ليونسكو تعلن 2021 عام دوستويفسكي بمناسبة مئويته الثانية. العبقري الروسي جعل من الرواية مختبراً أدبياً وفلسفياً ودعا إلى إنقاذ العالم بالجمال
بقلم: سامي عمارة كاتب وصحافي.
دوستويفسكي الروائي الروسي الذي تحتفل اليونيسكو بذكراه :
لا أحد يعتقد أنه بقي في تاريخ الأديب الروسي ذي القيمة العالمية فيدور دوستويفسكي، ما يمكن أن يظل مجهولاً حتى اليوم، وهو الذي تنطلق منه روسيا للإحتفال هذا العام بالذكرى المئوية الثانية لميلاده في عام 1821. ولعل أحداً لا يتوقف كثيراً عما تتداوله الألسن والأقلام من حكايات عن قصصه القصيرة، وما صاغه من أشعار قلّ من يرددها أو يحفظها عن ظهر قلب، مثلما يفعلون مع أشعار معاصريه ومَنْ بعدهم، ومنهم ألكسندر بوشكين وفلاديمير ماياكوفسكي وسيرغى يسينين وآخرين. وعلى الرغم مما تتسم به هذه “الأشعار”، وهذه “القصص القصيرة” من قيمة أدبية تضارع ما أنتجه من قصص وروايات طويلة، فإن أحداً من الناشرين لم يتوقف في حينه عندها ليوليها ما تستحق من اهتمام. بل وتكاد رسائله التي اعترف بأنه كان يكتب العشرات منها كل يوم، ومنها ما بعث بها إلى زوجته، وأخرى إلى أخيه وغيرها تحظى بما هو أكبر من ذلك القدر الذي يعيرونه إلى هذه الأشعار وتلك القصص القصيرة.
سيرته الذاتية عامرة بالأتراح والأحزان، منذ تخرج في “مدرسة الفنية العسكرية الإمبراطورية”. هجر العمل مهندساً وتحول إلى ما لم يوفر له لقمة عيش أو كوباً من الشاي! تحول إلى الأدب الذي ذاق مع بداياته مرارة الحرمان وشظف الحياة، وتكبد آلام خيبة الأمل والخلاف والاختلاف. تجرع تبعات الخروج عن المألوف والسقوط في شرك الإغراق في التشاؤم. استمتع بكل أشكال الحرية التي سرعان ما ألقت به في غياهب السجون وكان على شفا تنفيذ حكم الإعدام الذي صدر بحقه، قبل أن يُخفف الحُكْم بآخر يقضي بالأشغال الشاقة. قالوا إن دوستويفسكي شخص مريض، وإن اعترفوا له بعبقرية اللغة، والصدق، مؤكدين في الوقت نفسه أنه كان “صعباً للغاية”. وفيما أعرب البعض عن إعجابه بما جادت به قريحته من روايات وقصص وأشعار، فإن هناك من اعتبر الكثير من هذه الأعمال “ثقيلة، صادمة، غير مبهجة”، إلى جانب آخرين وجدوا فيها ما يدفع إلى التفكير والتبصر بكل ما تتضمنه من أفكار فلسفية، دينية في بعض جوانبها”، تتسق مع ما يُنْسَبْ إليه من قول مأثور “إن أفظع ما في القضية في نظري هو أنني فهمت كل شيء”، وإنه “لا يكفي أن يكون المرء ذكيًا حتى يتصرف بذكاء”.
الشخصية الفريدة: صاحب “الأخوة كارامازوف” :
كان فيودور دوستويفسكي شخصية فريدة، شديدة التميز بكل تقلباتها وتعرجاتها التي تركت بصماتها على إبداعاته بما ضمن لها التميز والتفرد “شكلاً ومضموناً”! حياته كانت مليئة بالأحداث الدرامية والمأساوية، فيما كشف إنتاجه عما تراكم لديه من خبرات، وما اعتمل في نفسه من مشاعر، وما عاشه وعايشه من أحداث. رأى العالم بعيون جمعت بين إعجابه وتقديره للجمال الذي قال عنه “إنه ينقذ العالم”، وبين القبح والفقر اللذين وجد فيهما ما يمكن أن يكون حافزاً نحو التغيير، وما يتكئ عليه في دعوته إلى الثورة. وثمة من يقول إن ذلك ما يجده المرء في رائعتيه “المساكين” و”الفقراء” اللتين اهتم فيهما أكثر بالحالة النفسية للإنسان وما يتركه عليه المجتمع من تأثير وبصمات. ويقولون أيضاً إن دوستويفسكي توغل عميقاً في النفس البشرية ليصوغ أسطورته “الجريمة والعقاب” بكل مفردات عالم الجريمة ونظريات فرويد، وتفسيرات علم النفس. وأدمن القمار والمغامرة قبل أن يجلس لتسجيل ما عاشه من مآسٍ وأحزان في دراما “المقامر”، واستمتع بأمسيات وليالي سان بطرسبورغ لينظم معشوقته “الليالي البيضاء”، بكل ما تحمله بين طياتها وثناياها من أطياف الشيء ونقيضه.
ولعل ذلك كله ما جعله أكثر المؤلفين الروس ممن تتم العودة إليهم، والاستشهاد بما تيسر لهم من أقوال مأثورة. وقد تجلت أهمية أوعظمة روائعه وإبداعاته، في ما حرص العالم عليه من نقلها إلى مختلف اللغات، لتغدو مادة ثرية للتفكر والدراسة، قبل أن تكون تراثاً فنياً يعكف على استيعابه علماء الأدب، والباحثون وممثلو الأوساط الفنية والثقافية ممن نجحوا في تحويل الكثير من هذا التراث الأدبي إلى عروض مسرحية وأفلام حظيت بالكثير من الاهتمام العالمي، ومنها “الإخوة كارامازوف” و”الجريمة والعقاب” وغيرهما من درر الأدب العالمي. وننقل عن الأدبيات الروسية ما قالته حول “أن نظرة فيودور دوستويفسكي للعالم والإبداع والحياة منسوجة من أكثر الأضداد تطرفاً”. ولما كانت مواقف ووجهات نظره تغيرت خلال مسيرته الإبداعية، فقد وجدت انعكاساتها في ما حدث من تغيرات طرأت على نظرته إلى العالم. وبهذا الصدد قال نقاده “إن أعماله خلال الفترة المبكرة من نشاطه الأدبي اتسمت بالمؤثرات الرومانسية والعاطفية، التي انتقل معها من تقاليد المدرسة الطبيعية إلى علم النفس المتعمق”. أما الفترة الثانية لنشاطه الأدبي (ستينيات القرن التاسع عشر) ـ فقد سجلت خيبة أمله في ما اعتنق من أفكار اليوتوبيا الاشتراكية، كمقدمة موضوعية لولوجه أبواب المرحلة الثالثة – مرحلة ازدهار الإبداع، عندما تخلى الكاتب عن أشكال النضال المتطرفة والعلنية والثورية، وأثبت نفسه في قناعاته الدينية والأخلاقية”. وخلص هؤلاء النقاد إلى أن دوستويفسكي دافع في ما كتب عما وصفوه بـ “القوة النشطة والتنويرية لبناء الحياة المسيحية”. وقالوا إنه “كان يعتقد أن الأرثوذكسية باتت مدعوة لتوجيه روح الناس وتعظيم حياتهم”، بما يعني وبحسب اعتقادهم “أن فيودور دوستويفسكي كان سابقاً لعصره”.
مادة الرسائل.
على أن ما كان من رسائل سبق وأشرنا إليها لفيدور دوستويفسكي، إلى كل من زوجتيه الأولى ماريا عيسايفا، والثانية أنًا أو أنكا، وهما اسمان للتدليل على الاسم الأصلي أنًا غيورغيفنا، وإلى شقيقه الأكبر ميخائيل وغيرها من الرسائل التي كان بعث بها إلى نظرائه من نجوم العصر وعدد من أبرز رموز الأوساط الاجتماعية في ذلك الحين، تظل جزءاً لا يتجزأ من تراث الأديب العالمي. ومع اعتراف صاحبها بأنه “لا يجيد ولا يحب كتابة” هذا النوع من الرسائل التي كتب منها العشرات يومياً، فقد حظيت باهتمام الناشرين ممن راحوا يتسابقون لإصدارها في مجلدات، لعل أهمها ما صدر عن ترجمة خيري الضامن أحد أهم شيوخ المهنة. وقد وصف الضامن هذه الرسائل التي أصدرها في مجلدين يضمان ما يزيد على 250 رسالة تتناول جميع مراحل العمر منذ رسالته الأولى إلى أمه ولم يكن تجاوز الثانية عشرة، بأنها “أعظم رواية وثائقية في تاريخ الأدب العالمي”. ومن اللافت أن خيري الضامن “اعتبر هذه الرسائل بمثابة المختبر الأدبي التجريبي الذي شحذ فيه دوستويفسكي موهبته وطاقاته الإبداعية، بما جعلها تلعب دوراً كبيراً في خلق كاتب متميز ليس كغيره من سائر الكتاب”.
ولعل ذلك كله لا بد أن يكون في صدارة المشهد الأدبي والثقافي لعام 2021 الذي أعلنت منظمة اليونسكو برامجه ضمن الاحتفالات بالذكرى المئوية الثانية لميلاد دوستويفسكي، ليس فقط في روسيا، بل وفي مختلف بلدان العالم. وذلك أيضاً هو ما توقف عنده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين كثيراً في لقائه مع وزيرة الثقافة أولغا ليوبيموفا خلال الأيام القليلة الماضية لدى مناقشة ما سوف تقدمه روسيا وأوساطها الثقافية ضمن برامج احتفالاتها بهذه المناسبة على مدار العام.