قراءة في ديوان “ضجيج كثيف”
بوسلهام عميمر: “بعيدا عن الهلوسات، الشعر بلوازمه قضية ومسؤولية” قراءة في ديوان “ضجيج كثيف” للشاعرة نبيلة الوزاني.
بوسلهام عميمر
“ضجيج كثيف”، ديوان نبيلة الوزاني دشنت به رصيدها الشعري المطبوع. فكان بمثابة خارطة طريق مبنى ومعنى، شكلا ومضمونا. فقد ضمنته تقريبا كل همومها الموضوعاتية ، وكذا بناء قصائدها، وفلسفتها في الحياة عامة ورؤيتها المتفردة لفن الشعر خاصة.
قراءة في العتبات:
لماذا العتبات؛ عنوانا ولوحة الغلاف وخلفية الديوان و كذا الإهداء؟ لوحدها دوال ومدلولات، يمكن أن تكون مادة خام لدراسة مستقلة بذاتها. إنها تمثل فعلا واجهة الديوان الإعلامية وجسره تعكس مضامين نصوصه و قصائده. العنوان “ضجيج كثيف” عنوان دال يختزل مدار نصوص الديوان. صفة وموصوف، يمكن تقديره “هذا ضجيج كثيف” في محل رفع خبر لمحذوف. كان بالإمكان أن تقتصر على ضجيج، وسيؤدي العنوان دوره في وصف حالها و مشاعرها الجياشة في دواخلها المضطربة اضطراب أمواج البحر، إلى الحياة على صفحات الورق أسطرا شعرية غاية في العمق والجمال. إنه يوحي بما تريده الشاعرة. لكنها أبت إلا أن تؤكده أكثر بإيرادها كلمة “كثيف” بحمولتها الأدبية، مثل ما نقول ضباب كثيف لما يكون متداخلا أو غابة كثيفة لما تكون أشجارها كثيرة ملتفة الأغصان الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود. قريب من هذا المعنى الأدبي مفهوم الكثافة الفزيائي، إذ كلما ازدادت الكثافة ازدادت الكتلة لوحدة الأحجام، مما يقربنا من مقصود الشاعرة في ديوانها بخصوص فن قول الشعر.
لم تتركنا نتيه في لجج معاني الضجيج اللغوية، بين الصوت الذي لا معنى له، أجهر من الصوت المعتاد وبين ارتباطه بالصخب أو أي صوت غير مرغوب فيه، كضجيج الموسيقى الصاخبة أو ضجيج حركة المرور أو ضجيج المناشير الكهربائية وكل ما يفسد هدوء الأمكنة وسكونها، ليس هذا ولا ذاك مما يمكن أن يتبادر إلى الذهن في مستواه اللغوي هذا، قريب منه ما يوجد في طرف اللوحة، حيث صور للأذن والأنف. الأنف ربما أحيانا نفيره يكون مزعجا ومقلقا لا يقل عما يمثله ضجيج أكبر الآلات صخبا. ففي خلفية الديوان تفصل في الضجيج المقصود بما يقطع الشك باليقين، إنه مرتبط بالشعر ارتباط الانسان بظله. إنه حالة من الوجد الصوفي يعتريها، لا يهدأ روعه إلا لما يتشكل قصائد شعرية ترضى عنها نفسها رضاء تاما. إنها لا تستعجل خروج نصوصها من العتمة إلى النور، تقول في الخلفية “الشعر ،، ضجيج مزمن يستوطنني ،، كلما تماهيت في صور العالم ،، بعض الضجيج يقظة ،، توقعك في السؤال ،، كلما احتستك الحيرة فتوقظك من السبات ،، وبعض الضجيج صمت”
ليس هذا وحسب، إنها تؤكد على هذا المنحى بصورة شعرية بديعة، في إهدائها للديوان “إلى كل من يُلْبِسُهم القلمُ ،، ثوبَ الشعر ،، ويفتح لهم آفاقا من ضوء ،، إلى الذين يعيشون الواقع ،، ويكتبونه بحبر القلب ،، إلى هؤلاء أقول: الشعر حياة أخرى”. فضجيج الشاعرة وإن كان بعضه صمتا فإنه ليس كأي صمت، إنه السكون الذي يسبق العاصفة. إنه بمثابة الغليان في باطن الأرض قبل أن يتفجر نيرانا ودخانا من فوهة بركان، تقول “يتقمصك كلاما ليس كلاما ،، ينسج للذات شباكا ،، تصطاد العالم أو يصطادها العالم ،، وحده الحدث يدرك الفراغ في صدره ،، فيكبر الضجيج في رئة المجاز ،، لعل العالم يتنفس شعرا”.
الشاعرة نبيل الوزاني، باقتدار الكبار تناولت في ديوانها هذا باكورة أعمالها، تيمات عديدة منها ما يتعلق بذات الشاعرة يعكس لواعجها وأحزانها، “وحين مر الأنين ،، شاردا ،، في دهاليز ليست غريبة عني ،، انتبهت ،، أن قواميس اليأس ،، ما تزال تعمدني”86، مستلهمة المعمودية من التراث الكنسي المسيحي. ومن اللهجة المصرية توظف “الروبابيكا” للدلالة على مدى الشقاوة والحقارة والبؤس باعتبارها كنز الفقراء، إذ يعيشون على جمع المتلاشيات “لا أملك في رصيدي ،، إلا عمرا ،، تناوبت عليه الروبابيكا ،، جسدا ،، خانته هرمونات الوقت ،، صوتا سقط فابتلعه الخرس”83. و منها ما يرتبط بمحيطها القريب أو البعيد، ومنها ما يرتبط بالعالم كله، تقول في قصيدة “تداعيات” “هذا العالم عالق في رأسه ،، كغيمة اصطدمت بقمة الإفرست ،، فطار عقله”11.
ولكن تبقى تيمة الشعر الخيط الناظم لبقية موضوعات الديوان من ألفه إلى يائه، عالجتها بفنية عالية من مختلف جوانبها، تناولا ينم عن تمكن الشاعرة من ناصية صنعتها الشعرية، ابتداء من تشكله وهو نطفة قلق أو كما عبرت عنه ضجيج داخلي، إلى طقوس ولادته من بين فرث ودم المعاناة. ف”الكتابة ولادة” كما يقال، خاصة والشاعرة لا تستسيغ كتابة ما لا يمثلها من الشعر ولا يشبهها، “لم يكن من البديهي ،، أن أقرأ على الحبر ،، هزيمتي ،، في كتابة قصيدة ،، لا تقولني”. فتعلنها مدوية وبصريح العبارة عن موقفها من قول الشعر. ففي محرابه تنحني متواضعة أمام جلال قدره، تناديه قائلة ” أيها الشعر ،، أصابعي أنحف من أوتارك ،، فكيف أكتب نصا عن الشوارع ،، وأنا أختبئ في المرآة ،، لأكتب المجاز ،، ،، أعترف ،، كثيرا ما تحايلت على الورق ،، جملته بنكهة النعناع ،، رسمته ببسمة السكر ،، تذوقته بمكر العنب ،، ،، أيها الشعر ،، أنت القفر الواسع من عطش الرمل ،، إلى فسحة العشب ،، الآن ببراشوت الإدراك ،، أهبط في مطاراتك ،، ،، وبعد أن اشتد عودي ،، ونضج حبل فكري ،، نزعت الستائر من النوافذ ،، ففتحت لي القصيدة ،، أبوابا”66-67. فالشعر بالنسبة لها قضية، يعكس هموم الذات وهموم الآخر. وطبعا دون التفريط قيد أنملة في مقوماته الفنية الأساسية.
يقال لكل إنسان نصيب من اسمه. وقس على ذلك لكل إبداع نصيب من ثقافة مبدعه أو مبدعته، وله نصيب من تربيته، وله نصيب من الأمكنة التي تنقل بين جنباتها. الشاعرة نبيلة الوزاني ترعرعت في حضن أب كان مولعا باللغة العربية فضلا عن تدريسه لها، فرضعت لبانها من معينه، بريف المغرب حيث الحرص على نطق حروفها من مخارجها. إنها تقدر الشعر قدره. من هنا كان موقفها من قول الشعر، يذكر بقول الفرزدق حينما قال “إن خلع ضرس أهون علي من قول بيت من الشعر في بعض الأوقات” وبعده نجد الجواهري يقول “يظنون أن الشعر قبسة قابس، متى ما أرادوه وسلعة بائع”. تقول في ص71 “القصيدة شجرة مكسورة ،، بأصابع قناص ،، يمتهن الطقطقة” ولتوضح فكرتها بشكل أجلى تضرب مثالا علميا يقرب المعنى بما يعرف بمبادئ الرؤية أو مبدأ قانون المنظور، تقول “أيها الحارس ،، لتعرف عمق الغابة ،، تعلم تحليق النسور”، فلا نظم لشعر بدون عمق خبرة و سعة معرفة، كما حارس الغابة لا سبيل ليؤدي مهتمه على وجهها الأكمل، إذا لم يكن على بينة من أمرها، ولا سبيل إلى الإحاطة بها إذا لم يتعلم تحليق النسور. فكلما ارتفع، كلما أحاط بها طولا وعرضا. وكذلك الشعر فكلما زاد علمنا به وارتفع كعب معرفتنا، كان الشعر الذي نؤمن به ونسعى إليه، بشرف ننتسب إليه وينتسب إلينا.
فالقول بأن الشعر خيط الديوان الناظم لم يكن اعتباطا. يقال الخيال رأسمال الكاتب. فالخيال صنو الإبداع. بجمالية عالية يجنح بها خيالها نحو أمنيات مستحيلة التحقق تقول وقد بلغ أساها مداه والحزن مبلغه “أماه ،، أعيديني جنينا ،، لأعيش في بقعة ضوء ،، أعيديني نبضا ،، لأصغي لدفئك ،، أنا المشرد في الغبار ،، التائه في الحزن ،، كلما كبر يكبر حزنه ،، بينما العمر رقم ،، يصغر ..يصغر ،، ،، لا تسأليني عن ظلي ،، طفلك خارج المعنى ،، احترقت الأحلام في مدن الرماد ،، أرجعيني تسعا أو سبعا ،، أو مضغة ،، وربما عدما ،، لا تهم الأرقام ،، فأنا الرقم الملغى ،، من أجندة السؤال”84، ويجنح بها أكثر آفاقا بعيدة، لتفاوض أبراج الحظ الإثنا عشر لتتسع عباءتها لبرج الشعر تقول “لست شاعرة ،، أنا مجرد سائحة ،، في كون الكلمات ،، أغرف ،، من مجرة المعنى الحروف ،، أفاوض أبراج الحظ ،، على اختراع برج جديد ،، أسميه برج الشعر ،، يلقح قلبي مناعة ،، ضد اللاشعر ،، برج يتوجني لمرة واحدة ،، شاعرة”ص7.
فالشعر لديها ليس من نوع ما يكتب تحت الطلب. إنه معاناة تحرك أشجان قوله. إنه “ضجيج ،، يزعج حديقتي ،، بخريف مباغث”66. فالشعر حسبها مواجع لا تقل عن وجع الولادة وألمها من مخاض وطلق وشد وجذب، تأكيدا منها على عدم استسهال قوله. تقول في قصيدة “سر الورق” ص76 “أيها الحمل العصي ،، تتكدر في صدري ،، حين تنفث ثقلك ،، في رئتي ،، ،، الكلام يتوالد في صوتي ،، الحبر يقلد فمي ،، أسكت ،، أعود ،، أتكوم في ظلي ،، وفي الصمت أبحث عني”75- 76
قصيدة لو لم تنظم الشاعرة غيرها لكفتها. خيال واسع مجنح، أجمل ما يمكن قراءته عن فن الشعر. و بتواضع الكبار، تعلنها مدوية “لست شاعرة ،، أنا مجرد سائحة ،، في كون الكلمات” وفي قصيدتها الأولى “برج الشعر” من ديوانها تقول “أيها الشعر ،، كبير أنت صغيرة أنا”8
قصيدة بمثابة خارطة طريق، و جعلها على رأس قائمة قصائد ديوانها لم يكن عبثا. إنها بعد أن أعلت من شأن الشعر، فإنها تفصح عن طبيعة الشعر المعني والمدرسة الشعرية التي تنتمي إليها، وتمتح من معينها درر نصوصها. إنها تعلن بوضوح العبارة أنها ليست من هواة التحليق بالشعر في سماوات الميتافيزيقا بعيدا عن هموم الأرض، تقول “أيها الشعر ،، لا أتسلق جبال الميتافيزيقا ،، لألبس قميص الفلسفة ،، أنا أقايض المعنى ،، لأدون شيئا من ،، بكاء الأرض ،، وتعب البحر ،، وشره الغابة”8 هذا بجلاء اختيارها الشعري. وإن اعتراه بعض الغموض فإنه لا يزيد عما يدخل في باب مقومات القول الشعري لا أكثر. إنها تحرص أن تكون معانيها معجونة بهموم الأرض و بهموم الذات، وبهموم قومها وبهموم أمتها وبهموم الإنسانية جمعاء. عبرت عنه مجازا ببكاء الأرض وتعب البحر وشره الغابة. و بعد كل ما رسمته بحروفها من لوحات شعرية ببيان بديع حد الإدهاش، و بتواضع الكبار تنتهي لتقول “فقط ،، دعني لمرة واحدة ،، أكن شاعرة”10
احتفاء بالشعر غير مسبوق، وإن كان ليس من السهل الكتابة عن الشعر بالشعر. إنه تحد خاضت الشاعرة لجته باقتدار. الديوان بقصائده الستة والعشرين، يتفاوت طولها بين أربع صفحات وستة، حافل بالصور الشعرية البليغة. فقد وردت مضامينها متناغمة تناغما تاما مع أشكالها، يضم عددا من الكنايات والاستعارات والتشبيهات. بالمثال يتضح المقال، فهذه نماذج فقط وإلا فالديوان حافل بها غاية في الدقة والجمال، تقول “جئتك عارية ،، كهذه الأرض من أوزونها ،، ثقيلة كوجع ،، صاخبة كإعصار ،، ممتلئة بك حد الطيران”9. فليس من اليسير نحت هذه التشبيهات، إذ يتلاحم فيها الأدب بالعلم. وعلى هذا المنوال نتابع معها هذه الصورة البديعة، وهي تستدعي قمة “إيفرست”، تقول في ص11، “هذا العالم عالق في رأسه ،، كغيمة اصطدمت بقمة “الإيفرست ،، فطار عقله”. وفي ص 49، تدير فوهة قلمها لتستهدف ما آلت إليه مدينتها من بشاعة، مقارنة بما كانت عليه سابقا، بتشبيه بليغ، فتقول “في مدينتي المهملة ،، كعجوز فقدت الذاكرة ،، كل الشوارع تؤدي إلى بحر التعب”. وتقول أيضا ص37 “الذين يتأرجحون ،، في الكراسي الهزازة ،، يبيعون الوهم ،، طازجا ،، كمن يبيع الكرز ،، في الشتاء”
هذا الشعر، إنه ليس كأي قول. فمهما كانت قوة رسائل تيماته، ذاتية أو غيرية، يبقى بدون معنى إذا خلا من ماء الشعر ومن روائه؛ محسنات بيانية و بديعية و تشكيلات جمالية فضلا عما ورد في هذا الديوان “ضجيج كثيف”، من تناصات من مختلف المجالات، تنم عن موسوعية معرفية كبيرة، فنجدها تستحضر الأبراج وقوس قزح المفروض ألوانه زاهية لكن الشاعرة سودتها، بقولها “اللوحة على قوس قزح ،، ترسم أبعادها ،، بشعاع أسود”11، وبرج إيفل، و هرقليطس أحضرته من بطون الفلسفة اليونانية ما قبل الميلاد، فيلسوف شهير من ملهمي سقراط وأفلاطون وغيرهما، هو صاحب القولة “لا يخطو رجل في نفس النهر مرتين أبدا”، اشتهر بالغموض حتى لقب بالفيلسوف الغامض. التهمته الكلاب حيا، وهو الحدث الذي استلهمته الشاعرة لتبرئ ذمة الكلاب بسبب جوعها والغابة من دمه. تقول في قصيدة “تداعيات” ص13 “ذنب الكلاب ،، الجوع ،، والغابة ،، بريئة من موتك ،، يا هرقليطس”. الشيء بالشيء يذكر إذ أوردت قصته بما أنه هو من جنى على نفسه بالاعتزال بالغابة يعيش على العشب حتى أصيب بمرض لم يجد غير روث البهائم يتداوى به، و لما جف فوق جسده فقد القدرة على الحركة، فكان لقمة سائغة للكلاب الضالة. وظفت قصته في سياق حديثها عن العالم الذي أصبح عالقا في رأسه ففقد عقله، وعالق في وجهه فتكسرت ملامحه، عالق في لسانه، عالم من الآلام و الجراحات والأوجاع، فمن المسؤول عن هذا الوضع المأساوي؟ تناصات كثيرة وظفتها بعمق، تقول “واحات دون بيوض”95، التعميد من القاموس المسيحي، تقول في ص86، “أن قواميس اليأس ،، ما تزال تعمدني” وسيجار هافانا و القرويين والكتبية و معبد بعل و مسرح دقة ومتحف الإرميتاج وأشباح كافكا وقصة يوسف عليه السلام تقول “دعني أخبرك ،، لي فيك ما ليعقوب ،، من حصة البئر ،، لي فيك ما ليوسف ،، من حصة الدم”73، و غيرها مما أورته أغنت به نصوصها كقمة إيفرست، وعصا موسى.
يصعب حصر ما يرشح به الديوان من جمال صور وبديع تعبيرات. بمهارة المتمكن من صرة صنعته عرفت كيف ترص فسيفساء حروف قصائدها، فكانت دررا رفيعة. فبقدر عمق معانيها كان جمال مبانيها. لنتابع معها هذه الصورة الشعرية، ولنتخيل كيف تشرب المحابر حبرها، تقول في ص12 “المحابر شربت حبرها ،، خلعت فستانها ،، وانزوت عارية”، ولنتصور معها كيف يكون تشكيل مدن بمسامير الوجع، تشك أهلها شكا. ولنتأمل معها هذه الاستعارة “أيها المتكئ ،، على عكاز من غبار ،، والغابة فخاخ”15، وتقول “من يحمل معي ظهري ،، قبل أن يذبل الصبر ،، في نخاع الزمن ؟ ،، لم يكن ثقيلا ،، قبل أن تبني العواصف ،، قواعدها عليه ،، كيف أقفز والسقف مصيدة؟ ،، كيف أقفز والجدار مائل؟”82. تستعصي الصور على الحصر في هذا الديوان. في ص71 تقول بما يبعث على الدهشة، لقدرتها على رسم لوحات غاية في الشاعرية “ما أوهن المحراث ،، وما أقوى الأرض ،، البذور أفقر من جوع التراب ،، ما البستان بدون سقيا ،، والماء في جيوب الذئاب؟، “إياك أعني واسمعي يا جارة” نقد لاذع فالبساتين بدون سقيا ليس لفقدان الماء بها، لكنه في جيوب الذئاب. صورة تذكر بقول القائل:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول.
ويبقى للمكان سلطته وسطوته على أي إبداع. فبحكم استقرار الشاعرة بمدينة طنجة منذ زمن بعد فاس ووزان وغيرها، مدينة البحرين؛ الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، كان حضور البحر لافتا على امتداد صفحات الديوان، توج هذا الحضور بقصيدة “وقال البحر” قصيدة حوارية بامتياز، أطرافها الذات المتكلمة والشاطئ والرمل و أخيرا البحر، إذ فصلت جهينة قول كل خطيب، تقول “كعادتي ،، أتيتك عطشى ،، ،، أبحث عن هواء في أزرقك ،، ،، أيها الممتد في عمق الأبدية ،، هلا فرشت الشطآن ،، لعمري ،، أبثك سؤال التعب؟ ،، كيف نميط اللثام عن وجع ،، وشم القصيدة ،، بخريطة وطن؟ ،، كيف نرتق الجمال ،، بألوان فيروزية؟ ،، ،، قال الشاطئ ،، إذا نطق البحر ،، ارتعدت ذاكرة الماء ،، وشطح خيال بحار ،، يطارد الموج ،، ،، قال الرمل ،، إذا تكلم البحر ،، قاسمته النوارس البكاء ،، أيقن الميناء ،، أن عيون الموج بها حول ،، ،، لا مرفأ يصافحها ،، ولا تميمة ماء ،، تحفظها من العاصفة ،، قال البحر ،، أنا المهموم من الوقت ،، العائد من الزمن ،، ألقح الرمل بالندى ،، الذكريات كتيبة عالقة ،، بتجاعيدي ،، كلما رافقني مهاجر ،، غافلني الصخب ،، فكان للحيتان غنيمة”57.
ومن أجمل ما يمكن قراءته شعرا عن الأب والأم في رثائهما، ما خطته الشاعرة بيمينها في قصيدة “هلاوس مشروعة” ص96، “بعد رحلة عميقة ،، في غابات الصقيع ،، جيدا أعلم ،، أن مدفأة أمي ما تزال ،، تصهل بالزعتر والعرعر ،، وأن رئتي ،، ما تزال تستنشق ،، الشاي الأخضر ،، في شراييني ،، حقول فرشتها نكهة النعناع ،، وقلبي يتدثر بصوت أبي ،، فأي حديث ،، أشذى من صوته في حنجرة أمي”
و بحكم موسوعية الشاعرة الثقافية، وللمعرفة سلطانها،كانت لها مواقف عميقة من مجموعة من القضايا الحساسة عبرت عنها ببلاغتها المعهودة، وإن كان يصعب الإتيان عليها مجتمعة، فإنه لا يمنع من التعريج على بعضها على سبيل التمثيل، مثل ما ذكرته عن الحب، كيف تتقلب به الدروب بين الصدق و الزيف. تصوير درامي للحب في قصيدة “باسم الحب”، لما يكون الزواج لدى بعض المتكسبة، تجارة رابحة للأب والأم. أما المعنية بالأمر، فلا اعتبار لها، وجودها كعدمه، تقول “الحب ،، نبوءات تقرؤها يد أمية ،، كان رجلا بهلوانيا ،، يشتري جسدا ناعما ،، بعملة في جيب الأب ،، وسوار ماسي في معصم الأم ،، هي مسرحية ،، والجمهور شاهد زور” صورة غاية في القتامة78. وفي سياق آخر تقول، “الحب ،، ،، كان طفلة ربيعية ،، وحمامة ،، اقتنصتها مخالب ،، ابتلعها التراب”80 وتقول عنه أيضا ” الحب زهرة الشمس ،، كلما قبلت خد الغروب ،، تفتحت براعم الصباح ،، انتهى في يد ضخمة ،، لم تصافح ،، الصادقين في الحب”81. فالحب حسبها يجمع كل مقومات الجمال. إنه زهرة الشمس. إنه لون الإنسان وعينه الجميلة. إنه الابن يضاء بدعاء أمه، إنه الصلاة في محراب الذات. إنه الحلم الأخضر. إنه الرحلة العابرة. إنه أغنية قصيرة تتمنى لو تطول. لكن ينقلب سافله عاليه بتدخل يد الإنسان المدمرة. وفي ص88 صورة آية في العمق بتشبيه دقيق تقول “الانكسار ،، فصل ضبابي تماما ،، كما انطفاء الحب ،، في قناديل القلب ،، حينما تصدأ مفاتيحه”.
قبل الختم:
لا بد من وقفة ولو في عجالة، عما يحفل به الديوان من حكم غاية في العمق في سياقات مختلفة، ما أحوجنا لتدبرها. لنتأمل معها قولها، في ص 94 “تذكر ،، أن العبور إلى الحياة ،، صنعة العارفين”، و في ص72 تقول في نفس المنحى “الحياة ممر العابرين ،، وذاكرة التاريخ ،، ملح ،، يحفظ أسفار الأقدمين ،، من النسيان”، وعلى لسان جدتها رمز الحكمة في مخيالنا الشعبي، نجد “قالت جدتي ،، العشرة حقل خصب” 85، وفي قصيدة “النهر الأكبر” تقول، “أما النحل فمنشغل بملء القفير ،، ولا يدري ،، بأية لسعة يحتضر”73. وفي قصيدة “طوق”ص69 تقول “الجوع بئر ناشف ،، يخنق الدلو بحبله ،، العطش جبروت أرعن ،، يفرغ تفله في الرمل”. و نختم بهذا النموذج وإلا فغيره كثير مبثوث في ثنايا قصائد الديوان “الغد ،، ركام الحاضر ،، من فتات اليوم ،، الأمس رماد ،، يبعث من ذاكرة السبات ،، الحاضر ،، يرسم المزيد ،، من علامات الاستفهام ،، ويتركك لوحة مبهمة”88-89″.