بقلم الدكتور عبد الله صدقي
تتعدد زوايا سرد أحداث الحقب التاريخية، بتعدد الرؤى أو (الرؤيات) Les visions ، التي تمثل نظارات يضعها المؤرخ أو الكاتب فوق عينيه، وهو ما يجسد أيضا الأيديولوجيا، التي تعني مجموعة القناعات التي تكون قد تولدت من التأويل الذهني للأحداث والقضايا والإشكاليات لدى صاحبها، مثلما يكون الكاتب مستمدا لها انطلاقا من التأثير الذي مارسته المجموعة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وتأتي الأحزاب في مقدمة هذه المجموعات الاجتماعية، الأمر الذي يمثل إلغاءً لفكر الكاتب، حين يصير فكره رهينَ تأويلاتِ غيره، ويصبح بوقا فقط لما أول غيرُه، لا يلزمه داخل الحزب سوى الترويج لها، والاجتهاد في تفسيرها، ذاك ما ننعته باغتيال العقل، ولعمري لهو أشد الجرائم فظاعة في حق الفكر الإنساني… بذلك سأقدم منظوري لحقبة عشتها في مغربنا العزيز، بين أحضان جدران المدينة القديمة بالدار البيضاء أيام السبعينيات، وما سمي بسنوات الرصاص، محاولا أن أتخلص من براثن المجموعة الاجتماعية المتسلطة بأوجهها السلبية ما أمكن …
خِلَالَ هذه الحِقْبَةِ من السَّبعينياتِ خيم على الحياة صور من تفسُّخِ الْقِيَمِ، وتَفَشِّي اللَّامبالاةِ والْعَدَمِيةِ، بَرَزَتْ إبَّانها ظاهرَةُ “رفض الواقعِ”، يرفــــضُ فيها الشــــــبابُ المغربيُّ واقعَ الْوَضْعِ السِّياسيّ والاجْتِماعِيّ والاقتصادِيّ، إذْ شَرَعَ الْيَأْسُ يَتَسَرَّبُ إلى الْعَـــــــــــــدِيدِ مِنَ الشّبابِ، بِسَبَبِ سُوءِ الأَوْضَاعِ الاقْتصاديَّةِ المترديَّة، وانْتِشارِ الْفَقْرِ، والْحَاجَةِ، والتسوّل، والنهب، والسرقة. اكْتَسَحَتْ آنذاك أَنْوَاعُ وأشكالُ الْـمُخَدِّراتِ جُلَّ مَناحِي الْحياةِ اليوميةِ، واسْتَفْحَلَ أمرُها بِشَكْلٍ مُنْقَطِعِ النَّظِير، تَعَدَّدَتْ أَسْماؤُها بالَّلهْجَةِ المغْربيةِ، ابْتِداءً مِنَ الْكِيف، التَّدْخينِ، الكحول، الكوزة، الْـمِيكا بالسِيليسْيُون، الْقَرْقُوبي، البُولة الحمراء الحشيش، السِّيراج، وكُلُّ الأَشْكالِ الْـمُخَدِّرةِ والْـمُهَلْوِسَةِ، قَبْلَ أَنْ تَظهَرَ الْـمُخَدِّراتُ الْحَديثَةُ.
أَصْبَحَ الشَّبابُ والأطفال تَحْتَ رَحْمَةِ هذه السُّمُومِ القاتلةِ، وعُرْضةً لِهَيْمَنَتِها الْفَظِيعَةِ، فَكَانَ أَنْ عَبَّـرتْ كُلُّ الأَنْمَاطِ الثَّقافِيةِ المغربيةِ عن مَدَى تَدَهْورِ الْوَضْعِ السِّياسي، والاجْتماعي والاقتصادي، ومدى فَشَلِ الحُكوماتِ المُتعاقِبَةِ، التي كانت عاجزةً عن إحداث أيِّ تغييرٍ لأَوْضَاعِ الْــمَغاربَةِ، إمَّا لِضَعْفِ كَفاءَةِ هذه الأَحْزابِ في التدبيرِ والتسييرِ أَوْ لِنَهْبِ بَعْضِ أَفْرادِها الْـمُسْتَمِرِّ لِخَيْـراتِ الْبِلَادِ، أَوْ لِسُوءِ تَوْزيعِ الثَّـرَواتِ، أَوْ لِعَجْزِهِمُ الْكَبيـرِ على خَلْقِ وإنْشَاءِ الْـمَوَارِدِ.
وقَدْ أَجْزِمُ من غير تَرَدُّدٍ أَنَّ هذهِ الِافتِراضاتِ كانَتْ جَمِيعُها مَوْجُودَةً، قَدْ أَصابَتْ هَياكِلَ الْـمُجْتَمَعِ جُلَّها، فكانَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى التي جَعَلَتْ الشبابَ يَخْبطُونَ خَبْطَ عَشْواء، من دُون هَدَفٍ يُرْجَى، أَوْ ثِقَةٍ في الْـمُسْتَـــــــــقْبَلِ. وكانَ لِزَامًا أَنْ تَسْقُــــــــطَ الأَشْكَالُ، لِتَبْرُزَ أشكالٌ أُخْرَى وَلِيدَةَ تَحَوُّلِ الْـمُجتَمَعِ، وتَمادِي تَدَهْوُرِ مَعَالِـمِهِ، وذلك عــلى شاكلة ما حَدَثَ في الْغَرْبِ من غير الْـمُقارَنَةِ العمياء المُطابِقَةِ، نظرًا لاخْتِلَافِ الشُّروطِ، وهو ما تجلى آنذاك في ظُهُورِ ظاهِرةِ “الْهِيبِّيزْم” بِالشَعْرٍ الْكَثِيفٍ وسَراويل “الجينز” الْــمُـمَزَّقَةِ.
انْبَـرَتْ فِرقٌ كثيرة من الْجِيلِ الْجَديدِ بأغاني فِطْرِيَة وتِلْقَائِيَّة، مِثل فِرْقَةِ “ناس الْغِيوان” و”جيل جيلالة” و”المشاهبْ” وتبعتها فرق أخرى بالأغاني الأمازيغية، مثل مجموعة إيزنزارن وغيرها مِنَ فِرَقِ الشبابِ، شاهِدَةً ومُعَبِّرَةً، ومُنَدِّدَةً بِفساد الأَوْضاعِ والْعَدَمِيَّةِ والْفَراغِ…وهذه بَعْضُ الأبْيَاتِ مِنْ أَغانِي ناس الْغِيوانِ التـي تشكل إحْدَى أَهَمِّ الْوَثَائِقِ التاريخيةِ، شاهـــــــدةً على الظروفِ الاجتمــــاعيةِ والسياسيةِ :
مَهْمُومَة يا خِي مَهْمومَة
مَهْمومَة هاذْ الدّنيا مَهْمومَة
فيها النُّفوسْ وْلَّاتْ مْضْيُومَة
المسْكين فالْفْقايْس عُومة مْحمومة
الْخرفان مذبوحة والبنات مَغْرومة
لا حُرمة بقاتْ لا دين لا عْبادا
كيسان مكبوبة والخمر الغالي
عمرو لحباسات بالطفال مهمومة
نوح ياغْراب هاذ العالم مْسالي
لا شورى بقات كل الفواه مزمومة
خويا أُو ييدْ الطاغي على الوجه مرسومة
تـسـكـن فْ الفيـلا وغـيـرك فْ نْــوَالَـة
تـحـگـر الـفـقـيـــر وتگول الـتـَّغْـيـِيــــــرْ
وُأنــتَ شْـفِـيـفِـيــرْ مَا تْسْوَا شْنْـعَــالَــة
الأغنية :
عمْ الفسادْ يالعبادْ
ولات نفوسنا مغبونة
بين الوايحْ تباتْ محرومْ وْلْهانْ
وتْنوح نواح موكا فخربة
كما تؤكدُ أغاني فرقة جيل جيلالة نفس الأوضاع :
الأغنية:
بـهمومك غنينا
حـــسبوه جدبة و شطيح
هادا وعـــــــدك يا مسكين
كــــــــــان الله لـيك عوين
الحاجة في صدرك سكين
ولا رضــــــيتي تمد ليدين
هادا وعـــــــدك يا مسكين
في الخمر و الزنا و الميسر هامو
ظــــنوها دنيا تدوم
وأَغْلَبُ قَصائِدِ الْفِرَقِ كان يَحْكُمُها قاموسُ الْحَيْرَةِ والْيَأْسِ والضَّيَــــــــاعِ والتّيهِ، لِتَصِــــــــيرَ وَثيقَـــــــــةً مِنْ أَصْـــدَقِ الْوَثــــــــــــــــــائِقِ التاريـخيةِ والسياسيةِ والإعلاميةِ، وأَنْزَهِها حِيادًا وشَهادَةً عـــــلى هـــــذه الْحِـــــــقْبَةِ الْـمُؤْلِـمَةِ، مِنْ تاريخ المغْـــــربِ العزيز، التي وُسِمَــــــــــتْ بِسَيْطَرَةِ الْهاجِــــــسِ الأمْنيِّ، حــــــــتى سُمِّيَتْ هذه الحقبة بحقبة سَنواتِ الرَّصاصِ.
كُلُّ هــــــــــذه الأغــــــــــاني أَضْحَــــــــــــتْ تُـــــــــــرَدَّدُ عــــــــــلى أَلْسَنَــــــــــــةِ الشّبابِ، بِاعْتبارِها عَزاءً لَهُمْ، وهُرُوبًا مِنَ الْواقِعِ المتفسخ، حتى وَهُــــــــمْ في دَوَّامَةِ التَّخْــــــدِيرِ يَلْهَثُــــــــــــــونَ بها، وكَأنَّهُــــــــــــمْ حَقَّقُوا ما عَلَيْهمْ من الواجب، حينَ فَــــــــــــهِمُوا أَنْ لا جَدْوَى مِنَ الْحَياةِ في ظلِّ هذه الظروف السياسية .
كذلك برَزَتِ العديد من الفِرَق الـــــــــــــصغيرة الأُخْرى على شاكِلَةِ “ناسِ الْغِيوانْ”، تُقلدها وتَمْتَهِنُ هذا الشَّــــــــــــــكْلَ الْفَنّـِيَّ الْجديدَ، الــــــــــــذي يَرتَبِطُ في أحَد وُجوهِــــــــــــــهِ بالتُّراثِ المَغْـــــــــــــــــــــربيِّ الْقَـــــــــــــــديمِ “اڭــناوى” بالخصوص، وذلك لِـمَا تَوَفِّرُهُ سُهُولَةُ إيقاعِهِ بوَاســــــــــــــــــــــطَةُ تَرنِيماتِهِ وَمُرُونَةِ أوْزانِهِ، مِنَ التعبير والإفْصاحِ عَـــــــنْ مَــــــــرارَةِ الْـــــــــــــوَاقِعِ بِـــــــــــــــــــــطُـــرقٍ مُعَتَّـــــــــمَةٍ، وكَلِــــماتٍ تُضْــــــــمِرُ السخــــــط وعَدَمَ الــــــــــرِّضا، وهُمْ تَحْتَ وَطْأَةِ الْـمُخَدِّراتِ، مُعْتَقدِين أَنَّهُ بِمُــــــجَرَّدِ هذا الإفْـــــــصاحِ، وتَبْليغِهِ للــــــــناسِ بالموسيقى والرَّقْصِ أَمَلًا في تَوْعِيَّتِهمْ، يَجْعَـلُهُمْ مُـؤَدِّينَ لِواجِـبِهِمُ الْوَطَنِيِّ التَّاريخيِّ …
جاء الإضراب الذي أَضْـــرَمَهُ حـزبٌ من الأحزاب المـغربية عند بداية الثمانينياتِ من دون جَــــــــــــــــــــدْوَى، ودامَ هــــــــــــذا الْوَهْــــــــمُ ما يُقـارِبُ ثـــــــــــــــلاثَةَ عُـقودٍ مِنَ الزَّمَنِ، والشّــــَبابُ سُجِناء هذه الأغـــــــــــانِي من دُون أَنْ يَتَمَـــكَّنَوا مِنَ الِانْتِقــــــــــــــــــــــالِ إلى الفِعلِ التَّــــــــــغْيِيريِّ البَناء…رَضــــــــخَ هــؤلاء الشبابُ لِلْأمْرِ الْواقِــــع، مُسْتَسْــلِمين للْـجهلِ والضَّيــاعِ… مُنْتَظرين “غـُــودو” الْهَبـــــاءَ الْوَهْمي، لِيسْتَيْقِظُوا على واقِعٍ غَريبٍ عَـــنْهمْ، واقع الصُّحونِ الْهوائية والأنترنيت …
وجدَ أَغْلَبُ الشبـــاب أَنْفُسَـــهُمْ على هامـــــش التاريخِ، إمَّا أنَّهُم أُصِيبُوا بِحالاتِ الْهَلْوَسَةِ والأمْراضِ النَّفْسِيةِ، أوْ رَكَـــنُوا تَحْـتَ جُـدْرانِ الْحياةِ عَالةً على أُسَرِهم وعلى المُجْتَمَعِ، بعد أنْ مـاتَتْ كُلُّ أَحْـلامِهِمُ الدَّفِينَةِ، ولَـــــــــــــــمْ يَتَـبقَّ لهم سـوى أنْ يُسـايِروا الرّكْبَ والتَّـــغيُّراتِ بِوَجَـــــــــعٍ ويَأْسٍ، وانـتظار الْـمَوتِ الْبطيء، مرَدّدين عبارة مشهورة لديــهم (كَانّاكْلو الْقُــــــــوتْ ونْتْسَنَّاوْ الموتْ)، بمعنى أنّنا نأكلُ الْقُوتَ، ونَـــــــــــــنْتظرُ الموْتَ، فلا جدوى إذن من الحياة .
كان الخطابُ الرَّسْمي الذي يُمَثِّلُهُ الإعلامُ المغربي، والكثير مــــــــــــن أهل الفن من المغـــنين، والممثلـين، والسياسِيِّين المستفيدين مِنْ هــــــذه الْوضعيةِ، يُبَثُّ عَبْـرَ التلفازِ، ولا يَــــــــــفْتُرُ عن الاستمرار في التأكيد، عــــــــــلى أنَّ المغــــــــــربَ في الطــــــــــــريقِ الصَّحــــــــيحِ، وأَنَّ الإنْجـازاتِ الْعِــــلْميةَ والْفِــــكريــةَ والحَضاريةَ تَحَقَّقَتْ لمغربِ الْغدِ بِصَرْحٍ عالٍ، وأنَّ المغربَ يُسجِّلُ لَحـظةً تاريخيةً بين الأمَمِ المتقــــدِّمةِ، رَغــــــــــمَ كَيْـــــدِ الــكائدين وتَــربُّصِ الأعداءِ الحاقدين، مُحـذرًا من الاستماع إلى الْـمُشَوّشينَ… بيْنما كان خِطابُ الشَّارعِ الشعبي الــذي مَثلَتْهُ أغـــــــــــــــــاني المجموعــاتِ، والنُّكَــــــــــــــــتُ الشَّعْبِيةُ، والتَّصْـــــريحاتُ العــــــــــــفويةُ، يُـــــــــــــــنْذِرُ بالضَّياعِ والـــنَّهْبِ والسَّلْبِ، ويَتَّهِمُ الْخِطابَ الرَّسْمِيَّ بالتَّـــضْلِيلِ والْكَذِبِ والْوُصُولِـــيَةِ وغَيْرِها .
أما الأحزاب فكانـت بِـــدَوْرِها مُتَــقَوْقِعَـةً في بُرْجِــــــــــــها الْعـــــــــــالي الوهمي، تَتَبَنـى فِكْرًا مُتَعاليًا، مُتَّــسِمًا بِغُـرُورِ الْـمُــراهَقَةِ السِّياســيةِ، إضافة إلى أَنَّها تَفْتَقِر إلى الْكفاءَةِ والرُّؤيَةِ والمشروعِ، وتُعـــــــانِي مِنْ غِيابِ أي تَمَثُّلٍ لأَيِّ شَكْلٍ مِنْ أَشْكالِ الْـمَدَنِيَّةِ، نَظَرًا لِكَوْنِهَا ظَلَّــتْ حَدِيثَـةَ عَهْدٍ بِالْإدَارةِ والثَّقافَةِ الْحِزْبِــــــــيةِ والسِّياسِيَةِ والقانــــونِيةِ، على الرَغْـــمَ من مُــــــــرُورِ ما يَكْفِي مِنَ زَمَنِ الاسْتِقْلالِ .
لمْ يَكُـنْ بِمَقْدُورِ أفْـرادِ هذه الأحزابِ العربيةِ إدراك خُصُوصِياتِ مَرْحَلَةِ التَّأسيسِ لِمُجْـــــــــــــتَمَعِ ما بَعْدَ الاسْتِقْلالِ، بلْ كان الانْدِفاعُ المغرور الـطائش والْحَماسُ المتهـــور، يتمثل في ترداد مَقـــولاتٍ مُسْتَوْرَدَةٍ مِنْ الـــــــــبلادِ الْغَربية، نَبَتَتْ ضِمْنَ شُـــروط سُوسيو تاريخيةٍ مُغــــــــــــــايرةٍ، هو مــــا كان يسيطر عـــــلى العقلية الحزبية آنذاك، حـــتى إنَّ هذه الأحزاب الـمغربية لَمْ تَتَمَكَّنْ حتى مــــــــــن الْـــــــــفَصْلِ بَيْنَ ماهِيةِ الفِـــعلِ السِّياسيِّ، والفعلِ القانوني، والفعلِ الإيديولوجي … هذا إذا افْتَرَضْــــــــنا جَدَلًا أنَّها أحزابٌ لَها أيْديولوجية بالمعنى الإصطلاحي .
إِضَافَةً إلى أمرٍ أساسيٍّ وجدير بالاعتبار، وهــــو ما يتجلى في مدى عُسْرِ وتَعذُّر انْتِقالِ عَقْلِيَة هذه الأحزاب المغربية مِنْ مَرْحَـلَـــةِ الْفِـــعْلِ الْوَطَــنِي ومُقاوَمَةِ الاسْتـعمارِ، إلى مَرْحلةِ بِـــناء الـدَّولة والمُجْتَمَعِ المدني، مما جَعَلَها تَتَخبَّطُ في مَنْزلةٍ بينَ الْـمَنْزِلَتيْنِ ،
فلا هي أحْزابٌ بالمعنى السّيـــاسي العالمي، تَسْـتَطيعُ أنْ تُؤسِّـــسَ لِنَفْسِــــــــــها أيديــــــــــولوجية، وتَتَـبَنَّى مَشْروعًا مُجْتَمَعِيًّا فـعليا وحقيقيا، ولا هي مجموعاتٌ اجتِماعِيَّةٌ بِمقدورها أن تَسْتجيــبَ إلى ما يَحتاجهُ الشَّبابُ مِنْ تأطيرٍ وتَكوينٍ، حتـى يَتـــــأقْلَمُوا مــــــــــع الأوضاعِ الْعامَّةِ، ويَنْهَجُوا نَهْجَ التَّغْيِير لِبِناءِ مُجْتَمَعٍ مُتَقدِّمٍ، يَنْعَـمُ تحَتَ ظِلِّهِ المغاربةُ قاطِبةً، لأنَّ فاقَدَ الشَّيء لا يُعْطيهِ أبدًا .
هــكذا ظلَّ مَبْلَـغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ محدودًا، لا يُجاوِزُ الارْتِبــاطَ بالتَّفْكيرِ الْـمُناسَباتِي، والْجَهـــل بميكانيزمات التـــاريخِ، و التّسلّح بِكُلِّ الْوسَائلِ الْـمِيكْيَافِيلِّيَّةِ، لِلْحِفاظِ على الكَـــــــــراسِي، وربطاتِ الْعُــــــــــــــــنُقِ، والْبِذلِات الزَّرْقاءِ والسَّوْداءِ، والْفَوْزِ الْواهِمِ، تِلْوَ الفَوْزِ في الانْتـخابات بالطُّرُقِ الْـمَعروفةِ، وامتلاك السّيــــاراتِ الْحكوميةِ الْفَـخْمَــةِ والْبِطاقَات الْبيــضاءِ، والكلماتِ الْحماسية اللامسؤولة المتناثرة هنا وهناك …
هناك أيـــضًـــا طبَــقَــةٌ أخْـرى مِــنْ هــؤلاءِ السِّيـــاسيّينَ الـذين عــــــــــــــــــــــــاشُـــــــــــــوا مَرْحــــــــــــلةَ الاسـتعمارِ، ناضَلوا لتــحريــرِ الْــوطنِ بمستويات مختلفةٍ، غير أنَّهُمْ لَمْ يُـــدْرِكوا خُصوصِيةَ المرْحلَــــةِ وخُصوصِيةَ السُّلطةَ الْقــائِمةِ في البـــلاد، إضافة إلى أنَّ أغْلَبَهم عاشوا إلى جــانبِ الــــــسُّلْطان، بعد أن أتيحت لهم الْفرصةُ بأنْ نالـوا حُظْوَةَ الــدِّراسةَ في أوروبــا، لكنهم أخطئوا التَّـقديرَ بالاندفاع والحـماسِ المُـفْرِطِ من دونَ أن يَـــأخذوا الــعِبرةَ مِـــــــــــــــــــنَ النتائجِ الفاشلة، التي تَوَصَّلتْ إليها حركاتُ الإصــلاح في المشرقِ العربي، فَفَرّ أغلبهم إلى فرنسا متذرعين باسْتِحالَةِ بِناءِ مُجْتَمَعٍ في ظِلِّ النِّظامِ الْقائِمِ .
ظَلَّ هؤلاء مُتَشَـبِّثِينَ بهــــــــذا الْوَهْمِ ما يُناهِزُ ثلاثةَ عُقــــــــــــــودٍ، لا يُمارسُون سِوى انْتقاداتٍ من بعيدٍ، لا تُسْمِنُ ولا تُغْنـي لِقبل أن يَسْتَفِيقوا مِــنْ وَهْمِهمْ، فإذا بهم يشْرَعون في إدْراكِ كَوْنِ التَّغْيِيـر الْـمُجْتَمَـعي لا يَتَأتَى إلَّا مِنَ داخِلِ المجتمعِ، وأن المغرب بلد ما يزال في طور البـــــــناء … عَاد أغْلَبُهمْ إلى الانْخراطِ فيما كانَ يَجِبُ أنْ يَنْخَرِطَ فــــــيه مُنذُ زمانٍ، ذلك بَعْدَ أنْ بَسَطَ الرَّاحلُ الحسنُ الثاني مَلِكُ المـــــــــغرب رَحـمَهُ اللهُ يَدهُ إلى كلِّ هؤلاء” أنَّ الْوَطنَ غفورٌ رحيمٌ”. رجع هـؤلاء بَــعْدَ أنْ حُرِمَ المغـربُ مِنْ العـديد من شبابِه ومن طـاقاتِهِم، وأدّى الشبابُ المغربي آنذاك الثَّمنَ غاليًا .
**
ومَا أَنْ أَشْرَفَ عَقْدُ التسعينياتِ، حتى بَـــدَأَتْ بَـعْضُ الـمُؤشِّراتِ الداخِليةِ والخارجية، التي تُوجِبُ عَدَمَ تَأْجِيلِ الإصْلَاح، مُنْذِرةً بِخــطُورَةِ الْـوَضْعِ السِّياسِي والاقتصادي، فَكان أَنْ أَبْدَعَ مَلِكُ الْبِلَادِ الْحــسنُ الثاني تِرسانَةً مِنَ الإِصْلاحــاتِ السيــاسيةِ والقانونية، عَمِلَتْ على قَلْبِ وتغيير معالم الْخريطةِ السياسيةِ المعْهُـودةِ، والتخــلي عن مَــوازينِ الْحِسَاباتِ الضَّيِّقَةِ، ووَضْع إجْراءَاتٍ وآلِيَاتٍ فعالة، حتى يَتَمَـكَّنَ الْـــــفِكْرُ السياسي المغـربي مِنَ التصالح معَ الماضِي .
وقَدْ تَجَلَّى ذلك فيما بَسَطَهُ مِــــــــــــنْ العديد من الإجراءات، تجلت عبـر مفاهيم عدة، تحت شِعار “الْوطن غفـورٌ رحيمٌ”، تَمَّ على إثْرِها الإفـــــراجُ عَنِ الْعَديدِ مِنَ المُعْتَقلينَ السياسيينَ… سُجناءِ “تازْمامارْتْ، و”سُـــــــــجناء “درب مولاي الشريف” وغيرهم، كذلك تشَكَّلتْ لَجْنةُ الإِنْصافِ والمـــــــــــــصالَحةِ، للنَّظرِ في وضـــــــعِ مَنْ عانَى مِنَ الظُّلم والْحَيْفِ خِــــــــــــلَالَ تلك السَّنواتِ، وسارَ هـذا التَّغْيِيرُ كُــلُّهُ تحت الْــوَعْيِ التَّدْبِيـري المغربِيِّ، ومُسْتَلزَماتِ واقعِ المرحلةِ، تبعا لما كان يَتَـوَفَّرُ مِنَ الشُّروط الْـمُتـاحَةِ ودرجةِ وعي السلطة القــائم .
بــــــــــــذلك سَيَشْهَدُ الفَضَاءُ السِّياسي المغربي دُفعةً من التغيرات والمُسْتَجدَّاتٍ، تَــــــــحقَّقَ على إثْــــــــرَها، ولأوَّلِ مـــــرَّةٍ في تاريخ المغرب السياسي، توافق أحزاب المعارضة عــلى دستور 1996 تــــــشكلت على إثره حكومة التناوب، بعــــــــــد ذلك جـــــــاء دستور2011 نتيجة مــــــــا أطلــــــــــق عليه بالــــــــــربيع العَربيِّ، الذي مَسَّ الْعديدَ مِن البلدانِ العربيةِ، واسْتجابَةً لِلْحَراكِ الشّعبي والســــياسي، الـذي طـــالبَ الحكومة بالإصلاحات السياسية والاقتصـادية في المغرب، انْطلاقًا منْ يــوم 20 فبراير 2011. ألقى الملك محمد السادس خطابه يــــــــوم 17 يونيو 2011… شرعت المفاوضات مع كل الأحــزابِ السيــــــــاسيةِ مِنْ أَجلِ إعادةِ صِياغةِ بَعْضِ بُنودِ الدستور …
أَرْسَت أَخـيرًا هذه المفاوضات على أن الدُّستــور المغــــــــــــــــــــربي ” مـملكة دستورية بَرلمانية ديمقراطية واجتماعية ” يَنْهجُ الْـمَــــبْدَأَ التّـــــَشَارُكِي في بناءِ الدَّوْلَةِ، والملكَ هو رئيسُ الدَّولَةِ وأَمِيرُ المؤمنينَ، والضَّامِنُ لاسْتقرارِها ووحْدَتِهَا التُّرابِيةِ وسيادتِها، والْخادِمُ الأوّلُ لِلْبلادِ…كَمْ تَمَـنَّيْتُ لَوْ كـانَتْ هذه التَّــــــــــــــحَوُّلاتُ السياسيةُ والاجتماعيةُ جميعُها مِــــــــن تاريخ مَغْرِبنا الْعزيزِ، بما فـيها من قصور ومــا فيها من امتيازات أَيــامَ سبعينياتِ الْقـرنِ الماضي من غـير أَنْ تضِيعَ أَهَـمُ المراحلِ الْعُمْرِيةِ لأبنائنا في الْغُربَةِ أوِ السِّجْنِ، حتـى لا تكون مَـــــــــــــــأْساةُ جِيلِ السَّبْعينياتِ، غَيْـرَ أَنَّ التـاريخَ البشري عَلَّمَنا أَنَّهُ لا يَتَحَرَّكُ إلاَّ وِفْقَ ديناميةِ عَقْلِيـــــاتِ الْـمُجتمعاتِ، وكـفاءة قُدْرتِها على التَّفْكيرِ والإبداعِ والإخلاص لِـتَجاوُزِ الْعَوائِقِ .