ثقافة وفنون ومؤلفات

الفنانة التشكيلية زهور معناني… المرأة التي روّضت الألوان

في رحاب الفن التشكيلي المغربي، تنبثق تجربة الفنانة زهور معناني كصوت بصري ناعم، عميق، مغاير، لا يُشبه سواه، لأنها لا ترسم لوحات فحسب، بل تشيد عوالم من الإحساس، وتؤثث فضاءات من الضوء، وتؤرخ لحالات وجدانية تعبر الذات نحو الوجود في تشكيلات مفعمة بالتعبير، وشديدة التوازن بين العفوية والتقنية. لقد استطاعت الفنانة، عبر سنوات من الممارسة، أن تبلور أسلوبها الخاص، وتغرس حضورها في مشهد تشكيلي يعج بالتجارب، لكنها ظلت محافظة على خصوصية لغتها الفنية، تلك اللغة التي لا تعتمد فقط على جمالية اللون، بل تنفتح على طاقة داخلية تشع من كل خط ومساحة وبياض.

زهور معناني لا تؤمن بأن الرسم تكرار للواقع، ولا بأنها مجرد موثقة للطبيعة والتراث، بل تعتبر نفسها مترجمة حسية لما لا يُقال. فهي لا تنقل ما تراه العين بقدر ما تُعيد بناءه عبر مرشّح الذات والذاكرة والحدس. في لوحاتها، تحضر الطبيعة بكل تجلياتها، لكنها ليست الطبيعة كما نعرفها، بل الطبيعة التي شعرت بها، ورأتها بعين الداخل، ومرّرتها عبر عقل بصري قادر على تحويل الواقع المألوف إلى شكل مدهش، وعلى جعل التفاصيل الصغيرة مرآة لأسئلة كبرى عن الهوية، والانتماء، والحضور.

ما يلفت في أعمال الفنانة معناني هو علاقتها الفريدة باللون. إنها لا تستخدم اللون كوسيلة لملء الفراغ، بل تتعامل معه ككائن حي، كشخصية مستقلة، كطاقة لا متناهية. الأزرق، الأحمر، الأخضر، الأبيض… كلها أدوات تعبير لكنها أيضًا حوامل شعور. تتقدم الألوان في لوحاتها لتقول أكثر مما توحي به العناصر، وتلعب الأدوار الأساسية في بناء التكوين. والأهم من ذلك أن الأبيض عندها ليس لونًا سالبًا، بل هو ضوء داخلي، صمت ناطق، قرار جمالي يحدد توازن اللوحة، ويشكل مساحاتها الدرامية. لا تضع الفنانة الأبيض من أجل الفراغ، بل تُحدّده ببصيرة، تستحضره بوعي، كمن يفتح نافذة للروح وسط زحام الطلاء.

زهور معناني تشتغل بتقنية تجمع بين الحساسية العالية والاحتراف العميق. لا مكان للعشوائية في أعمالها، رغم ما توحي به من تلقائية. إن التوازن الذي تخلقه بين الكتلة والفراغ، بين الضوء والظل، بين الشكل واللاشكل، هو نتاج تجربة طويلة مع المادة، واطلاع دقيق على أسرار التكوين. أعمالها، وإن بدت أحيانًا بسيطة في هندستها، إلا أنها تحوي تعقيدًا داخليًا هائلًا، ينبني على مقاربة فلسفية للّوحة بوصفها فضاء للتفكير، وليس مجرد سطح للتلوين.

ما يجعل تجربة زهور معناني أكثر تميزًا هو أنها لا تكرر نفسها، ولا تستسلم لإغراء النجاح السهل. إنها في كل لوحة تخوض مغامرة جديدة مع اللون، وتجريبًا بصريًا يراهن على الابتكار أكثر مما يراهن على الانطباع. وهذا ما يجعل من حضورها داخل التشكيل المغربي حضورًا أصيلًا، غير منسوخ، وغير قابل للتصنيف في قوالب جاهزة. إنها تشتغل داخل الذات، ولكنها تطرح أسئلتها على العالم. تتأمل الطبيعة، لكنها تبحث عن المعنى وراءها. توثق التراث، لكنها تُعيد صياغته في شكل حداثي تعبيري.

ولعل التميز الأهم في أعمالها هو انخراطها في “إعادة تأويل المألوف”. فمن خلال استخدام الزخارف، والأشكال الهندسية البسيطة كالمثلث والمربع، تسعى الفنانة إلى استحضار الرموز الشعبية والتراثية، لكن ليس بشكل حرفي، بل كعلامات بصرية تُحيل إلى امتدادات زمانية ومكانية عميقة. إن تلك العلامات تتحول في لوحاتها إلى جُزر دلالية، تضيء اللوحة وتكسر رتابتها، وتمنحها بعدًا رمزيًا يفتح المجال أمام التأويلات المفتوحة.

زهور معناني فنانة لا تستعرض مهاراتها، بل تستثمرها في صياغة خطاب بصري داخلي، شديد الصدق، يُجسد حوارها المستمر مع ذاتها، ومع البيئة التي تنتمي إليها، ومع المتلقي المفترض. ولذلك، فإن كل لوحة من لوحاتها تنطوي على شحنة وجدانية قادرة على ملامسة المُشاهد في عمق شعوره. أعمالها لا تكتفي بأن تُبهر، بل تُفكر، وتُقترح، وتدعونا إلى الدخول في صمت تأملي طويل، كما لو أننا نقرأ قصيدة صامتة كُتبت باللون فقط.

ليس غريبًا إذًا أن تُعتبر زهور معناني من بين الأسماء التشكيلية النسائية الرائدة، التي أسهمت في إغناء الفن المغربي المعاصر، ووسّعت فضاء التعبير التشكيلي بأسلوب نابع من الأرض، ومن التراث، ومن الجمال البسيط الذي يسكن التفاصيل. لقد غمست ريشاتها في ماء وتراب دكالة، وصنعت من بيئتها المحلّية مصدرًا للإلهام، لا تنقله كما هو، بل تُعيد خلقه برؤية تُجيد المزاوجة بين البصري والوجداني، وبين الحرفي والرمزي.

إن تجربة هذه الفنانة لا تندرج فقط ضمن التصنيفات الجمالية المعتادة، بل تقترح علينا “حالة فنية” خاصة، تتجاوز اللوحة كمنتَج بصري، لتصبح مساحة للتفكير، ومنصة للتعبير عن الأسئلة الكبرى. هي تجربة تعبّر عن امرأة مبدعة، صاحبة موهبة أصيلة، وبصمة شخصية، ومشروع فني قائم على البحث، والالتزام الجمالي، والانتصار لما هو إنساني وروحي في عالم يتجه نحو الصمت البارد.

زهور معناني ليست فقط فنانة تشكيلية، بل هي ساردة بالألوان، شاعرة بالخطوط، وباحثة دائمة عن الإشراق الداخلي، تُؤثث عوالمها بصبر وتأنٍ، وتحول لحظات التأمل إلى مشاهد تشكيلية نابضة. في كل عمل من أعمالها، نلمس أثر اليد والعين والقلب. وفي كل معرض لها، نكتشف أننا لا نقف فقط أمام لوحات، بل أمام شذرات من الروح، وجمال يستعصي على الاستنساخ.

إنها ببساطة، زهور معناني… فنانة الألوان الشفافة، والنظرة العميقة، والحضور الصادق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى