كافكا في قريتنا
بقلم : رضوان كنو
عن موقع : العربي الجديد.
“كان الرجوع بكمٍّ خاو ٍ خيراً من الرجوع بروح خاوية”.
أرفع بصري عن هذه العبارة، لأطل من نافذة البيت ذات الواجهتين الخشبيتين، أستجدي منها هواء نقيا قادرا على تلطيف وقع جملة ثمينة البلاغة، ثقيلة الأثر على محاولتك الطيران انعتاقا من وحل الواقع المغربي. بلا مقاومة أو تمهيد أجدني مُسْتقطبا، مستدرجا إلى معمعته العمياء، غارقا في تأمل بقعه السوداء الأشد حِلكة الماثلة قبالتي. لا يحول بيننا سوى غبار النافذة.
رأيته حينها مارا بجسمه الصغير مُمْتطيا خطواته المتقاربة حتى لَيَظهر ساكنا. لكن قرقعة حصى الطريق تحته تصدر إثر احتكاكها بحذائه المتهالك خرخشة كصرير أسنان قوي. فأتعرف عليه فورا. هو “حْسِينا” لا غيره، بحكايته المندلقة على كل لسان، وبظهره المعقوف مع عمود فقري مثني إلى درجة الانكماش، يُغنيك مظهره عن مشاهدة أنواع الزومبي في فيلمthe walking dead على قناةmbc2 . . لا عجب ولا شماتة، إن عوائد الزمن القاسية بدت كأن لا مهمة لها سوى اغتصابه الكثير من المرات. آخرها عندما قرر خادمها المطيع مرض السكري حرمانه من ذراعه. دون أخذها منه نهائيا وإنما تركها متقيحة ملفوفة في خرقة سوداء حتى لا يتسرب وتظهر الآثار على السطح تجنبا لغثيان مرهفي الحس الذين تعودوا على مشاهدة أفلام الزومبي ومصاصي الدماء..
يقع كل ذلك على مرأى من القرن الواحد والعشرين.. وتحت إشراف الكرة الأرضية الحاملة أحشاؤها أناسا آخرين منهم أطباء يزرعون قلوبا من جسم إلى جسم..كم هي مجحفة قطعة البسيطة الساقطة الخَرِبة هذه المسماة مغربا، العاجزة عن توفير ضمادات بيضاء لأهلها. إنها حادقة فقط في توفير الأكفان بوفرة.
نسوا أو تغافلوا عن كل السنن الإنسانية ومنها تلك المسيحية التي تقول إنه إذا صفعك شخص على خدك الأيمن فأدر له الخد الأيسر. ما أداروه حينها هو عجلة الانتقام المشتعلة
أخذت قلمي كي أكتب لحسينا شيئا، شارعا أحرث بعض الأحرف بخط سيئ، فتذكرت أني مع ذلك لست بطبيب. لأواصل بعناد وحماس من حملوا قلما كأنه سيف جهاد، الكتابة عنه. ثم ألقيت عليه نظرة أخرى لأحفظ حكايته.
رأيته هذه المرة ماشيا يلفه جلباب عديم اللون لكثرة غسله بنوع رديء من مسحوق التصبين -ذاك الذي يقارنون جودة الماركات به في الإشهارات دون ذكر اسمه-. كان الجلباب أكبر من حجمه. منسدلة تلابيبه لتمس الأرض وتمسح غبارها. ليس غريبا. فصاحبنا من الأشخاص الذين لم يعرف مقاسهم يوما، لأنه عاش أمدا طويلا على صدقات الآخرين من الثياب.. خاطبه يوما أحد أغنياء القوم قائلا له أمام الملأ: “إذا أريتني قطعة من ملابسك ولو سروالك الداخلي (هذا إن كنت تلبسه أصلا) اشتريتها بنقودك، فسأقيم وليمة على شرف الحاضرين في مجلس المسجد هذا” -المسجد نفسه الذي يسمع فيه خطبا عن العطاء والرحمة بالضعفاء وشروط إسداء النصيحة-.
لم يأبه ولا أنا معه بردّة فعله. لأنه لم يعرف على ماذا يرد. هل على التكبر أم النفاق أم الجهل. لأول مرة سوف يحفظ حسينا حكمة أن الرد على السفيه السكوت. أما أنا فبقيت مشدودا لرؤيته نحيفا، نحيلا، هزيلا ككتلة نحلة داخل فراغ الكون برمته. مع ذلك جسدت نظرة خاطفة إليه ثقلا على النفس، يعادل جهد آلام مخاض ولادة، تكللت للأسف بإجهاض أو تشوه خلقي غير مسبوق، أمر مفهوم لأنك تشهد في صورت حسينا ندما حقيقيا على لحظة عظيمة في العيش ضاعت، وأضاعت معها ذرية بكاملها.
فابنه الوحيد الذي وصل للمرحلة الإعدادية مما يعني أمله الأخير قد تجرأ على أستاذ ولطمه على وجهه، ما استدعى الإدارة وأساتذة آخرين لإخضاعه إلى حصة بيداغوجية كان الرفس واللطم والصفع فرصة ذهبية لتفريغ عقد منظومة التعليم المستمرة عقودا عديدة.
نسوا أو تغافلوا عن كل السنن الإنسانية ومنها تلك المسيحية التي تقول إنه إذا صفعك شخص على خدك الأيمن فأدر له الخد الأيسر. ما أداروه حينها هو عجلة الانتقام المشتعلة.
شقيق واحد من الأعضاء المكونين لفريق بيداغوجية الصفع يعرف تفاصيل عن حياة التلميذ بحكم القرب. ولذلك ارتأى أن يتصيد إحدى أخواته العاملات في معمل التين البري الوحيد في المدينة. ويستدرجها بسيارة وأناقة تخفي درنه من الطباشير الأسود. خطط لذلك. نفذ.
فقضى وطره منها انتقاما لهفوة ارتكبها تلميذ لا يحمل من الطفولة سوى حساب العداد الرياضي الذي أعلنه في سنته الخامسة عشرة. هو اليوم مجرد فراغ في وسط قرش أو بحر بأكمله.
حينما حاول ركوب قارب للهجرة السرية. تاركا كفنا عبارة عن صدقة جارية فارغا وبدون قبر. لا شك في أنه صرح بكلمته الأخيرة في جوف الليل القاتم للبحر قائلا: إن عالمكم من البشاعة لدرجة أن الأموات لو خُيروا البعث من جديد لرفضوا ذلك الاقتراح.
أخته هي الأخرى ستكتشف لاحقا أنها حبلى بابن غير شرعي، وأنها ستكون إحدى الأمهات العازبات في قاموس سيدات الجمعيات المكلفة بالنساء والحريات الفردية. في اليوم نفسه ستكتشف فيه العائلة ضرورة بتر أجزاء من ذراع حسينا تجنبا لانتشار التقيح في باقي أعضاء جسمه.
لا أجدني هنا مجبرا سواء كشاهد أو متخيل لحالته على الاعتراف بتعاطف نحوه، ما دامت الشفقة لا تعدو فضيلة إلا في عالم المنحطين. لست مدفوعا بالقول إن حسينا أحد المستضعفين، الذين تشكل الهشاشة دائرتهم. هم الجديرون استحقاق الأخذ بيده الواحدة المرتجفة حتى تخمد أوإعادة التوازن لدقات قلوبهم. ونمنع دموعهم ودماءهم وقيحهم من التخطيط للنزول على محاجر عيونهم وخدودهم المتشققة من تجبر الزمن عليهم.