الواجهةمجرد رأي

أبعد من الدعم العسكري: كيف أعاد الطوفان للحاضنة الشعبية دورها؟

أفنان أبو يحيى. موقع: حبر
«يجب التعامل مع مخيم جنين كغزة»، قال وزير الخارجية الإسرائيلي يسرائيل كاتس في الحادي عشر من آب الجاري على خلفية استهداف المقاومين الفلسطينيين قوات الاحتلال الإسرائيلي باستخدام العبوات الناسفة والرصاص، والإضراب الشامل الذي نفذه أهالي المنطقة احتجاجًا على جرائم الاحتلال، بما فيها قتل سبعة فلسطينيين أثناء الاقتحام الأخير. لم يصف كاتس المخيم بأنه «بؤرة شر لا تخضع لسيطرة السلطة الفلسطينية» فحسب، بل دعا إلى «إخلائه من سكانه» الذين لطالما شكلوا ظهيرًا للمقاومة وحاضنة شعبية تقدم الدعم السياسي واللوجستي والمادي والمعنوي لها.
تعبّر الحاضنة الشعبية عن البيئة التي تحتضن المقاومة وتكون مستعدة أن تدعمها وتوفر لها ما تتطلبه من احتياجات وتتحمل الاستحقاقات والأثمان الناتجة عن ذلك، وقد تمثل الأسرة أو العشيرة أو الحي أو المؤسسات الأهلية أو اللجان التطوعية وكل البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية المقتنعة بخط المقاومة. تعود ممارسات الحاضنة الشعبية إلى محطات مختلفة من التاريخ الفلسطيني، كان أبرزها وأكثرها تنظيمًا الانتفاضة الفلسطينية الأولى، حيث انخرطت مختلف مكونات الشعب الفلسطيني في ممارسة العمل المقاوم وإيواء المقاومين وتخليصهم من الاعتقال وتأمين المؤن لهم وتضميد جراحهم ورعاية أسرهم.
في الضفة الغربية بالتحديد، أدى اتفاق أوسلو لتفكيك الحاضنة الشعبية، إذ مهد للانقسام السياسي ولتولي سلام فياض رئاسة الوزراء، وهو ما نتج عنه تغيّر بنيوي في المجتمع الفلسطيني وتوجه نحو الفردانية والاستهلاك الرأسمالي الاستعراضي وتغيّر أشكال المقاومة وجغرافياتها، لتنحصر في مناطق شمال الضفة. منذ طوفان الأقصى، تصاعد العمل المقاوم في جنين ونابلس وطولكرم وطوباس، وبالتحديد في مخيماتها التي شهدت مواجهات مستمرة واقتحامات دموية لقوات الاحتلال الإسرائيلي، توسعت على إثرها الحاضنة الشعبية واستعادت بعض وسائلها لدعم المقاومة.
كيف أعاد الطوفان للحاضنة الشعبية دورها؟
يُنظر لإيواء المقاومين على أنه أحد أدوار الحاضنة الشعبية، فعندما ينفذ الشبان عملية فدائية أو عندما يقتحم جيش الاحتلال المخيم بحثًا عن المطاردين، يشعر أهالي المنطقة بالمسؤولية الجمعية للحيلولة دون نجاح الاحتلال في مهمته أو على الأقل تعقيدها عليه. شهدت الضفة الغربية منذ السابع من تشرين الأول الماضي تنفيذ عشرات العمليات الفردية والاقتحامات التي تمركزت في مخيمات الشمال. وإن كان الأهالي يتخوفون من استقبال أحد المطاردين لما ينطوي ذلك على مخاطر، يقول المتحدث بأسم أهالي الشهداء في مخيم جنين، أسامة أبو عرب، إن من عادة أهل المخيم تعمّد ترك بيوتهم مفتوحة، والحرص على ترك المياه والخبز والطعام في ثلاجاتهم حتى وإن غادروها، وذلك لإيواء المقاومين في حال انتهى الحال بأحدهم في أيٍ منها.
تشكل هذه الممارسات امتدادًا لحوادث أقدم كان آخرها ما حصل في منزل إياد العزمي في مخيم جنين. احتضن هذا المنزل الشهيدَ القسامي عبدالفتاح خروشة بعد أن قطع 56 كم من جنوبي نابلس نحو مخيم جنين فور تنفيذه عملية حوارة النوعية في آذار العام الماضي، قبل أن يقصفه الاحتلال بـ16 صاروخًا ويستشهد فيه خروشة وخمسة شهداء من أبناء المخيم. تحصّن في هذا المنزل نفسه الشهيد حمزة أبو الهيجا عام 2014 والشهيد نور الدين جرار عام 2021، والذي استشهد دفاعًا عنه ابن صاحب المنزل، أمجد إياد العزمي، وما زال جثمانه محتجزًا عند الاحتلال حتى اللحظة.
يقول باحث فلسطيني في الحركات الاجتماعية، طلب عدم ذكر اسمه، إن هذه الشواهد العملية على الحاضنة الشعبية تكون في معظمها سريّة، إذ لا يعرف الناس عن حوادث إيواء المطاردين إلا بعد استشهادهم أو اعتقالهم، مثل حادثة الأسير المحرر عبد الرحمن أبو جعفر والذي استقبل في منزله الأسيرين أيهم كممجي ومناضل انفيعات، اللذين كانا ضمن ستة أسرى تحرروا من سجن جلبوع عام 2021. ينطبق هذا الحال على حالات التبرع للمقاومين لشراء السلاح وصيانته أو علاج إصاباتهم بعد المواجهات. لم يوصف الطبيب الشهيد عبدالله أبو تين بأنه «حكيم الكتائب» إلا بعد استشهاده برصاص قناص إسرائيلي بينما كان يداوي أحد المصابين في باحة مستشفى الشهيد خليل سليمان الحكومي في جنين.
يأخذ استهداف الحاضنة الشعبية ومعاقبتها أشكالًا أخرى مثل منع أهالي الشهداء والأسرى من العمل والتعليم، أو التضييق على المؤجِّرين الذي يستقبلون الأسر التي تهدمت منازلها، أو احتجاز جثامين الشهداء ممن نفذوا العمليات الفدائية.
وإذ تحمي الحاضنة الشعبية الخطوط الخلفية للمقاومة، فإنها لا تساندها في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي فحسب بل ضد انتهاكات السلطة الفلسطينية التي تعرقل تطور وتقدم فصائل المقاومة في الضفة الغربية المحتلة وتتورط في اعتقال المطاردين أو تسليمهم. ولذلك، توافد أهالي طولكرم مثلًا إلى محيط مستشفى طولكرم الحكومي في نهاية تموز الماضي لمنع أجهزة السلطة الفلسطينية من اعتقال قائد كتيبة طولكرم محمد جابر (أبو شجاع) من المستشفى الذي وصل إليه مصابًا في يده. استجاب الأهالي لدعوات النفير العام في مخيم نور شمس ومخيم طولكرم التي أصدرتها سرايا القدس وكتائب القسام وكتائب شهداء الأقصى، وانخرط بعضهم في مناوشات مع أجهزة الأمن الفلسطينية التي انسحبت دون أن تعتقل أبو شجاع.
خرج أبو شجاع محمولًا على الأكتاف وسط زغاريد الأمهات وتكبيراتهن، وهو الذي نجا أيضًا من اقتحام سابق نفذه جيش الاحتلال الإسرائيليّ في مخيم نور شمس مطلع العام الجاري استمر لمدة 44 ساعة وفشل في الوصول إلى أفراد الكتيبة. قال أبو شجاع في أعقاب هذا الاقتحام «رسالتنا أهم إشي إلى الحاضنة الشعبية أبناء المخيم، يظلوا صابرين».
يقول أبو عرب إن صمود الأهالي في منازلهم هو دعم للمقاومة، لأن المخيم بحد ذاته هو الحاضنة الشعبية التي يحاول الاحتلال استهدافها ويدرك الأهالي أن وجودها يعني استمرار المقاومة، «هاي الشباب اللي بتقود المسيرة همه ولادنا، وإذا مكانش ابني، هو ابن اخوي أو ابن عمي أو ابن خالتي»، بحسب قوله.
تمنح الحاضنة الشعبية الشرعية للتنظيمات والفصائل المسلحة، فعندما تعلن الكتائب النفير العام أو الإضراب الشامل، فإن التزام الأهالي بهذه الدعوات وإغلاق محالهم ووقف أعمالهم وتعليق صور الشهداء على أبواب منازلهم والخروج للشوارع في الاحتجاجات الشعبية بمثابة ضربة لجهود الاحتلال الرامية لتفكيك هذه البنية المجتمعية واستعراض المقاوم على أنه إرهابي ينغص على الأهالي عيشهم، يقول الباحث.
وإلى جانب ذلك، فقد طورت الحاضنة الشعبية أشكالًا من التحركات الجمعية العفوية مثل مبادرة المحال التجارية إلى مسح سجلات الكاميرات بالتزامن مع البحث عن المطاردين وتتبعهم، أو حتى توزيع الحلويات ابتهاجًا بتنفيذ العمليات الفدائية وانسحاب القوات الإسرائيلية دون تنفيذ أهدافها، أو الظهور بمظهر المطارد لتضليل الاحتلال عن الإمساك به مثل حلق رؤوسهم أو ارتداء ملابس تشبه آخر ألوان ظهر بها، أو حتى تحذير المقاومين من الاجتياحات الإسرائيلية. دفع الشهيد حمدي شرف حياته ثمنًا لتحذير مقاومي عرين الأسود عام 2022 من اقتحام اسرائيلي مفاجئ، إذ تحدثت زوجته في نعيه: زوجي حلاق، طخوه ظلم، بس عشانه حكا بصوت عالي «في قوات خاصة، في قوات خاصة».
ترتبط الحاضنة الشعبية بشكل وثيق بدعم المقاومة، إلا أنها أبعد من احتضان الفعل العسكري المباشر، وتشمل أيضًا الاهتمام بعائلة المقاوم وأطفاله ودعمهم ماديًا ومعنويًا. يقول أبو عرب إن أهالي المخيم ولجانه الشعبية وشخصياته الوطنية الاعتبارية لم تتوان عن المساهمة في جمع التبرعات لتأمين مساكن للأسر المهجّرة التي هدمت منازلها وتفقّد ظروف أهالي الشهداء والأسرى واحتياجاتهم اليومية أو إصلاح البنية التحتية للمخيم في كل اقتحام تقوم به القوات الإسرائيلية. تمارس روابط أهالي الشهداء والأسرى دورًا مركزيًا في تثبيت صمود الأهالي وتأمين مستلزماتهم المعيشية وتبادل الهموم والمآسي على رحيل أبنائهم وتوحيد بوصلتهم لمواصلة النضال ضد الاحتلال الإسرائيلي، إذ تنظم زيارات دورية لبيوت أهالي الشهداء ومقابرهم وإحياء ذكراهم السنوية. «في ناس كانت منطوية على نفسها، ما قدرت تطلع من هاي الحالة إلا بعد روحاتنا وجياتنا»، يقول أبو عرب.
ويبرز دور النساء في هذه الجهود الاجتماعية، إذ وحّدت الشهيدة وفاء جرار الجهود والمبادرات الفردية لزيارة أمهات الشهداء والأسرى في رابطة شعبية قائلة «كنت دومًا أحتاج من يقف بجانبي في محنتي المتكررة وقت اعتقال زوجي، ينصحني ويشاركني همومي، يهوّن علي ويمسح على جرحي، ويتعاطف معي».
كيف يعاقب الاحتلال الحاضنة الشعبية؟
«الحمدلله اللي ابنك قتل مستوطن، أخذ ثاره بإيده ولا لأ؟ انتقم للشعب الفلسطيني وجراحات الناس ولا لأ؟ هذا الاشي بعزيكي، بخليكي تفتخري وترفعي راسك»، تقول وفاء جرار لأم الشهيد إسلام خماسية في آخر زيارة نفذتها في إطار رابطة أمهات الشهداء قبل قيام الاحتلال الاسرائيلي باعتقالها وإصابتها وبتر ساقيها ما أدى لاستشهادها مطلع آب الجاري. تعتبر أسرة الشهيدة استهداف وفاء ضربة للحاضنة الشعبية التي شكلتها ودليلًا على أهمية الدور الذي كانت تقوم به في تعزيز الفعل المقاوم.
تجاوزت حصيلة الاعتقالات في الضفة الغربية أكثر من تسعة آلاف معتقلًا منذ السابع من أكتوبر الماضي، كان لوجوه الحاضنة الشعبية نصيبٌ منها، إذ كان اعتقال الشخصيات التي تشكل محط إجماع الأهالي وبلسمًا لجراحهم جزء من معاقبة المجتمع المحلي. ففي نهاية حزيران الماضي، اعتقل الاحتلال الإسرائيلي أبو عرب وجمال حويل وجمال الزبيدي. وعُرفت هذه الشخصيات بحضورها في تجمّعات عائلات الشهداء ودورها في دعم شبان المقاومة والدفاع عنهم ضد قوات الأمن الفلسطينية ومطالبتهم بإطلاق سراحهم.
تقول إحدى الشابات من مخيم نورشمس -فضلت عدم الإفصاح عن اسمها- إن استهدافات الاحتلال الإسرائيلي للمخيمات تشمل قتل المدنيين واعتقالهم وتدمير مصالحهم كما تطال المقاومين والمطاردين. شهدت الاقتحامات الأخيرة لمخيمات الضفة تصاعدًا في عدد الأطفال الشهداء والذين بلغ عددهم 133 طفلًا من أصل 534 فلسطينيًا استشهدوا في الضفة منذ طوفان الأقصى. «المخيم بضيق على أهله لما بستشهد طفل»، تقول الشابة مستذكرة رحيل الطفل محمد علي سرحان (15 عامًا)، جراء إصابته بعيار ناري في الرأس في اقتحام الجيش الاسرائيلي لمدينة طولكرم.
وفي إطار العقاب الجماعي الذي يمارسه الاحتلال الاسرائيلي بحق مخيمات الضفة، يتعمد الاحتلال هدم البيوت وتخريب الممتلكات العامة والخاصة للأهالي. حتى 12 آب الجاري، رصد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة هدم سلطات الاحتلال نحو 1380 منشأة فلسطينية في الضفة الغربية، أدت لتهجير 3100 فلسطيني، أكثر من نصفهم هُجّر من مدينتي جنين وطولكرم والمخيمات المحيطة بهما، وأكثر بالضعف بالمقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي.
يطال الهدم أيضًا مئات منشآت البنية التحتية مثل المياه والصرف الصحي والكهرباء والاتصالات، عدا عن تجريف الشوارع وتدمير المنشآت التي يستخدمها أصحابها في تأمين سبل عيشهم مثل صالونات الحلاقة والمطاعم والمحال التجارية. «مشتهيين نشوف الزفتة في طولكرم»، تقول الشابة معتبرةً أن الإحصاءات الساعية لرصد الأضرار الناتجة عن اقتحامات الجيش الإسرائيلي لا تأخذ في الاعتبار إشعال النيران بالبيوت ومنع طواقم الدفاع المدني من الوصول إليها، أو تدمير السيارات المتوقفة في الشوارع، أو منع الجرافات من دخول المخيم لإصلاح ما يمكن إصلاحه.
«بعد كل اقتحام، الحصول على شربة المي واتصال بصير أصعب». موضحة أن تضييق سبل العيش على أهالي المخيم وتعجيزهم هو محاولة لدفعهم للشعور بالنقمة على المقاومين وثنيهم عن دورهم المساند، إلا أن الأهالي أنفسهم هم أول من يبادر بإصلاح هذه البنية التحتية بشكل مبدئي بما يتوفر من أدوات. من ناحيته، يقول رئيس اللجنة الشعبية لمخيم طولكرم فيصل سلامة إن اللجنة جزء من الحاضنة الشعبية، إذ تحاول التنسيق ما بين جهود وكالة الغوث للاجئين (الأونروا) والوزارات الفلسطينية والبلديات والقوى الوطنية والمجتمع المحلي، وعبرها تحاول تنفيذ بعض المشاريع الخدمية التي تثبت صمود الأهالي ومحاولة ترميم البنية التحتية.
تراجع دور اللجان الشعبية اليوم من قيادة الحالة السياسية كما كانت تفعل أثناء الانتفاضة إلى تحسين الظروف المعيشية للمخيم بصلاحيات لا تتجاوز كونها «مجلس حكم محلي»، بحسب الباحث. سعى الاحتلال لتحييد هذه اللجان عن دورها، حالها حال عشرات المؤسسات الفلسطينية التي تعمل في مجال الخدمات الاجتماعية والإنسانية، مثل لجان الزكاة التي تعرضت للحل عام 2007 بعد أن شكلت خدماتها رافعة للمجتمع الفلسطيني. بالنسبة له، فإن توسع الحاضنة الشعبية مرتبط بتصاعد الحالة النضالية إلا أن تمكين كليهما مرتبط بحضور المؤسسات الوطنية والأحزاب السياسية ودورها الحقيقي في تنظيم الناس رغم كل الرقابة العسكرية والتكنولوجية التي تفرضها «إسرائيل».
يأخذ استهداف الحاضنة الشعبية ومعاقبتها أشكالًا أخرى مثل منع أهالي الشهداء والأسرى من العمل والتعليم، أو التضييق على المؤجِّرين الذي يستقبلون الأسر التي تهدمت منازلها، أو احتجاز جثامين الشهداء ممن نفذوا العمليات الفدائية. يقول أبو عرب إن المقاومة في وعي المخيم هي التي ترد لهذه العائلات كرامتها وتجعل ألمها مفهومًا في إطار التحرر، ولذلك نرى الأمهات في التقارير الصحفية يقلن «بيتي فداء المقاومة وشبابها» ويزغردن في رحيل أبنائهن ويحملن الأكل لإطعام من بقي من رفاقهم. «هاي هي الحاضنة الشعبية في أبسط اشكالها، الحاضنة الشعبية ممكن ما عندها بندقية، بس البندقية ما بتعيش إلا فيها».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى