الحوار المتمدن و صراع البقاء والإرتقاء
بقلم: بشير شريف البرغوثي.
شكّل موقع “الحوار المتمدن ” منذ اطلاقته فضاء لتبادل الأفكار تميز بقسط وافر من الحرية التي جذبت كثيرا من الكتاب و المثقفين من مختلف المشارب الفكرية .
كانت الفكرة ريادية و عبقرية و كان لا بد لاستمرارها من إخلاص شديد من قبل مؤسسها الأستاذ عقراوي و من طاقمها المتطوعين , و كانت سقوف التوقعات عالية جدا – و لا تزال – حول ما يمكن لموقع الحوار المتمدن أن يضيفه إلى مسيرة التقدم و التمدن .
كنت واحدا مثلا ممن حلموا بإنشاء محطة فضائية مهنية في عملها و ملتزمة بقيمها العليا الأساسية في توسيع دوائر المعرفة و تكريس أسس الحوار الهادف , وكان هذا الأمل مسوغا تماما لكل من راقب سلسلة المحاورين المحترمين من قادة الرأي عبر الحوار المتمدن. معظم هؤلاء أثبتوا أنهم محاورون أكفاء لا تنقصهم التجربة في إدارة برامج كاملة كل في تخصصه .
لكن “الحوار المتمدن” ظل أسير ضآلة إمكانته المالية في كثير من النواحي اللازمة للتطور و التوسع النوعي , و هذا أمر مفهوم و من الصعب تخطيه في ظل الضوابط المسلكية التي انتهجها الموقع . يكفيه أنه ظل منبرا لم يخضع لتجاذبات البورصة الإعلامية .
و لكن المؤسف أيضا أنه لم يستطع مجاراة منابر اخرى أقل رصانة بكثير .
بين التنوير و الإبهار :
ضوابط عمل الحوار المتمدن الأخلاقية تحد من وتيرة توفير الإمكانات اللازمة للتطوير من ناحيتين :
* أولهما : أنه لا يعتمد الإثارة لا الجنسية و لا العاطفية … في وقت انفجرت فيه ثورة الإثارة بكل صنوفها و هيمنت على الإعلام و على مفردات الخطاب … و حتى في البرامج الحوارية في مختلف المواقع الإعلامية الأخرى سادت عدمية الجدل و المعاكسة بهدف التحريض و استثارة العواطف المثارة و المكبوتة التي انفلتت من كل عقال .
طبيعي أن يجد الفكر الرصين أن هامشه ضيق جدا وسط هذا الصخب سواء من حيث سيطرة الإحتكارات الإعلامية العالمية و هي رأسمالية التوجه و أمريكية الوجهة كما تبين الأرقام الخاصة بموازناتها الفلكية أو من حيث سيطرة الحكومات على وسائل الإعلام
الإعلام يقوم على الإنبهار و ليس على التنوير الهاديء , و هنا يبدو الحوار المتمدن وكأنه يسير عكس التيار السائد سياسيا و تجاريا و فكريا
* السبب الثاني : الحوار المتمدن قدم نفسه و لا يزال على أنه مؤسسة يسارية و لا تسعى إلى تحقيق نفع مالي . هذا الإلتزام جعل الحفاظ على استمرار عمل الموقع تحديا عملاقا , لماذا ؟
– لأن تفكك المنظومة الإشتراكية و ما كان لها من دور نشر عملاقة كدار التقدم و وكالات أنباء – سواء اتفقنا معها ام اختلفنا – قد ألقى عبئا مضاعفا على الحوار المتمدن لسد الفراغ و لإشباع حاجات المثقفين.
إن المعرفة لها سوقها ولها قواعد العرض و الطلب الخاصة بها . تقلص العرض بزوال مؤسسات اشتراكية كثيرة … و لكن االطلب تقلص أيضا بشكل كارثي … لأن قوى اليسار تشتتت في فج عميق و عقيم !
– و لأن اليساريين الأحقاق فقراء بالحال عادة … فقد صار كثير منهم يبحث عما يقيم أوده هنا و هناك أو٦ حتى يبحث عن فرص للثراء السريع كي يعوض ما حرمته سنوات النضال من متع الدنيا .
هنا بدا الحوار المتمدن و كأنه يسر عكس التيار أيضا .
عقدة التمويل الذاتي : لا يوجد كما أحسب أي قانون يمنع أية مؤسسة غير ذات هدف ربحي من تحقيق عوائد لتغطية التزاماتها و تطوير عملها و استئجار مقار لها , بل هناك قوانين تنظم هذه العملية .
و هناك كتاب كثيرون لديهم إنتاج معرفي لا يرجون منه عائدا ماليا … لكنهم لا يجدون الناشر المناسب أيضا … فما الذي يمنع أن تطرح مكتبة التمدن كتبهم للبيع … يمكن للكاتب ان يتبرع بحقوق الكتاب للحوار المتمدن أو أن يحصل على نسبة متواضعة يتم الإتفاق عليها .
لا يعني ذلك طبعا أن يحول الحوار المتمدن إلى ناشر بشكل كامل و لكن يمكن أن يقوم بهذه المهمة إما من موقع مكتبة التمدن أو حتى بإنشاء مؤسسة تابعة مختصة بالنشر .
لا ننسى هنا أن كثيرا من الكتاب سيفضلون الحوار المتمدن حتى على الأمازون لأسباب فكرية , فما بالك لو اعتمد الحوار المتمدن آلية تسمح بدعم الحرف العربي في النشر ؟
للموضوع جوانب كثيرة , و إنما قصدت بهذه العجالة طرح الفكرة من حيث المبدأ .