التاريخالواجهة

القائد الوزير سي عيسى بن عمر العبدي بين الحقائق الموثقة وإفتراء المعتدي

منقول عن صحيفة مدينة اسفى

محرز سياسة الحواضر والبوادي
ومقري الروائح والغوادي
أبو الابطال والليوث
ومصب مسيل الاكرام والغيوث
من قامت بحسن تدبيره الخلافة على أقوم الأركان
وصارت به جموع الضلال في خبر كان
الفقيه الوزير
الرئيس الأجل الشهير
الذي لم يزل في امحاض النصيحة يعيد ويبدي
السيد عيسى بن عمر العبدي .(1)

ولد القائد عيسى بن عمر العبدي سنة 1842 بدوار أولاد محمد قبيلة البحاترة منطقة عبدة ، وفي سن الخامسة التحق بالكتاب القرآني، و كان ينتمي إلى أسرة غنية و نافدة اشتهرت بالحكم و الجاه و المال ، مما جعله يتقن فنون الفروسية و الرماية و فنون القنص بالصقور .(2)

أبان في شبابه عن كثير من المناقب والكفاءات، جعلت شقيقه القائد محمد بن عمر يؤثره عن غيره من بنيه وأهله ، ويعتمده خليفة له،(مدة 15سنة) فأظهر تفوقا في كل المهام السياسية والعسكرية، التي أناطه بها، مما أكسبه صيتا حسنا واعتبارا وازنا بدار المخزن،(3)
وفي سنة 1879 تولى سي عيسى القيادة، بعد وفاة أخوه القائد محمد بن عمر، بظهير من السلطان المولى الحسن الأول.

وكان العبدي من أكثر الناس أطعمة ومن انداهم يدا ولا يعرف القليل من أي شيء .(4)
تتكون حاشية القائد من 150 مستشارا وعدد من الفقهاء والكتاب وقائدين شرعيين ومضحك خاص.(5)
كان محافظا على الأصول يقدر مسؤولياته ويقوم بواجباته الدينية في وقتها ويلزم أبنائه وحاشيته بمشاركته الصلاة، كان يحلو له أن يردد باستمرار أن قصبته تشبه الزاوية حيث منع دخول كل أنواع المحرمات إليها فلم يسمح لاية شيخة او راقصة بربرية يتجاوز عتبة قصبته سواء بعبدة او بدوره الأخرى،(6)
وحتى وفاته لم تخالط ولم تدخل داره شيخة أو راقصة.(7)

بجانب هذا كانت أذواقه بسيطة وعاداته صارمة، حيث لا يبرح راقـص أو «شيخة» عتبة قصبته ودوره بفاس ومراكش، وبامتلاكه لطافة ومجاملة كاملة…،(8)

يقول الاستاذ :مولاي احمد بلبهلول في
“القايد سي عيسى بن عمر العبدي تاريخه وبطولاته”
فإن القائد عيسى بن عمر كان يجالس العلماء و الفقهاء مجالسة تتخللها حوارات و نقاشات و تبادل الآراء في أمور الدين و الحكم و السياسة و من بين العلماء : أبي شعيب الدكالي ، الفقيه بن زروق الجرموني ، محمد بن سليمان العبدي و غيرهم.
(وفي عهده منع الاقتراض من التجار اليهود لأنهم يقرضون بالربا).

يحكي الباحث مصطفى فنيتير في كتابه “عيسى بن عمر قائد عبدة 1879-1914”
فعلى باب المحكمة كان يقف مخزنيان من خدام القائد مهمتهما ادخال المتقاضين بالتتابع لقاعة الجلسات، فيقوم القائد باستفسارهما عن طبيعة الدعوى، ويستجوبهما لمعرفة جميع عناصر القضية ثم يستعين بأراء الفقهاء والعدول، ومن خلالها كان يستقي حكمه، وقبل إصداره كان يردد دائما، (اللهم اجعل التقليد على من قال لي) لذلك فان القائد في أعين المتقاضين لم يكن مستبدا ولا جائرا، لأنه لم يكن يصدر الاحكام بمفرده، بل العدلان اللذان يحكمان بما تنص به الشريعة وبما يلائم الأعراف.
وفي هذا كتب مؤرخ عبدة الأستاذ إبراهيم كريدية :
فقد كان يستصدر الأحكام القضائية من الفقهاء الحاضرين وبينهم علماء كبار مثل الفقيه بلعطار ،وعند نطقهم بالحكم يقول السي عيسى “اللهم اجعل تقليده عليهم “، ويأمر بتنفيذ الحكم سواء كان براءة أو سجنا أو قصاصا.

شغل “القائد” منصب وزير البحرية (الخارجية) في حكومة المولى عبد الحفيظ.
ثم تولى وزارة (الشكاية) لكنه قدم استقالته، منذ سنة 1913.(9)

يصف الطبيب الفرنسي فيسجربر القائد فيقول.
القائد عيسى بن عمر، الذي يقارب وقتها 70 سنة، ينحدر من أسرة حجازية الأصول، هو نموذج للسيد العربي الكبير: هيئة جميلة ونشيطة بوجه حروفه معقوفة وشيئا ما بُني اللون، إطاره لحية رمادية قصيرة، وعلى الرأس عدة لفات لعمامة من حرير موصلي أبيض، قامته متوسطة وبدون مثقال زائد من الشحم، يظهر دائما ملتحفا في «حايك» بياضه نقي، لقد كانت يداه ورجلاه الأرستقراطيتان موضوع عناية بكثير من التدقيق والتدنيق، وبفعل معاناته من داء المفاصل ومن جرح قديم في الرجل، كان يمشي بصعوبة، لكنه يبقى مع ذلك فارسا شديد البأس لا تخيفه جولة راكبة على مسافة 100 كلم، لقد عُرف كمحارب وقناص كبير محب للخيل والسلاح والعدة الفاخرة وكلاب السلوقي وصقور الصيد.

وبالحديث عن فترة تمرد فخدة أولاد زيد يقول مصطفى فنيتير
” لكن سرعان ما ظهرت احداث داخل إيالة القائد عيسى بن عمر بعد قيام أولاد زيد وهم فخدة من قبيلة البحاترة بتمرد ضد القائد، وذلك بتاريخ “12محرم 1313هـ” 5 يونيو 1895م.”
كما يشير باحثون الى أن فرنسا هي من كانت تدعم هذا التمرد بالسلاح عبر مرفأ “كاب كانتان” (البدوزة) لاضعاف القائد وخلق حالة من الفوضى تمهيدا لاحتلال المغرب وهي فترة عصيبة اشتهرت عند المغاربة بزمن “السيبة” قامت فيها أولاد زيد بأعمال السلب والنهب وقطع الطرق ونشر الرعب
.
” فزادوا في الظلم والعدوان والفساد في الأرض فاخذوا ينهبون الناس في واضحة النهار، و”يأتون بأموال الناس، فتباع برباط آسفي بأبخس الأثمان، وصاروا يبحثون عن شيعة عيسى بن عمر، ” فيقبضون على كل من فيه رائحة القائد المذكور ويهددونه بالقتل…فإذا أعطاهم دراهم أطلقوه، فعم الخوف مدينة آسفي، فانسدت الطرقات وانتشر الفساد، وحاصروا آسفي، وقطعوا عنه الواردات، حتى ضاق الأمر بأهل آسفي”(10)
فافتقد الزرع واللحم والحطب، (11)
لكن القائد عيسى أخذ يتودد إلى قبيلة البحاترة (منها فخدة أولاد زيد) و يتملقها، فبذل العطاء،
وزاد على ذلك بأن “سرح المساجين وألان الكلمة وخفض الجناح. وفي مرجع آخر أنه ” قال لهم احكموا أنفسكم بأنفسكم “(حكم ذاتي تحت سلطة مركزية)(12)
وأظهر للقبيلة كل انعطاف ورضى.(13
وأظهر المنة والعرفان لوجهاء قبيلته وإيالته و”جزى كبرائهم عن حسن استقامتهم خيرا. فراح يكثف من وساطاته لحمل الثوار على القبول بالصلح، فاستشفع الشرفاء الغنيميين.(14) وأولاد سيدي عبدالله بن احساين،
كما بعث لهم بأغطية الشيخ أبي محمد صالح ولي أسفي، وسيدي بلعباس ولي مراكش، وسيدي عبدالله أمغار ولي الجديدة. (15)
فكان جواب أولاد زيد وزعمائهم هو الرفض التام، ” فلم يقبلوا صلحا إلا حربه وهدم داره،
كما ورد الأمر السلطاني لعامل آسفي حمزة بن هيمة وامنائها واعيانها ليتوسطو من أجل الصلح، وفعلا قام عامل آسفي واحضر وجهاء عبدة واشرافها واستدعوا رؤساء الفتنة ، فكان الصلح ، وتفرق الناس وأمنت السبل، إلا أن أولاد زيد نقضو العهد مرة أخرى، بل شرعوا في إقامة الكمائن وجعلوا يهجمون على الناس، فقد نكث ثوار أولاد زيد عهد الصلح بعد شهر واحد من عمره، وعادوا إلى مقاتلة قائدهم ، الذي لم يسعه أمام حربهم الاستنزافية إلا أن يكاتب السلطان ويطلب إليه تحقيق ثلاث مطالب…، أولها حجز أملاك أولاد زيد بآسفي، وثانيها استنهاض عمال دكالة لدعمه، وثالثها بيعه أسلحة وذخائر يؤدي ثمنها لاحقا ؛ فأجابه السلطان الى ماطلب (16)
واصدر السلطان المولى عبد العزيز أمره إلى عامل آسفي بشد عضد القائد عيسى بن عمر العبدي للقضاء على فتنة أولاد زيد واستعادة الأمن، فكانت المعركة الفاصلة داخل أسوار مدينة آسفي
يقول:أحمد بن محمد الصبيحي السلاوي
واستمر القتال متواصلا حتى “وقـت الظهر ،ثم استؤنف في اليوم الموالي، وكان يوم جمعة، فأدى تواصل القتال إلى إلغاء صلاة الجمعة بالمسجد الأعظم ومسجد الرباط ثم تجدد القتال في صباح يوم السبت الموالي، فانهزم الثوار و”علقوا علم الغلبة ، ولاذوا بالفرار إلى ضريح الشيخ أبي محمد صالح مع أهليهم المقيمين جوار الضريح.
و تعقب القائد عيسى بمعية أصحابه ما بقى من زعماء أولاد زيد، وحتى المستحرمين منهم بضريح الشيخ أبي محمد صالح، دخلوا عليهم، و” قتلوا منهم في جانب الضريح”.

رغم كل ما قيل و يقال عن القائد السي عيسى العبدي فإن الكل قد أجمع بأنه كان رجلا وطنيا بدليل رفضه التعامل مع المستعمر .
يقول الاستاذ ابراهيم كريدية أرى أن الزوغي (مخرج فيلم خربوشة) اعتمد تاريخ المستعمر الحاقد على عيسى بن عمر وعلى ما يروجه العامة عن جهل، وفي محاضرة للمصطفى فنتير بآسفي 27 أبريل 2019 ، تساءل المحاضر بناء على عدة قرائن تاريخية، ألا تكون قضية خربوشة من صنع المستعمر، جند فيها بعض أعوان إدارته من أمثال أحمد الصبيحي للتشنيع بعيسى بن عمر وتبخيس سيرته وتاريخه.

فهو (القائد.) لم يقدم اي سند للقوات الفرنسية فلم تنس الإدارة الاستعمارية ذلك وبدأت في التخطيط لإنهاء حكم عيسى القبلي وخصوصا أنه رفض مرارا أن يكون تحث وصاية المراقب المدني لضوابط الشؤون الداخلية الفرنسي.(17)
إن ماتحفظ به الذاكرة الشعبية نقلا عن عيسى بن عمر نفسه انه كان يقترح على السلطان عبد الحفيظ استغلال التنافس الفرنسي الألماني حول المسائلة المغربية والعمل على تعميقه
واستغلاله قصد الاستفادة منه للتخلص من الهيمنة الفرنسية.(18)
يقول الأستاذ إبراهيم كريدية: “الثابت عندي أن القائد كانت له ميول نحو الألمان فقد كان يدعو المخزن المركزي إلى الانفتاح عليهم وتكثيف العلاقات بهم والتقوي بهم في مواجهة الأطماع والضغوط الفرنسية التي زادت بعد معركة ايسلي سنة 1844.”
يضيف مصطفى فنيتير في كتابه، ان القائد كان لايتسلم رسالة من الأجانب إلى بعد ان يضع على يده قطعة من القماش (طرف من سلهامه احيانا) وإذا كان مضطرا لمصافحة أجنبي فإنه يبادر إلى غسل يديه بسرعة حيث كان صاحب “الطاس” يرافقه دائما في مثل هذه المناسبات.
فكان من امر السلطات الاستعمارية الفرنسية أن وضعت خطة جديدة للتقسيم بقيادة عبدة وتجريد القائد من قيادته.
مما جعل القائد يتنازل عن القيادة في شهر يوليوز 1914 معلنا رفضه لهذه القرارات.
وبعد ذلك حصل القائد العسكري الفرنسي schultz شولتز على الاذن بنقله إلى مدينة سلا
وكان مقررا أن يكون الطريق بحريا خوفا من اثارة القبائل من أنصاره ولكنه توجس خشية من أن ينفى خارج المغرب فطمأن السلطات الفرنسية ان الطريق البري سيكون أمنا من كل اضطراب حين عبوره(19)
توفي القائد عيسى بن عمر بمدينة سلا يوم الاحد 7صفر1343موافق 6 شتنبر 1924 عن عمر 82سنة ودفن بمدينة سلا، غير أن أولاده نقلوه إلى عبدة.
حيث تلقاه أهلها بكثير من حزن والاسى ، عليه وكأنهم يتأسفون على ماض مفقود، مما ادهش المراقب المدني آنذاك Le Glay لوكلي، وتسائل أمام هذا المنظر المحزن بقوله”أليس هذا دليل على ان هؤلاء السكان يسخرون منا؟..”(20)
ولقد خلف القائد 29 إبنا و 18 بنتا
اما زوجاته خلال حياته فهن
الزوجة الأولى: كانت ابنت عمه القائد أحمد بن عيسى
الزوجة الثانية: (أم هانئ) بنت القائد اوبلة الرحماني
الزوجة الثالثة: (السيدة فاطنة) أرملة السلطان مولاي محمد أب مولاي الحسن الاول وهي التي نقلت عادات مدنية متقدمة لبيت القائد بعبدة.
الزوجة الرابعة: (عيطونة) بنت القائد بن أبا قائد قبيلة احمر
الزوجة الخامسة: (البيضة) بنت الحاج محمد بن ملوك شيخ فخدة أولاد زيد !
الزوجة السادسة: (شوميسة) بنت شيخ زاوية السي الصغور البزيوي قبيلة بزو.(21)

يقول فيسجربر .
لقد تعرفت على السي عيسى في سنة 1898 خلال «الحركة» الأخيرة للمولى عبد العزيز ضد القبائل الثائرة، وكان وقتها في ذروة وأوج قوته حيث يمتد إقطاعه من الواليدية إلى ما وراء تانسيفت ومن الشاطئ إلى 60 كلم من مراكش، لكن تأثيره كان يتسع أبعد من هذا ليقارب أجزاء من دكالة والرحامنة وشيشاوة والشياظمة وحاحة.
لقد كان السي عيسى أهم حاكم ترابي داخل الإمبراطورية الشريفة.

*المراجع
(1) محمد الغالي السنتيسي “الدرر اللفظية في المملكة الحفيظية” الخزانة الحسنية

(2)الاستاذ :مولاي احمد بلبهلول:”لقايد سي عيسى بن عمر العبدي تاريخه وبطولاته…”

(3) الأستاذ إبراهيم كريدية: وله أربعة مؤلفات في الموضوع
1- القائد الوزير عيسى بن عمر بين خدمة المخزن ومواجهة الاستعمار.
2- القائد عيسى بن عمر وثورة أولاد زيد وواقعة الرفسة.
3- عيسى بن عمر العبدي وحقيقة القائدالمتسلط والسفاح.
4- دار القايد السي عيسى.

(4)المختار السوسي كتاب “حول مائدة الغداء”

(5) الصحفي الفرنسي ديسكوس ليون أوجين أوبان
كتاب «مغرب اليوم» طبع سنة 1904

(6) الاستاذ مصطفى فنيتير كتاب “عيسى بن عمر قائد عبدة 1879 ـ 1914″تقديم ابراهيم بوطالب

(7) ابراهيم كريدية

(8) الطبيب الفرنسي فيسجربر كتاب «على عتبة المغرب الحديث» عن منشورات «لابورت» 1947، كتبه بعد 15 سنة من المعاينة والمشاهدة الشخصية

(9) سعيد الجدياني: آسفي اليوم 2015

(10)المؤرخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد الزيدي الجحشي الكانوني العبدي، الملقب “بابن عائشة”

(11) الفقيه الأديب المفتي أبي عبد الله محمد بن احمد التريكي الآسفي المتوفى سنة 1924

(12) الفقيه الكانوني العبدي”جواهر الكمال في تراجم الرجال” و”علائق آسفي”

(13) أحمد بن محمد الصبيحي السلاوي

(14) لكدالي محمد، قيادة عيسى بن عمر من عهد الحسن الأول حتى سنة 1912،بحث لنيل الإجازة ،جامعة الحسن الثاني،الدار البيضاء، ص17 .

(15) علال ركوك، المقاومة وبعض أوجه التاريخ الاجتماعي من خلال النصوص الشفاهية والمغناة، أطروحة لنيل الدكتوراه،طبع المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير،

(16) الفقيه الكانوني العبدي: مؤرخ آسفي

(17) عبد الرحيم بودرة:تاريخ عبدة ومجالها ( أحداث ووقائع)

(18) مصطفى فنيتير كتاب “عيسى بن عمر قائد عبدة 1879 ـ 1914”
(19) عبد الرحيم بودرة: باحث في تاريخ المغرب

(20) مصطفى فنيتير كتاب “عيسى بن عمر قائد عبدة 1879-1914
(21) نفسه•

{جمعه وقيده العبد الفقير لرحمة ربه
غفر الله له ولوالديه وأحبابه وأهله}
أبو محمد العرش بن محمد الطيب

Abdeslam Hakkar

عبد السلام حكار مدير الموقع وصحفي منذ 1998 عضو مؤسس بالتنسيقية الوطنية للصحافة والإعلام الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى