عشر سنوات على رحيله إدمون عمران المالح الكاتب اليهودي الذي اتُّهِم بمعاداة اليهود
بقلم عبد الرحيم الخصار.
بعد حياة شاسعة رحل الكاتب المغربي المعروف إدمون عمران المالح(94 سنة)، أحد ظواهر الأدب المغربي الحديث، فالرجل لم يصل إلى أرض الكتابة إلا في عامه الستين، حيث انتظر سنة 1980 ليصدر عمله الروائي الأول “المجرى الثابت”، و مع ذلك استطاع أن يحظى بلقب “الكاتب الكبير”، ذلك أنه تمكن من إبداع مجموعة من الروايات صُنفت ضمن أهم الأعمال الأدبية المغربية المكتوبة بالفرنسية.
كان واحدا من أكثر الكتّاب جرأة و شجاعة،على الأقل بالنسبة لوضعه الخاص، فهو اليهودي الذي يناصر القضية الفلسطينية و يرفض تهجير اليهود المغاربة إلى “إسرائيل”، مثلما يرفض توظيف الهولوكست لأغراض إيديولوجية، بل إنه ظل طوال حياته يردد مفهوم “اللوبي الصهيوني” في الوقت الذي انخرط فيه معظم مثقفينا في التطبيع “اللغوي”، و قد كانت مواقفه هاته سببا في رفض دار لوسوي الفرنسية نشر إحدى رواياته التي اتخذت من أحداث صبرا و شاتيلا موضوعا لها بدعوى أن الكتاب يحمل في طياته معاداة لليهود، ربما هذا ما سيدفعه للقول:”أنا أكتب بالفرنسية، لكن لغتي لا تشبه لغة الفرنسيين”.
ناضل المالح في شبابه من أجل استقلال المغرب، و التحق بالحزب الشيوعي و تعرض للاعتقال، و سيترك الحزب سنة 1959 نائيا بنفسه عن العمل السياسي المباشر، و سيسافر في الستينيات إلى فرنسا ليستقر بها أكثر من ثلاثة عقود، ليعود إلى المغرب مباشرة بعد وفاة الملك الحسن الثاني، الذي تلخصت علاقته به في كلمة واحدة هي “المعارضة”.
كانت آخر مواقفه منسجمة تماما مع روح البداية، ففي الندوة التي نظمها مؤخرا المعهد الفرنسي بالرباط صرح بأن حكاية المحرقة لا يجب أن تجعلنا نغض الطرف عما يقع في العالم من جرائم، مضيفا:( إن كلمة “لا شوا la shoah “هي كلمة قامت الصهيونية باستغلالها لأهداف سياسية وإديولوجية، وهو نفس الشيء الذي يقع الآن).
كما عبر في الفترة الأخيرة عن دعمه لنداء الشاعر عبد الطيف اللعبي بخصوص الإعلاء من قيمة الشأن الثقافي في المغرب، فالمالح كان يرى بأن ما يسود الساحة الثقافية هو غبار البهرجة و التسطيح، لذلك كان دائما يدعو إلى الانتصار للثقافة الحقيقية و جعلها عنصرا مؤثرا في المحيط. كما ظل ينتقد الكتّاب الذين يمجدون الفرنكوفونية و يعتبرونها سرّ تألقهم، مؤكدا أنه يكتب أدبا مغربيا لكن بلغة فرنسية، داعيا الى نبذ الصراعات الناجمة عن الاختيار اللغوي، و عدم تجاهل الأدب المغربي الأمازيغي و المكتوب بلغات أخرى كالهولندية و الاسبانبة.
سيشبه محمد برادة إدمون عمران المالح ببروست و جويس في تقديم الترجمة العربية لكتاب “المجرى الثابت” الذي يتخذ من مسألة الهوية و اللغة و تفاصيل حياته موضوعات أساسية له، ليس في كتابه الأول فقط، بل في مختلف مؤلفاته اللاحقة: “أيلان أو ليل الحكي” (1983)، “ألف عام بيوم واحد” (1986) “عودة أبو الحكي” (1990) “أبو النور (1995)”حقيبة سيدي معاشو” (1998) و”المقهى الأزرق: زريريق” (1998) و”كتاب الأم” (2004) وصولا إلى عمله الأخير “رسائل إلى نفسي”.
يحظى الراحل بمحبة كبيرة، ليس من لدن القراء و المثقفين فحسب، بل إن البسطاء من جيرانه و معارفه كانوا يلقبون”الحاج إدمون”، لذلك كان يقول :”في المغرب يحظى كبار السن باحترام خاص، عكس أوربا التي تحيل كبارها على دور العجزة، و أهم شيء في بلادي هو العلاقات الإنسانية التي تترفع عن الكثير من الشروط الاجتماعية”.
ولد المالح بمدينة آسفي الساحلية العريقة التي كان يحس دائما بأنه لا يزال مدينا لها، و بأن عليه يوما ما أن يرد هذا الدين، لكن أصول عائلته تمتد إلى مدينة الصويرة التاريخية و إلى منطقة آيت باعمران الأمازيغية المعروفة بتاريخها في مقاومة الاستعمار، عمل أستاذا للفلسفة في المغرب، و في منفاه الفرنسي كان يشتغل صحافيا بالقسم الثقافي لجريدة “لوموند”، و كان منذ طفولته مفتونا بالرسم، وسوف تترجم هذه الفتنة إلى مجموعة من الكتب التي ستقدم رؤيته الخاصة للفن التشكيلي، مثل “العين و اليد” و “رحلة الجير البحرية”.
دفن الراحل في المقبرة اليهودية بمدينة الصويرة بناءً على رغبته، المدينة التي كانت دروبها و منازلها العتيقة مسرحا لأحداث عدد من الرويات التي نبش من خلالها في تاريخ اليهود المغاربة، و دافع عبرها عن الهوية رافضا انسلاخ معظم الأسر اليهودية من أصولها المغربية و تهافتها على الأراضي التي تحتلها إسرائيل.
ويبقى المالح أحد أبرز الروائيين المغاربة الذين كتبوا بلغة موليير، و لا يضاهيه في التأثير و الحضور سوى قلة منهم لعل أبرزهم ادريس الشرايبي و محمد خير الدين، أما نظرته للكتابة فتبقى فريدة و خاصة، هو الذي قال:” عادة ما تنسج حول الكتابة الأساطير، وتنسج حول الكاتب هالة، فيما أن الأمر بسيط، فهو يكتب مثلما الآخرون يرسمون أو يغنون أو يبيعون الخضر”.