ثقافة وفنون ومؤلفات

سؤال العقرب قصّة نورالدين حنيف أبو شامة.

***

كم يسعنا من جهدٍ كي نمحوَ من كينونتنا كلّ الممكناتِ لنُبْقِيَ فقط على عامرِ الاحتمالات؟ هذا السؤال أرّقَني و قضّ مضجعِي مراراً و أنا في كامل رغبتي أن أغطّ في نومتي بعد سحابة نهارٍ مجهد. كنتُ أغبِطُ صاحِبي و هو يشخرُ على سرير الحطبِ دون إحساسٍ بالزمن.

كنّا قد انتهينا من جمع محصول العام من غلّة القمح و الشّعير. و كنّا نبيتُ الليل في الخلاء، حمايةً لرصيدِ تعَبِنا من اللصوص. كانَ الزمنُ في عمقِ وجودي هذه الليلة عدوّاً يمشقُ سيف الأرق في وجهِي، و يحوّل مُدْرَكي للثواني و الدقائق و الساعات إلى دهورٍ من التفكير. قلت لنفسي: إن هي إلا فكرة، فلِمَ هذا الأرق؟ رددتُ: ليس بيدي حيلة، فأنا مؤرّقٌ مختارٌ لأنّ الفكرة الآن نواةٌ وغداً هي مشروع كتاب.

استغْربتُ لفكرةِ الزمن التي تبدو لي الآنَ ماكرةً جدّاً و مستعصية على الحدّ و التحديد و سياجات المفهوم. فما أعيشُهُ أنا دهراً ممتدّاً و طويلاً مُمِضّاً، يعيشهُ صاحبي الغاطُّ في النوم دقائق معدودة. و سيأتيك بالخبرِ الصباحُ القريب عندما تسأله كيف قضيتَ الليلة؟

أخرجْتُ منْ قِرابي قلماً و قرطاسا، و شرعتُ تحت ضوء شمعةٍ وجوديّةٍ في تدوين تهويماتي اللّذيذة عن الزمن و الليل و الوجود و الكينونة. فجأةً لفتَ نظري مرور خنفساء في هزيع هذا الليل، سوداء تفخر بسوادها في مشيتها البطيئة. و من قال لك إنها بطيئة؟ أنت الآن خارج منطق الكينونة، مادمتَ قد حكمتَ عليها بالبطء بمعيار خطوكَ البشريّ و خطو بغلك و خطوِ بغلةِ صاحبك. و لِمَ لم تتقمّصْ كينونتها كي تعرف هل هي في بداية سرعتها أم في سرعتها النهائية، و هل هي تسير بأمان أم تركض هاربة من خطر محدق؟ و هل و هل و هل…؟

غلَبْتَني أيها الأنا المحاور و المُجادل و المُورّط. و كيف لي بهذا العلم و ما أوتيتُ منهُ إلا قليلا؟ أنت من تجرّأ و نظر إلى الخنفساء و حكم على وضعها في السير. و لو غضَضْتَ الطرف عنها لما أقحمتَ ذاتكَ في هذا السؤال الوجودي. و لكنني جد سعيدٍ بهذه الورطة، فهي على الأقل تمدّني بمادّة دسمةٍ للتحبير و التعبير.

إذن أكتب وجودها في وجودك، و اضمم خطوها إلى خطوك، و سترى عجبا.

ضممتُ يراعي إلى صدري و قررتُ النوم مثل صاحبي كي أعيش بقية الزمن خاطفاً مخطوفاً مثله. لكن النعاس فرّ من أجفاني و عاداني و خاصمني. و بينما أنا أهمّ بالتمدد، إذا بي أسمع خشيشَ الهشيم، قلّبتُ مكانَه فضولاً منّي فإذا هي عقربٌ تتربص بيَ الدوائر. انتابتني قشعريةُ خوف من طبيعة بشرِيّتي التي بناها تمثّلي لهذه الحشرة و الذي صاغهُ أبي و أمي و جدّي و جدّتي و كلّ الذين ذاقوا وبالَها. حملتُ في غير تفكير نعلي و هممتُ بضربها، فإذا هاتفٌ داخلي يمنعُني من ذلك.

تذكّرتُ مقولةً قديمة كانَ يلوكها أهل الدوار و أنا في نعومة أظافري تقول ( إذا رأيت الخنفساء فاعلم أن العقرب تتعقّبها )…

هذا الخبر القديمُ صمّم قراري أن لا أقتلها. و أن أتمعن في خلقتِها و هي تهيم على وجهها باحثةً عن شيءٍ أجهله تمام الجهل. أفرغتُ ذهني من كل التمثّلات القديمة عن هذه الحشرة و صمّمتُ أن أقرأها في وجودِها لا في وجودي، و أن أشرحها في كينونتها لا في كينونتي المبرمجة. و وجدت أن أقرب آلية لفعل و تفعيل ذلك أن أسألها مباشرة دون ليّ أعناق مفرداتها في تأويلاتٍ محتملة. أسعفيني أيتها العقرب بممكنات الاحتمال في صورتك و في ماهيتك و في هويتك…

قالتْ: أراك تخلص لمقدمتك. و تريد أن تقبض على فائض المعنى، و عامر الاحتمالات من خلالي أنا النكرة في أرض الله الواسعة… و ما الضيرُ في ذلك سيدتي العقرب؟

ها أنت تفكّ أول خيط لكَ في التيه و الضياع يا عاقلاً يمتلك القلم و القرطاس. و كيف ذلك يا سيدتي؟ أنا أوضحُ لك: أنت تُخاطِبُني بخطاب الأنثى. و تخاطبني بيقين لأنك كرّرتها مرّتيْن. فما حملك على هذا الحسم و القطع و البثّ في جنسي و نوعي؟ و لِمَ لا أكونُ عقرباً ذكرا؟

أحسستُ بالخيبة و قد سقط في يدي… فهذا كائنٌ لاعاقل يبزّ عاقلا. فسبحان من وضع سرّه في ضِعاف خلقه. فكرتُ في أن أسألهُ أسألَها عن جنسه عن جنسها فأحجمتُ حتى لا أصغرَ في قرنيْهِ في قرْنيْها… ربّاهْ ! ما هذا العذابُ النازحُ من تَلَفِي في استعمال الضّمائر؟! و هل من مخرجٍ لي من هذا المأزق؟ سمعَ العقربُ أو سمعتْ مقالتي و قد همستُ بها فقط، فأدركتُ أنني لا أملك التأويل الصحيح أو المتاخم لكينونة العقرب و الخنفساء و البغلة و البغل. قال، قالتْ: اسألني و أنا أجيبُك. قلتُ: لا… و شكرا لتعاونك بفتح حرف الكاف و كسره، و ما انكسر شيءٌ سوى عقلي الّذي عجز عن اقتحام هذه الحشرة المتناهية في العمق.

استمر العقربُ في تجاهله لوجودي المستكين إلى عبث السؤال، مرّ بجانب صاحبي الّذي لا يسأل و لا يُسأل و لا يتساءل. و أذكر أنني لم أخشَ عليه من غدر العقرب و لم أدرِ لِمَ … و لكنني تذكّرتُ مع ذلك نظرة العقربِ لي في عتاب يهمس لي أنني عندما فكرتُ في غدرهِ لم أفقه بعدُ كينونته و لم أفقه أيضاً عمق الاحتمال الّذي أبحث عنه في ماهيات الوجود و الموجودات…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى