الشاعر “عزيز لعمارتي” شاعرٌ يحرِجُ شفتَيْ فَراشَة…
رشيدة باب الزين باريس
أحيّنُ سلسلتي القديمة لأقرأ لمزيدٍ من المبدعات و المبدعين الذين لم يأخذوا حقّهم منّي … و قد تجاوز عدد حلقاتها أكثر من المئتيْن . و تستحقون الأجمل .
***
يدلف الفاضل ” عزيز لعمارتي ” إلى عالم الشعر عبر بوابة قصيدة النثر ، يراوح فيها روحاً و ريْحانا ، مرّة برهانا و مرّة عرفانا ، لكنها في كل المنعطفات تبيح للسانها بيانا ، يمتطي عسر المخاض في توليفٍ شعري يذهب بالقصيد مذهب الكونية ، فلا تحس أيها القارئ في لطف تعبير الشاعر ” عزيز ” بشوفينية المكان و لا تحس فيه أيضا فيزيائية الزمان ، إن هو إلا إشراقٌ زئبقي يمدّ إليك يدا من حرير كي يصافح فيك بُؤَرَ الخلقِ الجميل و الذوق الجليل .
من هنا رأيت شعر شاعر يطير بجناحين من سديم ، يرسم في تحليق اللغة ، لغةً أخرى أكثر تحليقاً ، و يمدّنا بأسباب الضوء في ثنايا الظل كي ينتشلنا من بداهات و رتابات المقول إلى عنفوان المقول … قال الشاعر ” عزيز ” فيما قال و هو كثير و ثرّ :
كيف أنساك ..؟؟
أغتال القمر في سمائي
أذبح الصمت المقدس
في عينيك
أنكس أعلام الفرح
أعلن حداد القصيدة …
كيف أنساك ..؟؟
وأنسى أنني ولدت
من رحم البوح
الناشئ على شفتيك
من أسراب الفراشات
التي تغمر الكون
حين تقولين أحبك ..
…
وفي سيمياء البحث عن العلامة اللسنية المبطّنة بالإدهاش يعلن لنا الشاعر عن وحدة الوجود بين أقنومي ( الرجل و المرأة – الذكر و الأنثى ) اللذين تحدثت عنهما الكتب و الأساطير و الناس و البحوث و العلوم حديثا لا حدّ له في التقليب و التنقيب و العمق ، فما فازت في حديثها إلا باستشكالٍ أعمق في استيعاب هذه الطبيعة العلاقية بين هذين الموسومين بالسقوط من الأعلى . يأتي الشاعر مدثّرا بالعراء ليكشف في لحظة سمو أن هذه الموسومة بالآخر في ثقافة القطيعة و الغيرية ، ليست إلا تلكم الذات التي يرسم الشاعر حضورها بقوة ، و هي تمتلك عليه كل القوّة ، و تستبطن معه قوّة ثالثة هي لحظة التوحد بين عنصرين تبادلا منذ الأزل ثنائية ( الأنا و الآخر ) في بحث مضنٍ عن المعنى .
يمنح الشاعر ” عزيز ” لهذه اللحظة كل المعنى ، و هو يسرق من أعيننا تركيزنا العقلي عبر سؤال هو أقرب إلى الإقرار بشيءٍ في نفس يعقوب ( كيف أنساكِ ) . و الشاعر في عمق التحبير لا يفعل سوى أنه يدين فعل النسيان ، و يشجب الذاكرة التي تجرؤ على مخالفة انسياب لحظة العشق خارج الحضور . و السؤال في حد ذاته هو إدانة لفعل الغياب و لو على مستوى الافتراض .
تجيبنا العلامات السيميائية الأخرى أن افتراض هذا التغييب لقوة الأنثى هو استدرار لتداعيات لا قبل للذات المتكلمة بتحملها ، ذاك أن فعل النسيان هو اغتيال للقمر و ذبح للصمت المقدس ، و تنكيسٌ قاسٍ لاحتفالية الفرح ، و وأدٌ ساخر لميلاد الفراشات ، و حصر للانبثاق خارج الكونية … هكذا يختار الشاعر حقلا دلاليا متفردا في الجمال ، يشترك في انزياحات بلاغية قوامها صوغٌ لذيذ يقترب من النار و لا يرتمي في النار ، يغازل شغاف اللغة في توهجٍ رقيق ، يختار من المفردات ما يشفع لهذه الموصوفة بالوجود النقي القاهر في آنٍ و الرؤوم في آنٍ و الحادبِ في آنٍ و المتوجّس في آنٍ … في تمثُّلٍ إيجابي لحضور هذه الموسومة بالقوة الزئبقية ، الحاضرة دائما في نسغ هذا الكائن الموسوم بالرجل .
تعلن قصيدة النثر عند الشاعر ” عزيز ” أنها ذكية لا تُقرّب المعنى من سماع المتلقي بقدر ما تلقي به في أتون الدهشة الماكرة . و أشد المكر هنا هو الإعلان عن ميلاد الذات من رحم الشفتين ، في تركيب انزياحي بليغ و مورِّط و مفتوح على ممكن التأويل ، يقرأ كلمة ( الحب ) قراءة سرّية للغاية و مفضوحة للغاية . كيف ذلك ؟ القصيدة تجيب ، لكن حذار من الانزلاق وراء الأجوبة الباردة ، فنحن في عوالم الشعر نعوم مع المتكلم في مساحات شديدة الرحابة و الكونية ، لا في منطوق المعنى الضيق …
إلى هنا أقف ، و أقف احتراما لهذا الفاضل الراقي في تعبيره و المفعم بالاختلاف في تحبيره و هو يمنح قصيدة النثر بعدا آخر أكثر عماراً من دوائر الشبه و التكرار . و إلى لقاء آخر أقرأ فيه هذا العامر في قراءة أعمر .
ذ. الشاعر نور الدين حنيف