فرنسا: أزمة ضمير أخلاقي ؟
بقلم: بلال التليدي.
عن موقع : القدس العربي.
يعيش الفرنسيون هذه الأيام على إيقاع خيبة كبيرة من جراء تناقض الموقف الفرنسي إزاء قضية الحريات وحقوق الإنسان، إذ لا يفهمون بالمطلق كيف يصر الرئيس إيمانويل ماكرون على اصطفاف الدولة الفرنسية في خط الدفاع عن الرسوم المسيئة إلى النبي عليه السلام باسم دعم حرية التعبير، مع ما يمكن أن يتعرض له الاقتصاد الفرنسي من ضربات من جراء المقاطعة الاقتصادية للمنتوجات الفرنسية، في الوقت، الذي تتجه فيه إلى تبييض صورة نظام عبد الفتاح السيسي، وعدم اشتراط قضية حقوق الإنسان، لتجسير العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع مصر.
والحقيقة أن المشكلة لا تطرح من زاوية نظر مبدئية صرفة، أي ما يرتبط بموقف فرنسا من الحرية، وهل يقبل التجزئة ويقبل الخضوع لمعايير ازدواجية؟ أم تشكل الحرية وحقوق الإنسان محددا في صوغ مفردات السياسة الفرنسية؟ فهذا الارتباك يمكن حله بالتمييز بين السياسة الداخلية والسياسة الخارجية، وأن فرنسا تلتزم مبادئها الجمهورية في الداخل، وترعى مصلحتها القومية في الخارج.
كما لا تطرح المشكلة من زاوية التقدير المصلحي الذي تتميز به السياسة، ففرنسا لا يهمها في مصر وضعها الحقوقي والديمقراطي، إنما يهمها بدرجة أكبر مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وتقوية موقعها في إدارتها للصراع مع تركيا في شرق المتوسط، وذلك يقتضي غض الطرف عن الانتهاكات الحقوقية التي يقوم بها نظام عبد الفتاح السيسي، والتي تعدت المواطنين المصريين إلى مواطنين أجانب، ومنهم حاملو جنسية فرنسية.
المشكلة تطرح حينما يحصل التداخل بين الزاويتين: المبدئية والمصلحية، ففرنسا التي تدعم «حرية تعبير» تؤدي إلى تضرر اقتصادها من جراء المقاطعة، لا تتراجع بشكل كلي، وتلجأ إلى المناورة السياسية، بالتدخل لدى أنظمة الدول العربية والإسلامية، لتمارس سلطتها على اختيارات الجمهور، كي تسلبه حقه في التعبير عن موقفه اتجاه الإساءة الفرنسية للنبي صلى الله عليه وسلم. لكنها في المقابل، لا تقوم بأي شيء لتظهر في صورة الذي يرعى مصالحه دون أن يضر بصورة فرنسا موطن الحرية والداعمة لها. ففي سبيل علاقات اقتصادية أو سياسية أو عسكرية مع مصر، تنقلب مفردات السياسية الفرنسية، وتؤول إلى الرؤية المحافظة، التي تعطي الأسبقية للأمن على الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتنعطف لأطروحة دعم الأنظمة الأكثر استبدادية في الشرق الأوسط دون أي اكتراث لصوتها وسمعتها كبلد داعم للحرية.
فرنسا لا يهمها في مصر وضعها الحقوقي والديمقراطي، إنما يهمها بدرجة أكبر مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وتقوية موقعها في إدارتها للصراع مع تركيا.
يمكن لفرنسا (ماكرون) أن تُكَيِّفَ الموضوع، وتعتبر أن قضية دعم حرية الرسوم المسيئة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، هي قضية سياسية، وليست قضية حقوقية، وأن من ورائها قوة متطرفة، أو من ورائها تركيا التي تدير الصراع باقتدار مع فرنسا على أكثر من محور، ويمكن أن تستدل على ذلك بالجهد التي بذلته تركيا وحلفاؤها من أجل تفعيل المقاطعة الاقتصادية ضد فرنسا.
لكن، مع ذلك، لا يمكن أن ينجح هذا التكييف في إبعاد الطابع الحقوقي عن الموضوع، فالأمر لا يتعلق بمسلمي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أو مسلمي المناطق الأخرى، وإنما يتعلق أيضا بمواطنين فرنسيين يعتنقون الإسلام، بل يتعلق بديانة اعترفت بها فرنسا، وهي تحاول اليوم أن تؤطر حقلها بكل الوسائل حتى تضمن السيطرة عليها.
كما يمكن للبعض الآخر، أن يتعلل بالمصلحة القومية، وأن فرنسا من حقها أن تحافظ على مصالحها، وأن ترجح بين المبادئ والمصالح في تدبير علاقاتها، وتعتمد النهج البراغماتي الذي يحقق تمددها ويقوي مواقعها، لكن هذا المنطق لا يستقيم في حالة الإساءة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لاسيما إن تم النظر إلى تداعيات هذا الموقف على الاقتصاد الفرنسي وعلى مصالح المستثمرين الفرنسيين في البلدان العربية والإسلامية.
ثمة حالة من الخيبة يستشعرها المواطن الفرنسي وهو يتتبع سياسية إيمانويل ماكرون، التي مست بصورة فرنسا في علاقتها بموضوع الحرية وحقوق الإنسان، لكن، ما يجعله غير مهتم بها، أو غير مكترث بمفرداتها، هو قرب نهاية ولاية عهد كئيب عاشته فرنسا، تضررت فيها صورتها على كل المستويات، الحقوقية والسياسية والاستراتيجية أيضا. فقد خسرت إدارة الصراع الاستراتيجي مع تركيا في ثلاث معارك (ليبيا، وشرق المتوسط، وأذريبيجان) وخسرت في استثمار انفجار مرفأ لبنان، وخسرت جزءا كبيرا من صورتها في العالم العربي والإسلامي، وتكسر حلمها في مالي، وبدأت تخسر جزءا مهما من نفوذها في إفريقيا، وهي تخسر اليوم ما تبقى من رصيدها مع جزء مهم من مواطنيها بسبب المعتقد، كما فشلت في إدارة المعركة مع جائحة كورونا، فلا يكاد يسمع لفرنسا صوت في معركة البحث العلمي لإنتاج لقاء يساهم في تخليص العالم من جائحة كورونا، وتراجع رقمها العلمي بالمقارنة مع ألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين.
فإزاء هذه الموجات من الفشل والخيبات، لم تعد السياسة الفرنسية مهتمة بسؤال الضمير الأخلاقي، بل لم تعد منشغلة حتى بتبرير سوء الفهم الذي يمكن أن ينشأ من جراء إنتاج سياسات ملتبسة في علاقتها بالحرية وحقوق الإنسان، فما يهم في هذه المرحلة، هو تحقيق إنجاز ما، يتم التشبث به، للتغطية على مسار مكتمل من الخيبات. ولعل هذا بالضبط ما جعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يستقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي استقبالا أسطوريا، على طريقة الرؤساء الكبار، ويعلق بشكل علني على عدم مشروطية حقوق الإنسان في العلاقة التي تحكم البلدين، لأنه ما يهمه من هذه الزيارة، هي أن تتحدث وسائل الإعلام عن مخرجاتها، أي عن الصفقات الكبرى التي عقدتها فرنسا مع مصر في هذه الظرفية الدقيقة، التي تحتاج فيها فرنسا (الاقتصاد والدفاع) إلى انتعاشة، تبدد خيبة الأمل، التي رافقت السياسة الفرنسية طوال فترة إيمانويل ماكرون.
كاتب وباحث مغربي.