فوكو بين علم النفس والفلسفة
وصل فوكو إلى تونس ليدرّس الفلسفة في الجامعة لمدّة ثلاث سنوات يوم 15 جوان 1966 وألقى محاضراته على منبر كلّية الآداب والعلوم الانسانيّة حتى أواخر سنة 1968 .
1- الجامعات الفرنسية قبل شهر ماي 1968 قبلت عضوية ميشيل فوكو في قسم علم النفس ورفضت قبوله في قسم الفلسفة. عندما جاء إلى تونس، سمي لأول مرة في حياته أستاذا للفلسفة، فكانت الجامعة التونسية بالنسبة إليه انطلاق تجربته لتدريس الفلسفة. وعلى هذا الأساس يمكننا قراءة كتابه أركيولوجية المعرفة الذي قد كتبه بسيدي بوسعيد بتونس، وهو كتاب ذو بعد فلسفي تنسيقي واضح قد حاول به فوكو أن يوضح منهجيته التي تختلف في أبعادها وتمظهراتها عن المنهجية البنيوية. فقد قربت اللحظة التونسية فوكو من الفكر الفلسفي المنهجي بعدما كان همه البحثي قد تأسس في علم النفس ثم في تاريخ الأفكار.
2- لم يقدّم فوكو محاضرات عموميّة خارج الجامعة إلّا في نادي الطاهر الحداد التي كانت تديره جليلة حفصية مساندة منه لنضال المرأة التونسيّة المتواصل. وقد حاضر ثلاث مرّات في نفس النادي الأولى حول البنيويّة والثانية حول الجنون والثالثة حول الرسّام الفرنسي ماناي. والمحاضرة الثالثة ذات أهمّية قصوى لأنّها تلخّص كتابا ألّفه ميشال فوكو حول هذا الرسّام ولكنّه قام بإتلافه وتمزيقه بعد مناقشة مع الفيلسوف دولوز. لذلك قامت رشيدة التريكي بتحقيق هذه المحاضرة وصدرت في كتاب عن دار لاساي بباريس. على صعيد آخر، ومن خلال هذا الوعي الجديد، نجد أن ميشيل فوكو سيعطي للفلسفة تحديداً متصلاً بالواقع، وذلك لأول مرة في تونس وهي فكرة يعرف المختصون في فلسفة فوكو أنها ستكون طاغية في كتاباته المقبلة بعد اللحظة التونسية، وأن فلسفة الحضور قد أصبحت شائعة في جامعات أمريكا في بركلي حيث تم إصدار مجلة مختصة في فلسفة فوكو بعنوان: تاريخ الحضور. إذن فبعد أن كان اهتمامه الفلسفي قد سلط على فترات تاريخية معينة كالكلاسيكية والأنوار والقرن التاسع عشر، تحول توجه الفكر الفلسفي إلى الآني وبذلك التحم بالنضال والالتزام. بل أصبح الفيلسوف في نظر فوكو ملتزماً وذلك ما قربه من سارتر، وهيأ لقاءهما في نضالات عديدة.
3- في حوار قدمه فوكو سنة 1978 للصحفي الإيطالي طرمبادوري D. Trombadori تحدّث عن سبب غيابه عن أحداث ماي 1968 بباريس فأجاب بأنه كان غائباً بحكم ضرورة بقائه في تونس لأسباب مهنية، وأضاف قائلاً بأنه لم يعايش أحداث ماي الفرنسية بكل أجزائها، فإنه كان حاضراً في انتفاضة مارس 1966 بتونس عندما خرج الطلبة إلى الشوارع. ويقول فوكو إن الفرق بين الحدثين شاسع لأن الطالب الفرنسي في حركة ماي يعرف حق المعرفة أنه في آخر اليوم سيعود إلى منزله سالماً، بينما لم تكن تلك هي حالة الطالب التونسي الذي كان عرضة إلى كل وسائل القمع، والاعتقال والتعذيب. فالطالب التونسي عندما يخرج إلى الشارع لا يعرف هل سيعود إلى مسكنه سالما أو جريحا أو ميّتا… هذه المعايشة للأحداث الطلابية من قبل فوكو كان لها أثرها أيضا في تغيير فلسفة ميشال فوكو وممارساته.
ملاحظة أخيرة : لم يهتمّ مؤرّخو حياة فوكو الفرنسيون باللحظة التونسيّة. ديدياي هريبون الذي استدعيته إلى تونس والتقى بالكثير من عرف فوكو ذكر في كتابه المعروف أنّ فترة فوكو في تونس هي فترة الشواطئ والشمس والسياحة والحياة الرغيدة دون الإشارة إلى النقط التي ذكرتها رغم أني بيّنت له ذلك بإسهاب وقد يعود ذلك إلى ظاهرة التحقير غير الواعية التي نتجت عن عقلية استعمارية مازالت راسخة في أذهان الكثير من مثقفي فرنسا. أمّا مؤرّخو حياة فوكو الأمريكيون فقد كانوا أكثر موضوعيّة وجاؤو إلى تونس للاستقصاء والبحث الدقيق واتصلوا بي وبمن عرف فوكو عن قرب وتحدّثوا عن اللحظة التونسية بإعجاب واعتبروها فارقة في حياته .
_ _ _
من “حوار مع د. فتحي التريكي: نحن شعب الجماعة وليس شعب الذات!”
حاوره: حسونة المصباحي