مواقِف عشتُها مع الشَّيخ فريد الأنصَاري رحمه الله تعالى
كتبه /تلميذ الشيخ المحب؛ الدكتور عبد العزيز الإدريسي
في 5نونبر 2020 م، تحل الذّكرى الحادية عشرة لوفاة الشيخ العلامة فريد الزمان الأنصاري رحمه الله تعالى وأكرم نزله ورفع قدره ومنزلته، تحل هذه الذكرى في أجواء عصيبة واستثنائية يسيطر عليها الوباء والجائحة، حيث تُوفى بسبب كورونا العديد من الأعْلام نسأل الله تعالى أن يتقبلهم في الشهداء، ونسأله سبحانه وتعالى أن يتغمدهم بواسع رحمته، ونوسل إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يرفع البلاء والوباء عن البشرية جمعاء.
وبهذه المناسبة وهذه الذكرى أحببت أن أشارك ببعض المواقف -وهي كثيرة جدا، أقتصر على خمسة منها-، التي عشتها مع شيخي وأستاذي العلَّامة فريد الزمان الأنصاري، علَّها تكون لنا تذكرة وعبرة وبصيرة، أسأل الله الرحمن أن تكون في ميزان حسنات شيخنا.
الموقف الأول : ذات عشية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة المولى إسماعيل بمدينة مكناس، حضر الشيخ فريد الأنصاري إلى قاعة الدرس، وعلامات الحمى والزكام بادية ظاهرة عليه، ورغم ذلك فقد كان حريصا رحمه الله كل الحرص على القيام بالدرس بكل إتقان شرحا وتفاعلا، بيانا وتحاورا، وبعد انتهاء الحصة، انصرف إلى مقر الشُّعب يحمل محفظته الخفيفة في يده، وبعد هُنيهة خرج الأستاذ من قاعة شعبة الدراسات الإسلامية محملا بالكتب ذات اليمين وذات الشمال، وجسده الغض بالكاد تحمله قدماه، فطلبتُ منه حمل بعض الكتب تخفيفا عنه ومراعاة لحاله، فاعتذر رحمه الله تعالى بأدب جم، آخذا بالأحوط ومتقيا لكل شبهة تكبُّر أو استغلال للطلبة!؟ فهمت قصده ورافقته إلى باب الكلية مستثمرا تلك اللحظات وهو يحدثني عن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه وأرضاه.
الموقف الثاني : عند نهاية الحصة الصباحية أو المسائية، يخرج الطلبة والأساتيذ من الكلية، وحيث إن موقف السيارات أمام باب كلية الآداب والعلوم الإنسانية، تجد بعض الأساتيذ الذي يملكون سيارة، يخرجون وأعينهم إلى الأرض تجنبا لكل إحراج، وحتى لا يضطروا إلى حمل بعض الطلبة في سيارتهم، بخلاف ذلك تجد الأستاذ فريد الأنصاري رحمه الله يبادر ويسأل الطلبة من في طريقي؟ فليركبْ السيارة، والكل يعرف وقتئذ سيارة الأنصاري العجيبة!!!
الموقف الثالث : ذات يوم في فصل الصيف، سألني مهاجر مغربي بالديار الفرنسية، عن الحكم الشرعي حول اللحية، فأحلته على عالم مدينة مكناسة الزيتون العلامة فريد الأنصاري وعلَمِها، وحيث إنه لا يعرف كيف يجده أو يصل إليه، ولا يملك هاتفه، طلبي منى أن أصحبه إلى منزل الأستاذ، انطلقنا وصلنا قرب مسجد الروى، قصدنا المنزل، طرقنا الباب، المجيب الأستاذ فريد الانصاري -الحمد لله- ألقينا عليه تحية الإسلام، ردَّ بأحسن منها، سأل عن أحوالنا، ثم استفتاه الرجل عن حكم اللحية في الإسلام؟ أجابه الأستاذ إجابة كافية شافية، ثم اعتذر -اعتذارا شديدا- عن عدم دعوتنا لشرب القهوة أو الشاي بمنزله كعادته، لأنه يعيد تنظيم مكتبه وخزانة كتبه.
الموقف الرابع : مما حكاه لي الأستاذ إحسان قاسم الصالحي حفظه الله، مترجم “كليات رسائل النور” في عشر مجلدات ضخمة للأستاذ بديع الزمان سعيد النورسي إلى اللغة العربية باستثناء كتاب” المثنوي العربي النوري” و “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز” فقد ألفها باللغة العربية ، في مدينة بورصة سنة 2013م، أن مؤسسة إسطنبول للثقافة والعلوم كانت تبحث عن من يقوم بدراسة مصطلحية لكليات رسائل النور، فقصدت الأستاذ الدكتور الشاهد البوشيخي حفظه الله تعالى من أجل القيام بهذه المهمة، فأحالهم على الباحث الواعد والشاب المتمكن من الصناعة المصطلحية والعلوم الشرعية الأستاذ فريد الأنصاري، فتعاقدت مؤسسة إسطنبول للثقافة والعلوم معه على القيام بدراسة مصطلحية لكليات رسائل النور مقابل قدر من المال-لا داعي لذكر قيمته-، وبعد مدة أنجز الشيخ فريد الانصاري العمل الذي أُعجبوا به وأثنوا عليه كثيرا، عنوان الكتاب “مفاتح النور، نحو معجم شامل للمصطلحات المفتاحية لكليات رسائل النور لبديع الزمان سعيد النورسي” طبع أكثر من مرة، فطلبوا منه يوقع على تتمة العقد ليأخذ المبلغ المتفق عليه، فأدهشهم بالموقف الآتي قائلا: أما وبعد أن تعرفتُ على مكابدات بديع الزمان النورسي وأسرار رسائل النور فلا شأن لي بالمال والمبلغ، ويكفيني فخرا وشرفا أنني اكتشفت مجددا من مجددي الدين، و فارسا من فرسان الإسلام بل هو آخر الفرسان، ورفض أن يتسلم ذلك المبلغ، رغم حرص المؤسسة على تنفيذه، وكان من بركات ذلك أن ألف رواية حول بديع الزمان وسمها ب”: آخر الفرسان”، تُرجمت إلى بعض اللغات منها اللغة التركية .
الموقف الخامس : عندما سمعت بوفاة الشيخ فريد الأنصاري يوم الخميس 5نونبر 2009، كنت في العمل في مدينة آسفي حاضرة المحيط، فدعوتُ الله تعالى أن ييسر لي حضور جنازته، فاستجاب الله دعوتي، لأن جثمانه الطاهر كان في مستشفى سماء-بتوفيق من الله تعالى زرت الغرفة التي توفي بها في هذا المستشفى- بمدينة إسطنبول بدولة تركيا، فقصدت مدينتي مكناس، فوجدتها حزينة، كأنها أم فقدت ابنها، وفي صلاة ظهر يوم الأحد 9نونبر 2009م حج الآلاف من المشييعن من داخل المغرب وخارجه، إلى مسجد الروى القريب من حي الزيتون، وكنتُ ممن حمل نعشه إلى قبره جعله الله روضة من رياض الجنة، بمقبرة سيدي عياد.
هذه المواقف وغيرها، سواء التي عشتها، أو عاشها غيري، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن حياة الأستاذ فريد، كانت مرآة حقيقية لرسالات القرآن المجيد، وأن هذه الشخصية قد اصطبغت بالحكمةكسبا ووهبا. كسباً: بما فَقِهَهُ في الدين رؤية ومنهاجا، ووهباً: بما تخلَّق به من مقامات التقوى والورع، إذ هي سبب وضع المؤمن في منـزلة التعرض لنفحات الله، التي تفتح البصائر وتنير السرائر. وهو معنى الفرقان في قوله تعالى: ﴿يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ﴾.
كيف لا ؟ وهو الذي كان شعاره الاهتداء بهديات القرآن ،وكان منهاجه التخلق بأخلاق القرآن ، حيث يقول رحمه الله تعالى:” وإنها لعمري صناعة، لا تتم إلا بتكوين المسلم القرآني، الذي يستمد صفاته، ومواصفاته، من صفات الأنبياء، ومواصفاتهم، وخصائص الأولياء، وربانيتهم، كما وردت بذلك نصوص القرآن والسنة الصحيحة أساسا، وهو أمر لا يتم إلا بوضع التصورات التربوية، بناء على هذا القصد، وانطلاقا من هذا الأساس، وإخراج البرامج العملية لذلك، نصوصا قرآنية وحديثية، وإعادة قراءة السيرة النبوية كنموذج تطبيقي، لاكتشاف سنن التربية العملية، والمعالجة التفصيلية للنفوس، والأشخاص، ثم المعالجة الكلية للظروف والمواقف، والمراحل ….
قلت : هذا المسلم القرآني الذي تخلق بأخلاق القرآن واتبع سنة النبي العدنان ﷺ، وكابد رسالات القرآن تلقيا وبلاغا، تتلمذنا على يديه في الجامعة وخارج الجامعة، فكان رحمه الله تعالى التصديق العملي لما يقوله ويكتبه ويبلغه ؟
رحمه الله تعالى وجميع العلماء والمشايخ والأساتذة
وألحقنا بهم هداة مهتدين.
كتَبه حامدًا لله مُصليا على نبيه
عبد العَزيز الإدريسي
الخميس 12ربيع الأول 1442هـ/5نونبر 2020م
آسفي حاضِرة المحيط.