مجرد رأي

هل التدريس مهنة أم وظيفة أم رسالة؟

 .ذ.شفيق العبودي

بمناسبة اليوم العالمي للمدرس  أود إعادة إثارة موضوع الدور الذي يضطلع به المدرس، وذلك من خلال الجواب عن السؤال التالي: هل التدريس مهنة أم وظيفة أم رسالة؟
في ظل استفحال البطالة ورغبة الفرد في تأمين حاجاته اليومية يضطر إلى مزاولة أي مهنة في متناوله تستطيع أن تسد رمقه وتؤمن له احتياجاته، ومن بينها التدريس إن استطاع إليه سبيلا، وبما أن الدولة تقوم على تسيير شؤون المجتمع عبر مجموعة من المؤسسات بموظفين يتقاضون أجورهم مقابل عمل يؤدونه، فإن المدارس هي واحد من هذه المؤسسات، والمدرسون بالنسبة لها مجرد موظفين يؤدون مهمة وفق دفتر تحمل (إنجاز المقررات الدراسية بالخصوص) مقابل أجر يتقاضونه، وهذه المهمة هي التربية والتعليم أو التكوين كما حددتها التوجيهات التربوية في شموليتها، بمعنى تكوين وتأهيل الفرد على المستوى المهني حتى يستجيب لحاجات المؤسسات الإنتاجية وأيضا التربية على القيم الوطنية والدينية للدولة المشرفة على إدارة شؤون هذا المجتمع. أمام هذا الوضع/المعطى هل يمكن للمدرس أن يؤدي رسالة ما، أم أنه مطالب فقط بأن يكون مهنيا ويؤدي واجبه على أحسن وجه؟
لا يخفى علينا أن علماء النفس والباحثين يصنفون العمل من حيث الممارسة إلى ثلاث أصناف وهي:
1 ــ الوظيفة: وذلك عندما يكون الدافع إليه هو الحصول على أجر مع نهاية كل شهر يحقق عبره الاستقرار الاجتماعي والمادي، بحيث قد يكون الفرد هنا غير راضي عن الوظيفة التي يقوم بها ولا يجد فيها ما يحقق رغباته ومتعته، لكنه مع ذلك مدفوع الى القيام بها تحت دافع الحاجة للمال.
2 ــ المهنة: وذلك عندما يستطيع الفرد أن يحقق الكثير من اﻹنجازات في عمله، ويحصل على أجر عالي، باﻹضافة إلى ترقيات وحوافز مغرية، التي من شأنها أن تحقق له مكانة مرموقة في مجتمعه، لكنها في غالب الأحيان لا تصل للحد الذي يرغبه، وبالتالي تجده ومع نهاية الترقيات يبدأ مهمة البحث عن مجال جديد، أو عن مورد أخر ليزيد به الأجر الذي لم يصل لمستوى تطلعاته.
3 ــ الرسالة: وذلك عندما يكون هناك ارتباطا وجدانيا وعاطفيا مع المهام التي يقوم بها الموظف، بحيث يشعر من خلالها أنها جزء أساسي من حياته، ويحقق فيها قدرا عاليا من اﻹشباع والرضاء عن الذات، مما يؤدي إلى توافق التحديات مع نقاط القوة التي يمتلكها الموظف.
*ربما نعتقد أن هذا النوع الأخير (الرسالة) محصور لدى فئة معينة، تكون شديدة المهابة كالدعاة والأطباء والعلماء وغيرهم، مع أن الاكتشافات اﻷخيرة التي قدمتها الأبحاث المنجزة حول العمل والوظائف تكاد تكون صادمة، حيث تشير إلى أن كل رسالة يمكن أن تكون وظيفة، كما أن كل وظيفة من الممكن أن تكون رسالة، لذلك فإن المدرس الذي يُدَرِّس من أجل الحصول على أجر آخر الشهر فهو يؤدي وظيفة أو قل مهنة ما دام ينتظر ترقيات وبعض التعويضات، بينما عامل النظافة الذي يعتقد أنه يساهم في خلق بيئة نظيفة وصحية ليعيش الناس بسعادة فهو يؤدي رسالة. وتؤكد الدراسات العلمية في مجال علم النفس الصناعي والتنظيمي وكذلك علم النفس الاجتماعي أن الموظف المنتج هو الموظف المستمتع بوظيفته والذي يعتبرها جزءا من مهمته في هذه الحياة وبالتالي تعبر بالنسبة اليه ليست فقط مهنة أو وظيفة يتقاضا عنها أجرا بل رسالة عليه تبليغها وإيصالها. ونظرا لما بات يسببه ضغط العمل وما ينتج عن ذلك من أمراض إن على مستوى القلب أو الأعصاب والضغط والسكري وغيرها، فإن التوجه الحالي في العمل ينحو في اتجاه البحث عن اﻹشباع والرضا الشخصي في العمل مما ينتج عنه من متعة، بدل البحث عن المال فقط مقابل التعاسة وعدم تحقيق الذات، وهو ما يهتم به حاليا علم النفس اﻹيجابي الذي تأسس على يد عالم النفس اﻷمريكي مارتن سليجمان.
لذلك أعتقد أن المدرس ومن حيث المهام الملقاة على عاتقه حتى وإن لم تكن منصوص عليها في دفتر التحمل/المهام (التي تلخص حسب النظام الأساسي في: التدريس، التقييم، والمشاركة في الامتحانات المدرسية) إلا أن الواقع وطبيعة عمله من حيث كونه يتعامل مع الناشئة (أطفال ومراهقين) يحملون معهم تطلعات وأحلام وينحدون من طبقات اجتماعية متنوعة، تضع المدرس أمام تحديات تتجاوز مهمة التعليم، إلى التربية بما تختزنه من مهمات إن على المستوى النفسي أو الاجتماعي والثقافي، وهنا يجد المدرس نفسه من حيث لا يدري يقوم بدور المساعد النفسي والاجتماعي وحتى المالي أحيانا، لذلك فلم يسجل ان ترسخ في أذهان المتعلمين ذاك المدرس الذي يتقن تعليم مادته الدراسية أو الملم بمادته المعرفية، بل يحتفظ المتعلمون في ذاكرته باسم ذاك المدرس الذي يجمع بين هذه المهمة السالفة الذكر ومهام أخرى مثل حسن المعاملة والتوجيه وتفهم ما يمر به الطفل أو المراهق، وحتى المدرس الذي يسعى لمساعدتهم بما يملك حتى لو كان مجرد كلام عاطفي ينم عن المحبة، ولا عجب أن يكون هذا التعامل بوابة نحو الاقبال على التعلم أساسا، فلم يكذب سقراط عندما قال متسائلا: كيف لي أن أعلمه وهو لا يحبني؟ مؤكدا أن التعلم لن يتحقق إلا إذا أحب المتعلم المعلم/المدرس، وبذلك فإن مهمة التعليم لن تتحقق إذا لم يكن المدرس منفتحا على القيام بأدوار أخرى إلى جانب التعليم، وهنا سيجد نفسه من حيث لا يدري يؤدي رسالة وليس فقط وظيفة، رسالة إنسانية تتمثل في صناعة الانسان وانتشال من براثين الانحراف أو الادمان أوالضياع، لذلك على المدرس أن يكون صاحب قضية/رسالة من أجلها يمارس مهنة التعليم ــ إضافة إلى كون يجب أن يدافع عن حقوقه ويطالب بتوفير شروط عمله ــ، وليس مجرد أجير ينتظر نهاية الشهر ليتقاضى أجرته، مهما كان متمكنا ومتقنا لمادته المعرفية، التي لن تجعل منه أنذاك سوى تقني، إذن التدريس عمليا ليس مجرد وظيفة لربح المال وتأمين الحاجات الاجتماعية للموظف بل رسالة سامية، وعلى المدرسين أن يسعوا لكي يصبحوا ملهمين وليس مجرد مُلَقِنِّين للمعرفة التي صارت الثورة المعلوماتية بمقدورها ان توفرها وبغزارة أكبر، وبذلك سيتمكن المدرس من الجمع بين العمل والمتعة عوض أن يقضي ما بين سبع أو ثماني سنوات من عمره (وهي السنوات التي يقضيها الموظف في مقر عمله) في مكان لا يطيقه، وكل يوم يتذمر من الذهاب إليه،مما قد يسبب له معاناة دائمة.
وكل عام والمدرسات والمدرسين منارة مرشدة لكل تائه في بحر الجهل*.

5 اكتوبر 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى