التقليح… وأزمة المجتمع الحقوقي
بقلم: بلال التليدي.
لست أدري لماذا تتعطل فعالية التفكير الحقوقي عندنا في القضايا التي تمس مجموع المجتمع، في الوقت الذي تتكثف المقاربة الحقوقية في قضايا هامشية، أو في أحسن الأحوال قضايا الأقلية.
في المجتمعات الأوروبية جرى نقاش حقوقي حيوي حول التلقيح من داء كورونا، يلتمس أكثر من تأصيل فكري، وأحيانا يتلبس برداء سياسي واضح، يكشف منسوب عدم الثقة في السياسة والنخب المؤثرة فيها.
يترجم هذا النقاش بتوتر كبير بين المستبشرين بقرب نهاية هذا العناء الطويل مع هذه الجائحة بفضل منتجات العلم الحديث، وبين شريحة واسعة من المشككين، الذين لايزالوا يرون أن وراء جائحة كورونا سياسة دولية، تقودها حفنة من التجار الكبار، التي تسيطر على مختبرات الدواء في العالم، أو أقلية سياسية متحكمة، تريد أن تستعمل تطور التكنولوجيا في التحكم في الإنسان وتوجيهه لصالحها.
وسط هذا التوتر، ينشأ نقاش حقوقي، يرفع شعار الخصوصية، أو شعار الحرية في رفض التطعيم، أو رفض إدخال منتوج طبي داخل الجسم، ليس هناك ثقة في مفاعليه أو خلفياته، ويترتب عنه نقاش آخر، بصبغة قانونية، يتعلق بحدود الإلزام الذي يمكن أن تمنحه السلطة التشريعية، للسلطة التنفيذية، لجعل المواطن تحت حالة الإجبار والإذعان؟
هذا النقاش حيوي في أوروبا، لأن البراديغم الفلسفي الذي قاد حداثتها انطلق من الفرد، ولذلك، سيبقى النقاش الحقوقي مستمرا، وممتدا في كل المساحات التي لها أثر في حياة الفرد، حتى ولو تعقدت المعادلة، وصار مصير وأمن الجماعة، مرتبطا بسلب الفرد لحقه في تلك الخصوصية.
في مجتمعنا، لا يطرح المشكل بهذه الصورة، فالفردية ليست النزعة الجامعة للمجتمع، وإنما يتحدد حق الفرد ضمن هويته الجماعية، أو للتدقيق، ضمن استقرار الاجتماع الإنساني، والصيغة التي تضبط إيقاع الفرد داخل المجتمع، يحددها الدين، والسياسة معا.
خطاب الدين، يعلي من الواجب، أكثر من الحق، بل يجعل الحق مجرد أثر من آثار القيام بالواجب، وتبعا لذلك، يكيف الدين النازلة، بارتباط المقصد بالوسيلة، وحيث إن سبب انتشار الجائحة يكون بالعدوى، وحيث إنه لم تتعين أي وسيلة للقضاء على العدوى إلا بالتطعيم، فإن الواجب الشرعي، يحتم تطعيم الكل، حتى ينجو الفرد، وتطعيم الفرد حتى ينجو الكل.
أما خطاب السياسة، فمضمونه مختلف، فحيث إن الدستور، ينيط حفظ الأمن والسهر عليه بالملك، باعتباره الممثل الأسمى للأمة، وحيث إن الأمن الصحي، جزءا لا يتجزأ من هذا الأمن، فقد تعين أن يكون الملك، هو صاحب سلطة الأمر في الموضوع، لأن القضية تتعلق بمصلحة الأمة وأمنها، وهي اختصاص ملكي حصري.
ينضاف إلى البعد الديني والسياسي، بعد رمزي، يتمثل في رمزية السلطة التي يحتكم إليها، في تحديد ما يلزم الفرد من أجل المجتمع.
يجتمع خطاب الدين، وخطاب السياسة في قضية أساسية، تبدد المستندات التي ينني عليها المشككون مطلبهم الحقوقي، وهي أن القرار الاستراتيجي، المرتبط بالتلقيح، يتم عبر الملك، الذي يجمع بين السلطة السياسية والسلطة الدينية، وأنه لهذا السبب بالذات، لا يستطيع أي صوت حقوقي، أن يتعالى بالشكل الذي يوجد في دول أوروبا، للمطالبة بالحق في عدم التلقيح.
ليس القصد من هذه القراءة تبرير ضعف النقاش الحقوقي، ولا التهجم على قدرة الحقوقيين على رفع سقف النقاش، إنما المقصود التنبيه لشيء مهم، هو أن المجتمع الحقوقي في المغرب، ضعيف من جهتين، من جهة فهم طبيعة التكوين المغربي، والمحددات الدينية والسياسية التي تصنع تمثله لمفهوم الحق، ومن جهة، فعاليته، وقدرته على صياغة المطلب الحقوقي من داخل التأسيس الثقافي.
ما يظهر هذه المفارقة، أن الخطاب الحقوقي في المغرب، يمتلك قوة في نقد السلطة، ويمتلك في الجهة المقابلة قوة في نقد التمثلات الدينية، لكنه، لا يملك أي قدرة على مجرد التفاعل، حينما تجتمع السلطة والتمثلات الدينية على أرضية واحدة، والسبب في ذلك، أن القدرة التي يمتلكها الخطاب الحقوقي في مواجهة السلطة أو مواجهة التمثلات الدينية، تكتسب من خلال التحالف مع أحدهما ضد الآخر، وهذه هي معضلة الحقوقيين، أنهم بدل أن يفهموا التكوين الثقافي والديني والاجتماعي، ويحددوا برنامجهم الحقوقي على قاعدته، فإنهم يناضلون على جبهتين منفصلتين، ولا يدرون أن ما يجعل معركتهم مستمرة ومبررة وحيوية، هو أنهم يتحالفون في كل جبهة مع جزء من الفاعلين الذين يصارعونهم في الجبهة الأخرى.