حسن القشاوي
إسرائيل التي خطفت من الفلسطينيين وطنهم، وادّعى البعض فيها أنّ اليهود هم بناة الأهرامات، تحلم منذ عقود أن تسلب من مصر مكانتها التي لا تبارى في كونها عقدة النقل الملاحي الدولي. فإيجاد بديل أو منافس إسرائيلي لقناة السويس قد يكون أحد أهداف حرب غزّة التي توعّد بنيامين نتنياهو عشية شنّها بأنها سوف تغيّر خريطة الشرق الأوسط.
الأكيد أن إسرائيل في عهد نتنياهو تسعى للتحوّل إلى مركز رئيسي للنقل الدولي، ومنافسة قناة السويس عبر مشاريع عدة تقوم على الجمع بين النقل البحري والبري، وقد حاولت ذلك عبر التعاون مع الصين قبل أن تواجه تحفّظًا أمريكيًا، واليوم أصبحت محورًا لما يُعرف بممر النقل الهندي الذي اقترح الرئيس الأمريكي تشييده ليمرّ من شرق آسيا والهند لدول الخليج والأردن ثم إلى أوروبا عبر إسرائيل، واللافت أنه لم يتم ذكر مصر بتاتًا في المشروع.
ولكن مع احتمالات أن تضعف حرب غزّة موجة التطبيع اللازمة للممر الهندي، ومع تصاعد المشروعات الاجتثاثية ضد العرب التي تتمثّل في التطهير العرقي بحق الغزّاويين، واقتراح طردهم لسيناء، فإنه ليس مستبعدًا عودة إسرائيل إلى فكرة قناة بن غوريون، والتي لن تحتاج فيها إلى تعاون مع دول عربية قد تتأثّر سياستها بالقمع الإسرائيلي للفلسطينيين، أو تنصاع في المستقبل لشعوبها فتنأى بنفسها عن التطبيع.
قناة السويس… والثقل العربي:
وكانت قناة السويس محرّمة على إسرائيل لعقود وحتى عام 1975، بحيث منعت مصر السفن الإسرائيلية بعد النكبة من المرور عبرها. كما أنّ القناة تحوّلت منذ الجلاء البريطاني عن مصر وتأميمها في عهد الرئيس جمال عبد الناصر من مرفق مسيطر عليه من قبل الغرب، إلى قناة مصرية خالصة، ورغم أنّ القاهرة أدارت القناة بشكل احترافي غير مسيّس، إلا أنّ القناة أعطت مصر والعرب ثقلًا كبيرًا في مواجهة الغرب، ولذا في عهد الرئيس عبد الناصر الذي كان حليفًا للاتحاد السوفيتي وقائد حركة التحرّر ضد الاستعمار الغربي ظهرت أفكار لإيجاد بدائل لقناة السويس.
ليس هناك تقارير موثّقة توضح كيف نشأت فكرة البديل عن قناة السويس في إسرائيل، والشائع تسميتها بـ”قناة بن غوريون”، ولكن الجانب الأكثر وضوحًا وغرابةً فيما يتعلق ببدائل قناة السويس أُفصح عنه من جانب الأرشيف الأمريكي.
إذ بحثت الولايات المتحدة اقتراحًا باستخدام 520 قنبلة نووية لإنشاء بديل لقناة السويس عبر إسرائيل في الستينيات، وفقًا لمذكرة رُفعت عنها السرّية في عام 1996.
ووفقًا للمذكرة التي كُتبت عام 1963، تقترح الخطة استخدام المتفجّرات النووية لحفر قناة تمتد من خليج العقبة عبر صحراء النقب ثم للبحر الميت ومنه للبحر المتوسط، حيث تقول الوثيقة إنّ 130 ميلًا من أصل 160 ميلًا مخصّصة للقناة هي “أراضٍ صحراوية قاحلة غير مأهولة تقريبًا”، لكنّ القضية الأساسية التي تثيرها المذكّرة ستكون وضع قطاع غزّة (كان خاضعًا للحكم المصري في ذلك الوقت).
وتظهر الوثيقة أنّ “المشكلة الأخرى هي أنه من المحتمل أن تعترض الدول العربية المحيطة بإسرائيل بشدّة على المشروع”.
كما تبيّن أن الطرح النظري القائل بأنّ استخدام القنابل النووية لن يكون له آثار إشعاعية جانبية كبيرة، غير واقعي إضافة إلى مشكلة أنّ منسوب المياه في البحر الميت (أدنى نقطة في العالم) أقل من البحرين الأحمر والمتوسط.
الفكرة طُرحت على ما يبدو في الأروقة العلمية الأمريكية كتمرين علمي في ظل الهوس العالمي في ذلك الوقت بتطبيقات الطاقة النووية، ولكنها تعبّر عن رغبة العقل السياسي والعلمي الأمريكي في إيجاد بديل لقناة السويس.
عودة الطرح خلال أزمة جنوح “إيفر غيفين”
وخلال أزمة جنوح السفينة العملاقة “إيفر غيفين” في قناة السويس لعدة أيام في مارس/آذار 2021، سلّطت وسائل إعلام غربية الضوء على المشروع وقالت إنّ بديلًا إسرائيليًا لقناة السويس لكان يمكن أن يكون مفيدًا لأنه كان سيمنع تعطّل إحدى طرق الشحن الأكثر حيوية في العالم.
ولكن المشروع الأقل خيالية هو إنشاء قناة من مدينة إيلات تمرّ بمحاذاة الحدود المصرية ثم بمحاذاة حدود إسرائيل مع غزّة وصولًا إلى مينائي أشدود أو عسقلان، إذ ستكون هذه القناة أطول من قناة السويس ولكن ليس بالفارق نفسه كقناة البحر الميت المقترحة، ومن الواضح أنّ الفكرة رغم أنها ظلّت في العقل الباطن الإسرائيلي لكنها لم تكتسب زخمًا حقيقيًا سواء بسبب التكلفة والقلق أحيانًا من إغضاب مصر، أو وجود بدائل مقترحة عبر مشروعات النقل متعدّد الوسائط التي كان يُفترض أن تنطلق بعد التوسّع في التطبيع مع دول الخليج مثل الممر الهندي.
أحد أهداف حرب غزّة قد يكون بناء منافس لقناة السويس يمرّ عبر الجزء الشمالي للقطاع. أما اليوم، وفي ظل غضبة إسرائيلية لم تعد تكترث بالتطبيع كثيراً، وتجرّؤ بعض الإسرائيليين على طرح فكرة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، فإنّه مع حالة السعار الإسرائيلية ضد العرب جميعًا، والرغبة في استغلال حرب غزّة لتحقيق مشروعات تعيد تشكيل جغرافية المنطقة كما حدث في حربي 48 و67، لم يعد ممكنًا استبعاد أي شيء.
وبالفعل دقّ خبراء وإعلاميون عرب وغربيون وحتى آسيويون ناقوس الخطر من أنّ أحد أهداف حرب غزّة قد يكون بناء منافس أو بديل لقناة السويس، هذه المرّة يفترض أن يمر عبر الجزء الشمالي لقطاع غزّة، وهو الجزء الذي هجّر الجيش الإسرائيلي منه المدنيين ويتوغل به حاليًا، كما تتصاعد الدعوات في الدولة العبرية لإعادة احتلاله بل دعا بعض الوزراء المتطرّفين لإعادة بناء المستوطنات فيه، وهو الأمر الذي قد يجعل فكرة منافس قناة السويس أكثر اقتصادية لو نُفّذ المشروع عبر شق القناة في قطاع غزّة حيث ستصبح أقصر من تلك التي ستصبّ في عسقلان أو أشدود، كما أنه لن تكون هناك حاجة لتعويض الإسرائيليين عن أي ممتلكات يتم نزعها لأنها ستقام على أرض فلسطينية.
إحدى الدوافع المحتملة لهذا المشروع هو رغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في إنقاذ مستقبله السياسي، كما تقول الكاتبة البريطانية إيفون ريدلي، عبر تبني نهج متطرّف لطرد الفلسطينيين من أراضيهم وبناء مشروع قومي إسرائيلي ينافس درة تاج أكبر دولة عربية بعد أن وصلت شعبيته للحضيض بعد إخفاق 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
في المقابل، أحد أكبر العراقيل أمام الفكرة هي المشكلات الجغرافية، خاصة تلك المتعلقة بصعوبة الملاحة للسفن الكبيرة في مضيق تيران الذي يمثّل مدخل خليج العقبة، لأنّ جزيرة تيران تجعله أضيق كثيرًا من مدخل خليج السويس.
كما أنّ هناك التكلفة المالية، بحيث تراوحت التقديرات لتكلفة المشروع بين 16 و55 مليار دولار، والرقم الأول ضئيل للغاية إذ تكلّف حفر قناة السويس الجديدة في مصر التي يبلغ طولها نحو 35 كيلومترًا ما يقدّر بثمانية مليارات دولار، بينما القناة الإسرائيلية المحتملة يبلغ طولها نحو ثمانية أضعاف، وستكون أعرض في الأغلب، أي أنّ تكلفتها قد تدور حول الـ60 مليار دولار، وإذا وضع في الاعتبار التضخّم العالمي خلال السنوات الماضية قد تصل التكلفة لما يقرب من مائة مليار دولار.
في الأغلب، لا تستطيع دولة بحجم إسرائيل توفير الموارد لمثل هذا المشروع، إذ ستحتاج للحصول على قروض من مؤسسات تجارية عالمية على أمل أن تسددها من إيرادات القناة التي تتطلع لاقتناصها من التسعة مليارات التي تجنيها مصر من قناة السويس، أو سيحتاج هذا المشروع لتمويل أمريكي، ولم تُظهر الإدارات الأمريكية المتعاقبة ميلًا لدعم مثل هذا المشروع، لا سيما وأنّ القاهرة حليف حيوي حاليًا لواشنطن، ولكن لا يمكن استبعاد شيء في ظل حالة الهوس بالمشروعات الطوباوية الداعمة لإسرائيل التي بات يتبنّاها الساسة الأمريكيون، حتى أنه طُرحت مؤخرًا فكرة بالكونغرس لربط المساعدات الأمريكية للدول العربية بقبولها للاجئين فلسطينيين، كما أنه لا يمكن استبعاد جاذبية فكرة محاولة التخلّص من احتكار مصر للملاحة عبر الشرق والغرب وإن كانت حليفًا لواشنطن.
جغرافية الشرق الأوسط وتاريخه معلّقان بقدرة مليوني فلسطيني على الثبات على أراضيهم
لقد قيل إنّ أحد أسباب سعي مصر للإسراع بتنفيذ مشروع قناة السويس الجديدة هو القلق من المشروعات الإسرائيلية المنافسة. وبالفعل، أثبتت حادثة جنوح السفينة “إيفر غيفن” التي وقعت في المنطقة غير المزدوجة للقناة حاجة مصر لكي تكون القناة مزدوجة بالكامل، ويمثّل تحسين القاهرة لإمكانيات وتنافسية قناة السويس أداةً رئيسية لوأد الأحلام الإسرائيلية بإيجاد البديل.
ولكن العامل الحاسم سيكون مآلات حرب غزّة، فلو تمكّن الإسرائيليون من تهجير دائم لسكان قطاع غزّة، حتى لو إلى جنوب القطاع، والقضاء على الفصائل الفلسطينية ثم محاولة ضمّ الشمال، فإنّ هذا يمكن أن يفتح الباب لمشروعات خطيرة عدة يحتمل أن يكون منها إنشاء قناة قد تمر عبر القطاع أو بمحاذاة الحدود، ولكن استمرار المقاومة الفلسطينية وانتهاء الحرب بوقف إطلاق النار دون سيطرة إسرائيلية على القطاع فإنّ هذا سيجعل المنطقة الجنوبية في إسرائيل منطقة غير آمنة للملاحة الدولية، وبالتالي قد يوأد هذا المشروع.
يبدو أنّ جغرافية الشرق الأوسط وتاريخه معلّقان بقدرة مليوني فلسطيني على الثبات على أراضيهم في غزّة، وكذلك قدرة بضعة آلاف من أبنائهم المقاتلين على الصمود أمام خطط إسرائيل التي ثبت أنها لم تعد تستهدف فلسطين فقط بل كل الدول العربية.
(خاص “عروبة 22”