد الأخْذ في أسبَاب حِفظ الصِّحة البَدنية بالرياضَات، من أعلى الواجبَات وأقدَس المقدسَات، لأنه ما مِنْ شيء مِنَ الواجبات الفَردية والاجتمَاعية الدُّنيوية، إلا وتجد القُوة البَدنية والقدرة العضوية شرطًا لوجوده أو كماله، وسببا طبيعيا في تحقِيق غالبه “[18]، لذلك نؤكد بأن هذا الكتاب من الكتب التأسيسية في المجال الرّياضي من منظُور إسلامي. وقد أشار عبد الحفيظ نيار [19] إلى أن الفقيه الكانوني الآسفي قارب المحَاور الآتية في كتاب ” الرياضة في الإسلام”،
حكم الرياضة في الإسلام؟
حكم تعليم الرياضة للأبناء؟
حكم ممارسة المرأة للرياضة والاختلاط فيها؟
حكم الألعاب الرياضية المختلفة؟
غير أن البَاحث نيار اشتَغَل في مقالِه هذا علَى استْجلاء معَالم الاستنبَاط الفِقهي والاستدلال الأصولي عند الفقيه الكانُوني من خلَال النَّقاط السَّالفة الذكر، وهذا الاشتغَال مهم وفي محله، ولكنه لم يظهر حقِيقة الكتَاب وأهميته، لأن الكِتاب يتضَن رُؤية حضَارية وأطروحة شرعية لقَضِية الرياضَة في الإسْلام، تنم عن استِيعاب عمِيق من طرَف الفَقيه الكانوني الآسَفي لحَقيقة الإسلام وتشريعاته، وإدْراك دقيق لمقَاصده وغاياته.
الرّياضة والمحَافظة على الكُليات الخَمس في الشَّريعة الإسلامية:
يخلُص الفقيه الكانوني من خلال استقرائه لتشريعات الإسلام ومقاصده أن حُكم الرّياضة في الإسْلام الوُجوب، لأنها تسهم بشَكل مباشر في الحِفاظ على الكليات الخمس وهي: الدين، والنفس، والنسل، والعقل والمال، ويؤسس هذا الحكم على قاعدتين كبيرتين وهما القَاعدة الأصولية:” ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”[20]، والقَاعدة المقَاصدية:” الوَسيلة تُعطى حكم المقصد”[21].
ولا يكتَفي الفقِيه الكانُوني بهذا الاسْتدلال، بل يُضيف رحمه الله تعالى مستنَدا قويا لرأيه واجتهاده حينما يربط ذلك بمسألة الاتِّسَاء والاقتدَاء بالرسُول صلى الله عليه وآله وسلم باعتباره محل الاقتدَاء للكمَال البَشَري، حيث يقول: ” لما كانَت الرياضة تُفيد العَامل بَسطة في الجسم وقوة في الأعصَاب والعَضَلات، جاء صاحبُ الشّريعة صلَوات الله عليه وسلامه بتَحقِيق حقِيقتِها وتعْبِيد طرِيقتها، فقَدْ صارَع وسَابق وسَبَح وفعل غير ذلك من أنوَاع الحَركات وضُروب الرِّياضات البَدنية والرُّوحية لأنها من الكمَالات الإنسَانية، والحَال أنه المظْهر الذِي تجلَّتْ فيه الكمَالات بأجلى مظَاهرها وأعلَى معَانِيها.”[22]، ويورد لذلك مثال لطيفا يتمثل في قصة مسابقة النبي عليه الصلاة والسلام لأمنا عائشة رضي الله عنها، ، فقد . رواها الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه، ولفظ الحديث عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر. قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني. فقال: “هذه بتلك السبقة”، وفي لفظ: سابقني النبي صلى الله عليه وسلم فسبقته، فلبثنا حتى إذا أرهقني اللحم، سابقني فسبقني. فقال: “هذه بتلك”[23].
إن هذه القصة اللطيفة والحادثة الخفيفة التي تكرر فيه فعل التسابق جريًا بين الحبيب عليه الصلاة والسلام و زوجه عائشة رضوان الله عليها، بالإضافة إلى ما تؤكد من سمو أخلاق النبي عليه السلام في علاقته بأهله، ملاعبة ولطفا وحسن معاشرة، ففهيا جواز المسابقة على الأقدام، بل دعوة إلى الممارسة الرياضية الأسرية، فتكرار الأمر تأكيد على أهميته في المحافظة على اللياقة البدينة و تجنب السمنة المفضية إلى الكسل والخمول، ذلك أن عائشة رضي الله عنها سبقت النبي عليه الصلاة والسلام في المرة الأولى؛ لكونها فتاة شابة خفيفة لم تحمل من اللحم ما يثقلها، ويمنعها من قوة الجري؛ فلهذا سبقته، فصبر لها صلى الله عليه وسلم، فلما كان بُعد المدة، وسنحت مناسبة أخرى سابقها عليه الصلاة والسلام، وكانت في هذه المرة قد حملت من اللحم-أضحت سمينة-، وسمنت وأرهقها اللحم ، بمعنى: أثقلها فسبقها في هذه المرة. فقال صلى الله عليه وسلم تطييبًا لخاطرها، وتحفيزا لها على الاستعداد لفرصة أخرى: “هذه بتلك”، يعني: هذه السبقة مني مقابل سبقتك الأولى لي.
إن الرّياضة في نظَر الفقِيه الكانُوني منهجٌ في الحيَاة، لأنها تروم المحَافظة على كينُونة الإنسَان وتحقيق سعَادته، وتقيه الأمراض والأسقام والأوجاع والأورام، ولذلك فهو يدعو إلى رياضة البدن والروح والنفس والعقل جميعا دون التفريط في أي واحدة منها، وهو الأمر نفسه الذي ذكره شيخ الأزهر:” ليس من شك أن سعَادة الإنسان معقودة بقوة جسمه وروحه، لأن الحياة مليئة بالآلام والآمال، ولا بد من اقتحَام الآلام والحصُول على الآمال، وضعيف الروح يقعد به ضعف الروح عن مصابرة الآلام كما يقعد به عن الوصول إلى الآمال، وكذلك ضعيف الجسم تخور قواه الجسِمية عن واصلة الحركة فيما يتوقف على الحركة”[24].
ولذلك كان الفقيه الكانوني يؤكد ويدعو إلى الانتظام فيها دون إفراط ولا تفريط، من خلال أنواع الرياضات المشتهرة وقتئذ كالمشي والعدو والمصارعة والسباق والسباحة وركوب الخيل ورمي النشاب وحمْل الأثقال و..، بل دعا الشّباب إلى مُواكبة التطور الرياضي الذي تعرفه الدول المتقدمة، والذي يُعتبر مظهر من مظاهر عِزِّها، وسببا من أسباب ازْدهَارها، حيث دعا الكانوني أهل بلده إلى:” أن يؤلفوا جمعيات رياضية تقُوم بهذا الواجب الأسمى، وليعلموا أن نبيهم وصاحب سعادتهم صلوات الله عليه وسلم قد سبق إلى تأسيس تلك الأصول ونظام تلك الفصول، فليقدموا به فإنه الأسوة الحسنى والقدوة الأسنى والنعمة العظمى والمنة الكبرى، وليؤلفوا جمعيات منظمة ومؤسسة على الأصول الصحية لتربى فيها أبناؤهم تربية صحية تورثهم نشاطا في القوة وصحة الأجسام كي يتسنى لهم بذلك العمل في معترك الحياة “[25]
مركزية الأسْرة في تعليم الأبناء أنواع الرياضات:
ما من شَك أن للأسرة مكانة عالية في الإسْلام، نظرا لما تضطلِع به من أدوَار مركزية في تحقيق الاستقرَار الاجتماعي والنُّهوض الحضاري، خصوصا ما يرتبط بضَمان التنشئة السَّوية للأبناء، ومن تمظهراتِ التنشئة السَّوية الحرص على السلامة الجسَدية والكمال البَدني للأبناء، ولذلك اعتبر النبي الأكرم صلوات الله عليه هذا القَضية من أوجب الواجبات، “وحضَّ الآباء على تربية أبنائهم عليها-السباحة- والتَّمرس بها في صغرهم لجنوا ثمرة نتائجها في كبرهم”[26] ، الأمر الذي دفع الصحابة إلى التَّنافس في تعلمها، واتقان مهاراتها ، ومما يروى أن الصحابي عبد الله بن الزبير رضي الله عنها طاف حَول البيت العتيق سابحًا عندما جاء سيل إلى البَلد الحَرام.
وفي هذا السياق يستحضر الفقيه الكانوني جملة من الآثار والأحاديث النبوية التي تحث وتدعو إلى تدريب الصبيان، ولنا في هذه الصورة التربوية المشرقة، التي يمارس فيها النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب التحفيزي النافع. فعن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصفّ عبد الله وعبيد الله، وكثيراً من بني العبّاس ثم يقول: «من سبَق إليّ فله كذا وكذا»، فيسْتَبقون إليه فيقعُون على ظهْره وصدره فيُقَبِّلهم ويلتَزِمهم”[27]–[28] .
إن في هذَا الحديث، وغيرُه كثير، النمُوذج الفرِيد للآباء والمربين في منهجية التَّحفيز على التَّدريب الرّياضي، والتّنافس الشَّريف، وإيجاد الجو المنَاسب لممارسَة بعض أنوَاع الرِّياضات، التي تُسهم لا محَالة في العِناية بالصِّحة الجسَدية، ولذلك كَان عليه الصَّلاة والسلام لا يمنع الحسن والحُسين من المصَارعة، بل يشجعهما على ذلك، فقَد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه:” كان الحَسن والحُسَين يصْطَرعان بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يقول هي حسين، فقالت فاطمة لم تقول هي حسين؟ فقال: إن جبريل يقول هي حسين”، وفي رواية لأبي جعفر قال:” اصطرع الحسن والحسين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هي حسن، فقالت فاطمة كأنه أحب إليك، فقَال: لا، ولكن جِبريل يقُول هي حسن”[29].
وعندما يتحدث عن السِّباحة خصوصا، والرّياضة عموما، لا يغفل الفَقيه الكَانوني عن أهميّة الأخلاق في مُمارسة وتعلم الرّياضات، فيحرص كلّ الحرص على بيَان أهمية الستر والالتزام بأحكام الشرع:” يجب على كل من يتعاطى رياضة السّباحة أن يستر عورته، أما ما اعتاده النّاس في مواطن السباحة من اختلاط الرّجال والنساء في السبَاحة وغيرها، فمما يتظَافر الشرع والعقل على منعه وسماجته”[30].
وفي الأثر أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كتب إلى أهل حمص أن: “علموا أولادكم السباحة والرماية والفروسية والاختفاء بين الأغراض،”. وهذا الأثر عن سيدنا عمر ينسجم مع رُوح الشريعة ومقاصدها الغراء، لأنه دعوة واضحة ومباشرة إلى امتلاك وسائل القوة المادية، وتربية الناشئة على القوة البدنية والتحمل الجسدي، من أجل تحقيق الاستطاعة والقدرة على أداء المهمات والعبادات، بالإضافة إلى قيامهم بواجب الدفاع عن حمى الدين والوطن والعرض، دون أن نغفل عن تحقيق الوظيفة الاستخلافية في اعمار الأرض وإصلاحها.
النُّسك الإسلامي والرّياضة:
في هذا المبحث تتجَلى عبقرية الفِقيه الكانوني، وقدرته على بيَان شمول الإسلام، يقول الكانوني في هذا الصدد: ” لا نذْهب بالقارئ شوطًا بعيدا في الاستدلال على كون أصُول الرّياضات جاءت عن النّبي العربي صلى الله عليه وسلم، فهَذه أركان الإسلام وأصوله السَّامية من صلاة وصوم وحج وغيرها بعد كونها عبادات رُوحية، بل أفضل العبادَات وأقدس المقدسَات وأجلّ الطاعَات، بعد ذلك تجدها انطوَت ضِمنيا على الرياضات البدنية، تالله أن من استغرَب ذلك فإنه قاصرُ الفَهم، جرَّ بقصور فهمه قصُورا على الدين الإسلامي بحصر أسرَاره في دائرة معينة، فما هذه الوظَائف الدينية إلا موائد فضل الله بين عباده فكما هي عبادات رُوحية قبل كل شيء فإن الأعضاء تنال منها حظّها من الوجهة الصحية ضمنا على قدر استعدادها وحَركتها”[31]،قلت: وهذا كلام نفيس لا يصدر إلا من جمع بين فقه الشريعة وممارسة الرياضة، وتذوق حلاوة الطاعة، وعبَّ من معين النبوة.,
هذه الأطروحة يبين حقيقتها ويفصل القول فيها من خلال حديثه عن أركانه الإسلام وتعاليمه، فيبدأ بعمود الدين وركنه المتين، حيث يقول:”…بل هي بمنزلة الرأس من الجسد، ولها أسرار عجيبة روحية قد بسطت في كتب الإسلام ودواوينه لكن يحسن كل الإحسان ألا ننسى أن في ضمن ذلك الرياضة البدينة وكسب القوة الجسمانية…”[32]،ويدعم اختياراته بأقوال لفَلاسفة التشريع الإسْلامي على حد وصفه، ليختم حديث عن الصلاة بقوله:” وبالجُملة فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البَدن والقَلب وقواهما ودفع المواد الرَّديئة ، وما ابتلي رَجلان بعَاهة أو بِدَاء أو بمحنة أو بَليَّة إلا كان حظُّ المصلي منهما أقل وعاقبتُه أسْلَم”[33]
بعد ذلك ينتقل الفقيه لحديثه عن عبادة الصَّوم باعتبار “كونه من الأسرار القُدسية والمواهِب الرُّوحية …تجد له في ضمن ذلك إفادة الجسم قُوة وصِحة ونَشاطا، وتهذيبا للنَّفس وكسرا لشهوتها الجَامحة، وترقية لروح الصائم حتى يكون ملكي النفس والروح، وقد جاء في صحِيح البخاري عن فَخْر الكائنات صلوات الله عليه وسلامه-