كتاب «إصابات العمل في الأردن» : مساهمة في تعزيز الثقافة العمالية والنقابية
بقلم : أحمد أبو خليل.
بعد سبع سنوات على صدور كتابه الأول الذي حمل عنوان «الضمان الاجتماعي- حماية المسنين بين اقتصاد السوق والعدالة الاجتماعية»، ومستندًا إلى خبرته العملية طبيبًا في مؤسسة الضمان الاجتماعي طوال 25 عامًا، يقدم محمد الزعبي كتابه الثاني في الميدان ذاته، بعنوان «إصابات العمل في الأردن- دراسة تحليلية».
اختار الزعبي، كما يبدو، أن ينشغل بظواهر تبدو للوهلة الأولى أقرب إلى التفاصيل الاجتماعية، لكن قارئ كتابه الجديد سرعان ما سيكتشف مدى أهمية وحجم قضية إصابات العمل كظاهرة لها آثارها على المجتمع ككل، وعلى الاقتصاد أيضًا بمستوييه الكلي والجزئي، إلى جانب آثارها الإنسانية على المصابين وأسرهم.
نشأة النقاش حول ظاهرة إصابات العمل :
يعود بنا الكتاب إلى أصول ظاهرة «الحوادث الصناعية» باعتبارها أصل إصابات العمل، فالأمر يتصل بالتسبب بالأذى للآخرين أثناء عملهم أو بسبب عملهم، وهي مسألة تتصل بولادة الآلات والمصانع الكبرى والثورة الصناعية، وظهور الطبقة العاملة في أوروبا القرن الـ18. هذه التغيرات التي أحدث نقلة كبرى في طبيعة العمل وعلاقات العمل، بما يتناسب مع علاقات الملكيّة الجديدة في المجتمع الرأسمالي الصناعي الذي أخذ تطوره يتسارع.
وفقًا للكتاب، فإن الثورة الصناعية ساعدت على تطور حقول الطب والصحة والصيدلة، بما مكّنها من مواجهة المشكلة الصحية حديثة النشأة، المتمثلة بالحوادث الناتجة عن التفاعل بين العاملين والآلات الميكانيكية وباقي متطلبات العمل الصناعيّ الحديث.
يشير الكتاب إلى أن حوادث المصانع في نهاية القرن الـ19 كانت تقتل سنويًا 2% من العمال، وتتسبب بالنسبة ذاتها من العجزة، بل كانت حوادث قطاع المناجم تتسبب بقتل 6% من العمال وبمثل هذه النسبة من العجزة.
اقتصر مسار ظاهرة إصابات العمل طيلة القرنين الـ18 والـ19 على أوروبا والغرب بصفة عامة، وذلك لارتباطه بالصناعة الكبيرة والآلية، قبل أن ينتقل إلى منطقتنا.
لكن القضية سرعان ما أصبحت قضية نقاش، ومن ثم قضية صراع بين المتسبب بالضرر والمتضرر، أي بين أصحاب العمل كمالكين للمصانع والآلات من جهة، والعمال وممثليهم النقابيين والسياسيين -في مرحلة لاحقة- من جهة أخرى. وهو الصراع الذي ما زال قائمًا إلى اليوم، واتسع مع تطور الصناعة ووصولها إلى باقي أنحاء العالم، ومنه المنطقة والأردن منذ أواسط النصف الأول من القرن العشرين.
غير أن الكتاب قبل ذلك يأخذ القارئ في جولة على أشكال نقاش مسألة تعويض الضرر ومعالجته في مناطق وأنماط ثقافية متنوعة، حتى قبل المجتمع الصناعي، وكيف بدأت الأعراف في البداية ثم القوانين بعدها التعامل مع إصابات العمل، ثم انتقال المسألة من كونها قضايا فردية هنا وهناك لتصبح قضيةً اجتماعيةً واقتصاديةً عامةً وكبيرة. ويلح الكتاب في التذكير بأن القضية ظلّت دومًا ميدان صراع بين المصالح المتضاربة لطرفي العلاقة.
مع نهايات القرن الـ19، يتصاعد تطوّر العمل النقابيّ العماليّ بأشكاله المختلفة، ويبدأ الصراع حول مسألة إصابات العمل بالانتظام أكثر، وصولًا إلى ظهور فكرة التأمين، الذي يعد «الحمض النووي للرأسمالية»، (وفق ما جاء في العنوان الفرعي للفصل الثاني من الكتاب). ويسجل الكتاب مراحل تسارع قوننة علاقات العمل ككل، دون أن ينسى الإشارة إلى الخصوصيات، مثل مسألة «الدية» في الإسلام التي تتصل مباشرة بمسألة تعويض الأذى بصورة عامة.
كان من الطبيعي ملاحظة أن مسار ظاهرة إصابات العمل اقتصر طيلة القرنين الـ18 والـ19 على أوروبا والغرب بصفة عامة، وذلك لارتباطه بالصناعة الكبيرة والآلية، قبل أن ينتقل إلى منطقتنا. وترافق انتقاله مع المرحلة الاستعمارية التي صاحبها أحيانًا نقل بعض نماذج التعامل مع الإصابات إلى الدول المستعمَرة.
ظاهرة إصابات العمل في الأردن ونشأة النقاش حولها :
في الأردن، ومع الحجم الصغير بشكل استثنائي -إلى حد ما- للصناعة، فقد تأخرت ولادة ظاهرة إصابات العمل كما تأخّر نقاشها. والكتاب يتحدث عن نقل صيغة اعتمدها المستعمر البريطاني (دولة الانتداب) في فلسطين عام 1927 إلى الأردن، دون الإشارة إلى توفر حالات تطبيقية، إن وجدت أصلًا.
أقرّت أول صيغة لقانون النقابات العمالية في الأردن عام 1953، ونشأت أول النقابات العمالية في السنة التالية. يشير الكتاب إلى صدور أول قانون لتعويض إصابات العمل عام 1955، ليحل محل مرسوم تعويض العمال «البريطاني» المطبّق منذ عام 1947.
كان من الطبيعي أن تتطور ظاهرة إصابات العمل في الأردن ونقاشها والصراع حولها مع نمو حجم الطبقة العاملة ونمو حركتها النقابية وتطور الحالة السياسية في البلاد .
يتابع الكتاب تفاصيل نمو ظاهرة إصابات العمل محليًا، وتطور تعليمات تعويض المصابين وعلاجهم أو التعويض عن حالات الوفاة نتيجة العمل. وكان من الطبيعي أن تتطور الظاهرة ونقاشها والصراع حولها مع نمو حجم الطبقة العاملة ونمو حركتها النقابية وتطور الحالة السياسية في البلاد. ووفق الكتاب؛ فقد حصل في ستينات القرن الماضي تراجع في المكتسبات العمالية التي تحققت في العقد الذي سبقه، وحصلت عدة تعديلات على قانون العمل، عكست ذلك التراجع.
فالكتاب يربط بين تطورات القوانين التي نظمت ظاهرة إصابات العمل وبين التطورات السياسية في السبعينات والثمانينات، ثم يشير بوضوح إلى أثر أكبر حركة احتجاجية معاصرة؛ هبة نيسان عام 1989، واستعادة الحياة البرلمانية، على صياغة قانون العمل المعدل الصادر عام 1996، والذي تضمن مكاسب جديدة شملت ميدان إصابات العمل وتعويضات الوفاة الناتجة عن إصابة العمل.
ولا يهمل الكتاب التداخل الحاصل بين قوانين العمل والقوانين الأخرى التي تتضمن فصولًا تتصل بالإصابات وتعويضها مثل: القانون المدني، وقانون السير، وقانون العشائر وقوانين التقاعد المدني والعسكري.
من الطبيعي أن يهتم الكتاب بظهور قانون الضمان الاجتماعي عام 1978، وقيام مؤسسة الضمان الاجتماعي، ولهذا يفرد لها القسم الثاني المكوّن من ثلاثة فصول (من أصل 10). حيث يناقش أثر ذلك على تطور المفاهيم والمفردات المستخدمة في تعريف الإصابات والتعامل معها ونشوء الدوائر واللجان الخاصة، ويتضح من خلال ذلك، بدء تشكيل التجربة المحلية في الضمان الاجتماعي، وخاصة فيما يتعلق بعلاج الإصابات والمسؤولية عنه.
وذلك مع الإشارة في أكثر من موقع إلى أثر نقل الخبرات والصياغات القانونية من تجارب أخرى، أو أثر المداخلات الدولية ذات الصلة. لقد بدأت التجربة المحلية في هذه المرحلة تفرض التمييز اللازم بين حالات الإصابة، وتعويضات الإصابة، وتوقفت أو تراجعت العمومية وخلط المفاهيم الذي ميز المراحل السابقة.
تأمين إصابات العمل :
ثم يفرد الكتاب مساحات واسعة لتفاصيل ومفردات ذات طابع فني متخصص بـ«تأمين إصابات العمل»، التي يوضح الكتاب أنها ظاهرة مستقلة عن معالجة الإصابة وتعويضها، تتميز بتعقيدها الخاص، بحيث كانت التعليمات والقوانين على الدوام ميدان تعديل بناء على مجريات ونتائج التطبيق. فضلًا عن مواقف المشرع منها بين زمن وآخر.
يخصص الكتاب لمسألة تأمين الإصابات، وما يتصل بها من قياس العبء الاقتصادي لهذه الإصابات على الدولة عمومًا القسم الثالث والأخير، وهو القسم الأكبر نسبيًا، ويتساءل عن نقص أو ندرة الأرقام المحلية التي تسمح بقياس واقعيّ للظاهرة.
وفي هذا القسم كما في القسمين الأولين، لا يغفل الكتاب نقاش أثر الثقافة العامة عند أطراف العلاقة (العامل وصاحب العمل والمؤسسات الرسمية) المتعلقة بالتأمين والتعويض. ولهذا نجده يختم الكتاب بفصل تحت عنوان «الظلم والاحتيال»، يناقش فيها بعض القضايا التي برزت خلال التطبيق، من قبل كل الأطراف.
ما أهمية قراءة هذا الكتاب ؟
لم يقدم المؤلّف كتابه كعمل أكاديميّ بحثيّ، وبالتالي لم يولِ مسألة التوثيق العناية الكافية، وخاصة فيما يتصل بالبعد المحلي للقضية، ففي حين أورد عشرات المراجع التي ناقشت الموضوع وتشعباته عالميًا، فإنه يكتفي في الفصول المتعلقة بالبعد الوطني للموضوع بإشارة عامة إلى اعتماده تقارير مؤسسة الضمان في سنوات مختلفة دون إحالات واضحة، إلا في فقرات محددة، ما قاد إلى ظهور أحكام وتقييمات عامة بلا مرجع تفصيلي واضح. مع الإشارة الضرورية هنا إلى استناد الكاتب إلى تجربته واطلاعه المباشريْن على الأمور التطبيقية لعقدين ونصف، وهو ما قد يعوض نقص الإحالات إلى مراجع دقيقة.
على مدى صفحات الكتاب، لا تغيب لغة الخطاب النقابي، والسياسي أحيانًا، والكاتب بالطبع لا يخفي انحيازه، بل يحرص على إظهاره من البداية حتى النهاية، وهو يورد في الصفحة الأولى قولًا يحاول الاقتداء به كما يبدو؛ «إن أكثر عمل ثوري يمكن أن ننخرط به هو قول الحقيقة».
تتجلى الأهمية الخاصة لهذا الكتاب، في فرادته ومبادرته في مجاله وتناوله التفصيليّ. ومن المرجح أن الكاتب يطرح كتابه للنقاش والجدال، ويفترض أن مادته تشكل إسهامًا في تعزيز الثقافة النقابية أو الثقافة العمالية والثقافة العامة عمومًا.