الواجهةمجرد رأي

هل نجح طوفان الأقصى في الإجهاز استراتيجيا على “الحل الصهيوني” ل “المسألة اليهودية” من المسافة الصفر؟

 

الدكتور الحبيب الشوباني:

المقالة الثانية والعشرون (22) :
[الأساطير المؤسسة للحل الصهيوني للمسألة اليهودية:حسب منظور الفيلسوف الفرنسيRoger Garaudy (4/4) ]

1. في معالجته للأسطورة السياسية الرابعة والأخيرة، الموسومة ب “أسطورة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض Le mythe d’une terre sans peuple pour un peuple sans terre ” ، يفتتح غارودي حديثه عنها بتصريح للسيدة غولدا مئير Golda Meir أدلت به لجريدة الصنداي تايمز البريطانية بتاريخ 15 يونيو 1969. تقول المهاجرة الأوكرانية غولدا مابوفيتش Golda Mabovitch المولودة في العاصمة كييف kieev بتاريخ 3 مايو 1898، والتي شغلت منصب رابع رئيس وزراء في تاريخ حكومات دولة الكيان الصهيوني من 17 مارس 1969 إلى 11 أبريل 1974: [لا يوجد شعب فلسطيني؛ ليس الأمر كما لو أننا جئنا لطردهم وأخذ بلادهم. إنه لا وجود لهم/ (ص:93) / Il n’y a pas de peuple palestinien ; Ce n’est pas comme si nous étions venus les mettre à la porte et leur prendre leur pays. Ils n’existent pas.].

2. لا يجد غارودي صعوبة كبيرة في تعرية جذور هذا التفكير الصهيوني الذي يسوِّغ لمهاجرة أوكرانية عاشت مُلْحِدة في سيرة مُعلَنة للجميع – ولم يسبق لأحد من سلسلة أداءها السلافيين المنحدرين من سلالة يافث بن نوح أن وطئت قدمه أرض فلسطين – أن تُلغي بتصريح صحفي وجود شعب من أعرق شعوب الأرض ارتباطا بأرض أجداده الساميين الكنعانيين. ولأن اليهودية هي الدين الوحيد الذي يعترف بيهودية من ينحدر نسبُه من أم يهودية، حتى لو كان ملحدا، فإن غارودي يوضح الأصل التوراتي لهذه الأسطورة الرابعة التي تشكل الضِّلع السابع في البناء الفكري الأساطيري الذي قام عليه الحل الصهيوني للمسألة اليهودية. يقول غارودي : [تقوم الأيديولوجية الصهيونية على مسلمة بسيطة للغاية: وهي مكتوبة في سفر التكوين (15: 18-21): “قطَع الرَّبُّ مع إبراهيم ميثاقا قائلا: لِنَسْلِكَ أُعْطي هذه الأرضَ من نهْر مصرَ إلى النهر الكبير، نهرِ الفُرات.” ومن هنا، ودون أن نسأل ما مضمون الميثاق؟ ولمن تم الوعد؟ أو ما إذا كان الاصطفاء غير مشروط؟.. فإن القادة الصهاينة حتى لو كانوا لادينيين أو ملحدين، فإنهم يعلنون: الله أعطانا فلسطين. وتُظهر الإحصائيات، بما فيها إحصائيات الحكومة الإسرائيلية، أن 15% من الإسرائيليين متدينون. وهذا لا يمنع 90% منهم من التأكيد على أن هذه الأرض مُنحت لهم من قبل الله ..الذي لا يؤمنون به/ (ص:93) / L’idéologie sioniste repose sur un postulat très simple : il est écrit dans la Genèse (XV, 18-21) : “Le Seigneur conclut une Alliance avec Abraham en ces termes : C’est à ta descendance que je donne ce pays, du fleuve d’Egypte au grand fleuve, le fleuve Euphrate.” A partir de là, sans se demander en quoi consiste l’Alliance ? à qui a été faite la Promesse ? ou si l’Election était inconditionnelle ? les dirigeants sionistes, même s’ils sont agnostiques ou athées, proclament : la Palestine nous a été donnée par Dieu. Les statistiques, même du gouvernement israélien, montrent que 15% des Israéliens sont religieux. Ceci n’empêche pas 90% d’entre eux d’affirmer que cette terre leur a été donnée par Dieu… auquel ils ne croient pas].

3. بهذه العقيدة الدينية ذات القابلية الاستثنائية لتبني الإلحاد والتعايش معه، كَسِمةٍ بارزة لجل القادة الصهاينة المؤسسين لدولة اليهود، يؤكد غارودي أن العقل الصهيوني الذي يؤمن بأسطورة أن ” فلسطين أرض بلا شعب “، من المستحيل أن يؤمن بشيء يسمى القانون الدولي، أو أن يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني بمنطق الشِّرْعَة الدولية، على الرغم من أن الاعتراف الأممي بدولة الكيان الصهيوني تم على الجزء الأكبر من أرض فلسطين بعد قرار التقسيم الصادر في 29 نونبر 1947، قبل إعلان قيام دولة اليهود. يستحضر غارودي قرار الأمم المتحدة في 11 ماي 1949 المفروض بقوة الضغوط الأمريكية الرهيبة على باقي الدول لقبول عضوية “دولة الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” في المنتظم الأممي، مقابل ثلاثة شروط: (1) احترام الوضع الخاص لمدينة القدس؛ (2) ضمان حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى بيوتهم التي هُجِّروا منها؛ (3) الالتزام بحدود دولة اليهود كما رسَّمها قرار التقسيم. ومع ذلك، فإن بن غوريون لا يجد حرجا في التصريح الخاص ضد هذا القرار بقوله: [تَعتبرُ دولة إسرائيل أن قرار الأمم المتحدة الصادر في 29 نوفمبر 1947 باطل ولاغٍ /(ص:95)/ l’Etat d’Israël considère que la résolution des Nations Unies du 29 novembre 1947, est nulle et non avenue ] ، وبالتصريح العام الذي يحدد فيه طبيعة ووظيفة الدولة الصهيونية ضمن رؤية تؤمن بأسطورة إسرائيل التوراتية الكبرى من النيل إلى الفرات، بقوله: [ لا يتعلق الأمر بالمحافظة على الوضع الراهن، إن من واجبنا أن نخلق دولة حيوية موجهة نحو التوسع /(ص:94)/ Il ne s’agit pas de maintenir le statu-quo. Nous avons à créer un Etat dynamique, orienté vers l’expansion]

4. يسجل غارودي أن سبب هذا التعالي الصهيوني على المواثيق والقوانين الدولية، والإنكار للحقوق التاريخية الثابتة للشعب الفلسطيني، مرَدُّه لتأثير هذه الأسطورة الموجِّهة للسياسات الصهيونية وللقوة الغربية المسيحية الصهيونية التي تحرُسها، على الرغم من أن منظمة الأمم المتحدة المتمرَّدُ على قراراتها مجرد صناعة خالصة للقوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما بيَّنه غارودي بقوله: [ أصلا، قرار تقسيم فلسطين، الذي اعتمدته الجمعية العامة الأمم المتحدة (التي كانت تتألف آنذاك من أغلبية ساحقة من الدول الغربية) في 29 نوفمبر 1947، رسَّم الغربُ ما ينتظرُه من “معقله المتقدم”: في هذا التاريخ كان اليهود يشكلون 32% من السكان ويملكون 5.6% من الأراضي: وقد حصلوا على 56% من الأرض، ضمنها الأراضي الأكثر خصوبة. وقد تم استصدار هذه القرارات تحت ضغط من الولايات المتحدة/ (ص:95) / Déjà, la résolution de partage de la Palestine, adoptée par l’Assemblée Générale des Nations Unies (composée alors d’une écrasante majorité d’Etats Occidentaux) le 29 novembre 1947, marque les desseins de l’Occident sur leur “bastion avancé” : à cette date les Juifs constituent 32 % de la population et possèdent 5,6 % du sol : ils reçoivent 56 % du territoire, avec les terres les plus fertiles. Ces décisions avaient .[été obtenues sous la pression des Etats-Unis.

5. يذهب غارودي أبعد وأعمق من ذلك، ويكشف مفعول هذه الأسطورة النافية للشعب الفلسطيني ووجوده، في علاقتها بالأعمال الإرهابية التي مارستها المنظمات الصهيونية لإخراس كل صوت رسمي، ولو كان ممثلا أمميا، يتحدث عن حقوق الفلسطينيين في أرضهم التاريخية، على الرغم من أن مؤسسات المنتظم الأممي مصنوعة على مقاس المصالح الغربية. يستدعي غارودي ثلاثة وقائع تاريخية تثبت مفعول التنشئة الصهيونية على الأساطير الدينية، وعلاقتها بالأعمال الإرهابية، امتثالا لهذه الأساطير، ما دامت غايتها النهائية هي تحقيق النفي المعنوي للشعب الفلسطيني، وهو أمر غير قابل للتحقق واقعا إلا بإبادته للتخلص منه بالقتل والتهجير. تتعلق الواقعة الأولى بالتقرير الذي أعده الوسيط الأممي le Comte Folke Bernadotte المعيَّن من طرف الأمم المتحدة لإعداد تقرير حول الوضع في الأراضي الفلسطينية؛ فيما تتعلق الواقعة الثانية بمواقف مُعلنة للسيد Lord Moyne ، الوزير البريطاني المقيم لشؤون الشرق الأوسط، أمام مجلس اللوردات في لندن؛ وأما الواقعة الثالثة فهي حادثة التفجير الدموي ل فندق داوود Hôtel David في القدس.

6. تبدأ الواقعة الأولى بكتابة Bernadotte تقريرَه الذي جاء فيه ما يلي: [إنه لمن قبيل الإساءة للمبادئ الأولية، منع الضحايا الأبرياء للصراع من العودة إلى منازلهم، في الوقت الذي يتدفق فيه المهاجرون اليهود نحو فلسطين، مع تهديدهم وبشكل دائم، بتعويض اللاجئين العرب المتجذرين في هذه الأرض منذ قرون. وقد وصف “النهب الصهيوني الكبير وتدمير القرى دون ضرورة عسكرية ظاهرة” / (ص:96) / “Ce serait offenser les principes élémentaires que d’empêcher ces innocentes victimes du conflit de retourner à leur foyer, alors que les immigrants juifs affluent en Palestine et, de plus, menacent, de façon permanente, de remplacer les réfugiés arabes enracinés dans cette terre depuis des siècles. Il décrit “le pillage sioniste à grande échelle et la destruction de villages sans nécessité militaire apparente] .. يوثق غارودي أحداث هذه الواقعة الإرهابية، ويفول: [تم وضع هذا التقرير (وثيقة الأمم المتحدة أ. 648، ص 14) في 16 سبتمبر 1948، وفي 17سبتمبر 1948 تم اغتيال “الكونت برنادوت” ومساعده الفرنسي العقيد “سيروت”، في الجزء الذي يحتله الصهاينة من القدس/ (ص:97) / Ce rapport (U.N. Document A. 648, p. 14) a été déposé le 16 septembre 1948. Le 17 septembre 1948 le Comte Bernadotte et son assistant français, le Colonel Serot, étaient assassinés dans la partie de Jérusalem occupée par les sionistes] .

7. في الواقعة الثانية المتعلقة بالدبلوماسي البريطاني Lord Moyne ، يكتب غارودي: [أعلن “اللورد موين” كاتب الدولة البريطاني في القاهرة، في 9 يونيو 1942 بمجلس اللوردات، أن اليهود لم يكونوا من نسل العبرانيين القدماء، وأنه ليس لديهم “مطالب مشروعة” في الأرض المقدسة. ولأنه مؤيد لهجرة متحكَّمٌ فيها إلى فلسطين، فقد ثم اتهامه بأنه “عدو عنيد للاستقلال العبري”./ (ص:97) / Lord Moyne, Secrétaire d’Etat britannique au Caire, déclare, le 9 juin 1942, à la Chambre des Lords, que les juifs n’étaient pas les descendants des anciens Hébreux, et qu’ils n’avaient pas de “revendication légitime” sur la Terre Sainte. Partisan de modérer l’immigration en Palestine, il est alors accusé d’être “un ennemi implacable de l’indépendance hébreue]. لم يكن مصير Lord Moyne بأفضل حال من مصير le Comte Bernadotte ، فقد تم اغتياله هو أيضا في القاهرة يوم 6 نونبر 1944 من طرف عضوين من منظمة شتيرن Stern.

8. من المهم الانتباه إلى أن هذه الأسطورة المتعلقة بإنكار وجود الشعب الفلسطيني شكلت أساس العقيدة العسكرية الصهيونية، ومادة التأطير والتعبئة لجميع المنظمات الصهيونية التي نشأت تحت الانتداب البريطاني، والتي ارتكبت جرائم قتل وتهجير كثيرة في حق الفلسطينيين، قبل أن يتم دمجها لاحقا ضمن الوحدات التي منها تشكل جيش الاحتلال. وتعتبر منظمة شتيرن (المحاربون من أجل حرية إسرائيل) من أبرز هذه المنظمات التي أسسها الصهيوني البولندي الأصل أبراهام شتيرن (1907-1942) ، وقد ترأسها البولندي الأصل أيضا “إسحاق شامير” بعد مقتل مؤسسها ” شتيرن “؛ وتعتبر إحدى أكثر المنظمات اليهودية المسلحة إرهابا في تاريخ الكيان الصهيوني إلى جانب مثيلاتها من المنظمات الأخرى ك “الهاﭼاناهHaganah ” و”إرﭼون Irgoun ” و”بيتارBetar” و”بلماحPalmah ” . لاحقا تم القبض على منفذي جريمة اغتيال Lord Moyne وتم الحكم عليهما بالإعدام، ومع ذلك حرصت السلطات الصهيونية سنة 1975 على مبادلة رفاتهما بمجموعة من الأسرى العرب، وتمت إعادة دفنها في مكان مخصص للنُّصُب التذكارية “للأبطال” بمدينة القدس، وسط إدانة شديدة للسلطات البريطانية التي نالت نصيبها من إرهاب المنظمات الصهيونية التي نشأت في حضنها، والذي كانت أكبر تمظهراته، الواقعة الثالثة ، عندما تم تفجير جناح فندق داوود بالقدس يوم 22 يوليوز 1946، حيث كان يوجد مقر القيادة العسكرية البريطانية، وكانت حصيلته ثقيلة تجاوزت أكثر من 100 ضحية من البريطانيين والفلسطينيين واليهود.

9. بعد انتهائه من عملية التفكيك البحثي الدقيق والعميق لمنظومة الأساطير اللاهوتية الثلاثة، والأساطير السياسية الحديثة الأربعة، والتي تشكل في مجموعها الجوهر الصلب الموجه لحركة العقل الصهيوني ومخططاته، يختم غارودي كلامه عن الأساطير السبعة بالحديث عن “الاستعمال السياسي للأسطورة L’utilisation politique du mythe” متسائلا: [ كيف لمثل هذه الأساطير أن تؤدي إلى تبني ملايين الناس، من ذوي النيات الحسنة، لمعتقدات صعبة الاقتلاع؟(ص:107)Comment de tels mythes ont-ils pu susciter des croyances difficilement déracinables chez des millions de gens de bonne foi ?] . وقد توقف غارودي عند ثلاثة تمظهرات وازنة للآليات التي بواسطتها تتم عملية الاستعمال السياسي لهذه الأساطير: (1) اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية؛ و(2) اللوبي الصهيوني في فرنسا؛ و(3) تسويق أسطورة “المعجزة الإسرائيلية” في ارتباط مع التمويل الخارجي لدولة اليهود . لقد قام غارودي بمسح دقيق وموثق لنشاط ومواقف اللوبي الصهيوني في أمريكا وفرنسا وبيَّنَ بالأدلة حجم الاشتغال والتأثير المالي والسياسي والإعلامي الممارس داخل دواليب القرار الاستراتيجي لهذه الدول، من أجل تأمين استمرار وجود الأساطير المؤسسة للكيان الصهيوني وصناعة رأي عام خاضع ومسلم بها كحقائق مقدسة لا تقبل التشكيك؛ وفي نفس السياق كشف غارودي بالمعطيات المرقمة حجم الأموال التي تنهال على دولة اليهود من الخارج، والتي بدونها ستتبخر أسطورة “المعجزة الإسرائيلية” اقتصاديا وعسكريا وتكنولوجيا.

10. رغم أن غارودي كان يعلم أنه باقتحامه التشكيكي المنهجي العلمي لعالم الأساطير الصهيونية، سيعرِّض نفسه لإرهاب فكري شرس يمارسه “حُرَّاس المعبد les gardiens du temple” هذه الأساطير المزيفة، إلا أنه كمثقف مناضل وعضوي اعتبر عمله مجرد بداية تستدعي من عموم المثقفين الأحرار مواصلة العمل في هذا الاتجاه، لتجريد هذه الأساطير من قداستها المغشوشة، بسلطة العلم وبأدوات البحث العلمي الكفيلة وحدها بالتمييز بين التاريخ وبين الأساطير. وفي ختمه المُفْعم بنشوة الانتصار على الخوف من الإرهاب الفكري الممارس من قبل اللوبي الصهيوني في فرنسا، بسلاح الاتهام التقليدي بارتكاب جريمة “معاداة السامية antisémitisme” أو جريمة “الإنكارية le négationnisme” ، كتب غارودي (مستدلا بمثال أسطورة عدالة محكمة نورنبيرغ ) ما يلي : [لا يزال هناك الكثير من العمل الذي يتعين القيام به، بشرط عدم الخلط بين الأسطورة التاريخ، وعدم المطالبة باستخلاص النتائج قبل البحث، وهو ما ادَّعى إرهاب فكري معين أنه يفرضه حتى الآن: إن “تقديس” نصوص نورنبيرغ تبيَّن أنه هشٌّ للغاية/ (ص:147) / Un grand travail reste donc à faire à condition de ne pas confondre le mythe avec l’histoire, et de ne pas prétendre poser les conclusions avant la recherche, comme un certain terrorisme intellectuel a prétendu l’imposer jusqu’ici : la “canonisation” des textes de Nuremberg s’est révélée bien fragile].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى