ڨيجاي پراشاد، ترجمة عبير،. موقع: حبر
في الخامس من آب(غشت) الحالي، استقلّت رئيسة وزراء بنغلاديش السابقة الشيخة حسينة واجد طائرة عسكرية، وهربت إلى الهند.
في وقت مبكر من ذلك اليوم كان وقر الزمان، والذي كان قد تولى قيادة الجيش قبل ستة أسابيع فقط، وتربطه بحسينة قرابة عائلية، قد أبلغ الشيخة أنه سيتولى مسؤولية إدارة الوضع الراهن، وأنه سيشكّل حكومة مؤقتة تمهّد لإجراء انتخابات مستقبلية.
الشيخة حسينة، هي صاحبة أطول فترة تولٍ لمنصب رئاسة الوزراء في تاريخ بنغلاديش، إذ تولت المنصب بين عامي 1996 و2001، ثم عادت للمنصب منذ عام 2009 إلى 2024. أي أنها حكمت البلاد لعشرين عامًا، على خلاف ما حصل مع والدها الشيخ مجيب الرحمن، الذي اغتيل عام 1975 بعد أن حكم لأربع سنوات فقط، أو ما حدث للجنرال ضياء الرحمن الذي اغتيل عام 1981 بعد ست سنوات من استلام السلطة. [ومع الإعلان عن رحيلها] اقتحم الآلاف من المتظاهرين الفرحين مقرّ رئاسة الوزراء ونهبوا كلّ ما عثروا عليه، في مشهد يذكّر بنهاية حكم ماهيندا راجاباكشا في سيريلانكا.
أخبرني تنظيم وهاب، المصور الفوتوغرافي وكبير أمناء مؤسسة البنغال: «عندما تقتحم [الحشود] القصر، وتفر بالبجعات الأليفة والأرائك الحمراء الفخمة، يمكنك أن تشعر بمستوى الغضب المتراكم للطبقة الدنيا على النظام الحاكم». عمّت الاحتفالات بنغلاديش، وشهدت البلاد سلسلة هجمات على المباني الحكومية، وكانت القنوات التلفزيونية الخاصة والمنازل الفخمة لوزراء الحكومة هدفًا مفضلًا للحرق المتعمد، وقُتل بالفعل العديد من القادة المحليين في حزب رابطة عوامي الذي تتزعمه الشيخة حسينة.
اليوم، لا زال الوضع في بنغلاديش ضبابيًا، ومع ذلك، فإنه يستقر بسرعة نحو صيغة مألوفة تتمثّل بتشكيل حكومة مؤقتة ستعقد انتخابات جديدة.
العنف السياسي في بنغلاديش ليس أمرًا استثنائيًا، فهو موجود منذ ميلاد الدولة عام 1971. في الحقيقة، أحد الأسباب التي دفعت الشيخة حسينة للتعامل بعنف مع أي انتقاد أو احتجاج، كان خوفها من تكرار العنف السياسي الذي اختبرته في شبابها. فوالدها مؤسس الدولة البنغالية الشيخ مجيب الرحمن (1920 – 1975)، اغتيل مع معظم أفراد أسرته عقب انقلاب. وقد نجت الشيخة حسينة مع شقيقتها آنذاك لأنهما كانتا وقت حدوث الانقلاب في ألمانيا. وقد هربت الشيخة حسينة صحبة الشقيقة نفسها إلى الهند. وكانت الشيخة حسينة تعرّضت لعدة محاولات اغتيال، بينها هجوم بقنبلة يدوية عام 2004، ما تسبّب لها بمشاكل في السمع. هذه المحاولات زادت من شعورها بالقلق تجاه أي معارضة ولذا طلبت من الجيش، قبل مغادرتها البلاد بخمسة وأربعين دقيقة، أن يستخدم العنف ضد الحشود مرة أخرى.
لكن الجيش كان قد قرأ المشهد واستشرف الأحداث؛ لقد حان وقت مغادرتها البلاد.
لا يمكن التنبؤ بالدور الذي قد يلعبه رحيل الشيخة حسينة في حسابات المنطقة إلا بعد إجراء الانتخابات، ولكن مما لا شك فيه أن هذه القرارات في دكا ليست بعيدة عمّا يشهده الإقليم والعالم.
اليوم، بدأ التنافس بالفعل حول من سيستفيد من إقالة الشيخة حسينة؛ فمن جهة هناك الطلاب، بقيادة اللجنة المركزية للانتفاضة الطلابية البنغالية، وقد عبّر عنهم بشكل واضح المتحدث باسمهم ناهد إسلام، قائلًا «إننا لن نقبل أية حكومة إلا التي أوصينا بها، ولن نخون دماء الشهداء التي سفكت من أجل قضيتنا، وسننشئ بنغلاديش ديمقراطية جديدة من خلال الالتزام بضمان الحق في الحياة وفرض العدالة الاجتماعية وخلق مشهد سياسي جديد». وعلى الطرف الآخر هناك المؤسسة العسكرية وقوى المعارضة السياسية، ومن ضمنها أحزاب المعارضة الرئيسية، وأبرزها حزب بنغلاديش الوطني، والأحزاب الإسلامية وأهمها الجماعة الإسلامية في بنغلاديش، والأحزاب اليسارية الجديدة. وبعد أن عقد الجيش اجتماعات مع أحزاب المعارضة، أجبره الغضب الشعبي الناجم عن تحييده للحركة الطلابية، على الاجتماع معها، والاستماع لمطالبها.
ثمة عادة سائدة في بنغلاديش تسمى «پولتي خَوا» وتعني «تغيير قميص الفريق في منتصف المباراة». يُتدَاول هذا الشعار اليوم في الخطاب الشعبي للفت الانتباه لمحاولة الجيش فرض تغيير في المظاهر بينما المطلوب تغيير شامل لقواعد اللعبة. وإدراكًا لهذه الحقيقة، قبلت المؤسسة العسكرية مطالب الطلاب بأن يرأس الحكومة الجديدة رجل الاقتصاد محمد يونس، الحائز الوحيد في بنغلاديش على جائزة نوبل. يُنظر ليونس، باعتباره مؤسس حركة القروض الصغيرة والمروّج لفكرة «الأعمال الاجتماعية» باعتباره ظاهرة في عالم المنظمات غير الحكومية النيوليبرالية. لقد شكل الانتقام السياسي المستمر منه من جانب حكومة حسينة على مدى العقد الماضي، وقراره التحدث باسم الحركة الطلابية، سببًا في تحويله لِحامٍ وأيقونة للمحتجين، رغم أن سياساته النيوليبرالية القائمة على التقشف قد تتعارض مع مطلبهم الرئيسي بتوفير فرص العمل.
الطلاب في قلب الحركة الاحتجاجية
حتى قبل الاستقلال، ورغم الطابع الريفي للمنطقة، كان مركز السياسة البنغالية في المناطق الحضرية، مع التركيز على العاصمة دكا. ورغم دخول قوىً أخرى على الساحة، يظلّ الطلاب فاعلين سياسيين مؤثرين في بنغلاديش.
كانت إحدى أولى الاحتجاجات في مرحلة ما بعد استعمار باكستان لبنغلاديش هي حركة اللغة البنغالية «بهشا أندولان» [وكانت تطالب بالاعتراف باللغة البنغالية لغة رسمية في البلاد] وانبثقت من جامعة دكا، وقد قُتل قادة الطلاب أثناء الاضطرابات عام 1952. كما كان الطلاب جزءًا أساسيًا من النضال لأجل التحرر من الحكم الباكستاني عام 1971، ولهذا السبب استهدف الجيش الباكستاني الجامعات في «عملية الكشاف» ما أدّى إلى مذابح بحق الطلاب الناشطين. وفي مرحلة ما بعد الاستقلال نَمَت الأحزاب السياسية من خلال أجنحتها الطلابية.
خلال العقد الماضي، تنامى الشعور بالسخط والغضب لدى الطلاب بسبب النقص المتزايد في فرص العمل رغم الاقتصاد المزدهر، ونتيجة ما اعتبروه استهتار الحكومة بهم. وقد تمظهر ذلك من خلال التعليقات الفجة التي أدلى بها أحد الوزراء في حكومة الشيخة حسينة، عندما ابتسم بسخرية وهو ينفي الأخبار التي تفيد بأن حافلة قتلت طالبيْن جامعيين على طريق المطار في دكا في تموز 2019. أدى هذا الحدث لحركة احتجاج طلابية ضخمة للمطالبة بأمن الطرق. وكان رد الحكومة على هذه الاحتجاجات الاعتقالات.
وراء احتجاجات السلامة على الطرق مسألة رئيسة أخرى. ففي عام 2013، بدأ الطلاب احتجاجًا على الحصص المقيدة (الكوتا) للوظائف الحكومية، وفي شباط 2018 عادت هذه القضية إلى الواجهة من خلال نشاط الطلاب في «منتدى حماية حقوق الطلاب العامة في بنغلاديش»، وعندما اندلعت الاحتجاجات المتعلقة بالسلامة على الطرق، أثار الطلاب قضية الحصص المقيدة للوظائف الحكومية بالإضافة إلى مسألة التضخم. فقد قامت الحكومة بموجب القانون بتخصيص مقاعد في نظام التوظيف لديها بنسبة 10% للأشخاص من المناطق المحرومة، و10% للنساء و5% للأقليات، و1% للأشخاص ذوي الإعاقة، بالإضافة إلى 30% لأحفاد المناضلين من أجل الحرية.
قضية أحفاد المناضلين من أجل الحرية ترجع للعام 2013، وقد عادت للواجهة من جديد هذا العام، وهي قضية عاطفية مشحونة حساسة لدى الطلاب المتظاهرين، وخاصة بعد التعليق التحريضي الذي أدلت به رئيسة الوزراء بأن أولئك الذين يحتجون على حصص أحفاد المناضلين من أجل الحرية، هم أحفاد خونة الحرب. وهو تعليق وُصِفَ بأنه خطأ فادح قاد إلى نهاية الحكومة.
الإسلام السياسي في بنغلاديش
في شباط 2013 حُكم على عبد القادر ملّا، زعيم الجماعة الإسلامية في بنغلاديش، بالسجن مدى الحياة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال حرب تحرير بنغلاديش، والذي عرف أنه قتل 344 مدنيًا على الأقل. خلال مغادرته المحكمة، رفع عبد القادر علامة النصر بيده، وهو ما أثار قطاعات واسعة من المجتمع في بنغلاديش. وعلى إثرها احتشد جمهور كبير في دكا، وشكلوا منصة الصحوة الجماعية. دفعت هذه الحركة الاحتجاجية المحكمة العليا لإعادة تقييم الحكم، وتم إثرها إصدار حكم بإعدام الملا في كانون الأول. جلبت هذه القضية إلى السطح التوترات طويلة الأمد في بنغلاديش حول الدور الذي يلعبه الدين في السياسة.
بعد الاستقلال، ادعى الشيخ مجيب الرحمن أن بنغلاديش ستكون دولة اشتراكية وعلمانية، وبعد اغتياله على يد الجيش، استولى الجنرال ضياء الرحمن على البلاد وحكمها منذ عام 1975 حتى عام 1981. خلال تلك الفترة أعاد ضياء الرحمن الدين إلى الحياة العامة ورحّب بالجماعة الإسلامية بعد عودتها من المنفى بسبب مشاركة الجماعة في الإبادة الجماعية عام 1971. وفي عام 1978 أسس ضياء الرحمن الحزب الوطني على أسس قومية مع موقف نقدي حاد تجاه الهند. أمّا الجنرال حسين محمد إرشاد فقد ذهب أبعد من ذلك، فبعد تنفيذه انقلابًا في عام 1982 وبقائه في الحكم حتى عام 1990، أعلن أن الإسلام دين الدولة، وقد شكّل ذلك تباينًا سياسيًا مع آراء مجيب الرحمن وابنته الشيخة حسينة التي تولت زعامة حزب والدها، رابطة عوامي في عام 1981.
كانت الساحة السياسية ممهدة لمنافسة طويلة الأمد بين رابطة عوامي العلمانية الوسطية بزعامة الشيخة حسينة، والحزب الوطني البنغالي الذي استولت عليه خالدة ضياء، زوجة ضياء الرحمن بعد اغتياله عام 1982. وتدريجيًا، بدأ الجيش -الذي كان له توجه علماني في أيامه الأولى بعد الانقلاب- يشهد مزاجًا إسلاميًا متزايدًا، فقد نما الإسلام السياسي في بنغلاديش مع صعود التديّن بين عامة السكان. جزء من هذا حصل بفعل أسلَمة العمالة المهاجرة في دول الخليج وجنوب شرق آسيا. كما كان للحرب على الإرهاب دور في تعزيز الالتزام بالعقيدة الإسلامية، وهي مسألة يجب عدم المبالغة في حجم تأثيرها، ولا التقليل من أهميتها كذلك.
تشكل علاقة الإسلاميين، الذين تزايد نفوذهم الشعبي منذ عام 2013، مع الجيش عاملًا آخر يتطلب المزيد من التوضيح، ونظرًا للتراجع الذي طرأ على حظوظ الجماعة الإسلامية منذ أن وثّقت محكمة جرائم الحرب كيفية تورط الجماعة إلى جانب باكستان أثناء النضال من أجل التحرير، فمن المرجح أن يكون لهذا التشكيل عتبة من حيث شرعيته.
إذا تمكنت الحكومة المؤقتة من إجراء انتخابات نزيهة في الموعد المحدد، فسوف يَسمح هذا للشعب بمعرفة ما إذا كان الإسلام السياسي هو النظام الذي يرغبون بالتصويت له.
حرب باردة جديدة
بعيدًا عن القضايا الحيوية المهمة التي أثارها الطلاب والتي أدت إلى الإطاحة بالشيخة حسينة، إلا أن هناك قضايا جوهرية لا يتم مناقشتها غالبًا في هذه الأوقات المشحونة. فبنغلاديش هي ثامن أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، ولديها ثاني أعلى ناتج محلي إجمالي في جنوب آسيا، بالإضافة إلى أنه لا يمكن استبعاد الدور الذي تلعبه في المنطقة وفي العالم.
على مدار العقد الماضي، واجهت منطقة جنوب آسيا تحديات كبيرة حينما فرضت الولايات المتحدة حربًا باردة جديدة على الصين. في البداية، شاركت الهندُ الولاياتِ المتحدة فيما يتعلق بتشكيل استراتيجية منطقة المحيطين الهندي والهادئ الهندية الأمريكية. ولكن منذ الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط 2022، بدأت الهند تنأى بنفسها عن هذه المبادرة الأمريكية، وحاولت وضع أجندتها الوطنية في المقدمة. عنى ذلك أن الهند لم تُدِن روسيا، بل استمرّت في شراء النفط الروسي. وفي الوقت نفسه، قامت الصين من خلال مبادرة الحزام والطريق ببناء البنية التحتية في بنغلاديش ونيبال وباكستان وسريلانكا، أي الدول المجاورة للهند.
ربما ليس من قبيل المصادفة أن أربع حكومات في المنطقة والتي بدأت بالتعاون مع مبادرة الحزام والطريق قد سقطت، وأن خلفاءهم في ثلاث من هذه الحكومات حريصون على تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. ويشمل ذلك شهباز شريف، الذي وصل إلى السلطة في باكستان في نيسان 2022 بعد الإطاحة بعمران خان والذي يقبع في السجن الآن. ورانيل ويكرمسينغه، الذي وصل إلى السلطة في سيريلانكا في تموز 2022 بعد فترة وجيزة من إخماد الانتفاضة الجماهيرية التي كانت لها أفكار أخرى بدلًا من تنصيب حزب يضم عضوًا واحدًا فقط في البرلمان وهو ويكرمسينغه نفسه، بالإضافة إلى كي بي شارما أولي الذي وصل السلطة في نيبال في تموز 2024 بعد تعديل برلماني أطاح بالماويين من السلطة.
لا يمكن التنبؤ بالدور الذي قد يلعبه رحيل الشيخة حسينة في حسابات المنطقة إلا بعد إجراء الانتخابات، ولكن مما لا شك فيه أن هذه القرارات في دكا ليست بعيدة عمّا يشهده الإقليم والعالم.
يعتمد الطلاب الآن على قوة المظاهرات الحاشدة في اكتساب الشرعية، ولكن ما يفتقرون إليه هو أجندة خاصة ببنغلاديش، ولهذا السبب فإن التكنوقراطيين النيوليبراليين القدامى يحومون بالفعل مثل أسماك القرش حول الحكومة المؤقتة، وفي صفوفهم أولئك الذين يؤيدون الحزب الوطني والإسلاميين، ولكن الدور الذي سيلعبونه لم يتضح بعد.
وإذا قامت اللجنة الطلابية الآن بتشكيل كتلة مع النقابات العمالية، وخاصة نقابات عمال صناعة الملابس، فهناك احتمال أن تشكل بالفعل فرصة لبناء بنغلاديش ديمقراطية جديدة محورها الشعب. وإذا لم يتمكنوا من بناء هذه الكتلة التاريخية، فقد تتمّ تنحيتهم، تمامًا كما حدث مع الطلاب والعمال في مصر، وقد يضطرون إلى تسليم جهودهم إلى المؤسسة العسكرية والنخبة التي لم تغير سوى قمصانها.