لماذا ترفض المجتمعات العربية الاعتراف بفن أغنية (الراب Rap)؟
لماذا يهاب المسؤولون أغاني الراب)؟
بقلم الدكتور عبد الله صدقي
الفن طابعه الجمال، والموسيقى والغناء جمال مستقى من أصوات الطبيعة وجمالها، فإذا حدث أن برز أحد وجوه الطبيعة ملوثا، فذاك ليس مسؤولية الطبيعة، وإنما مسؤولية المستخلف فيها (الإنسان)… من ثمة لا يلزم سوى تنقية العوالق التي تعلقت بالطبيعة، الشيء نفسه يحدث مع بعض الفنون التي تظهر، ونخص بالذكر هنا ما يعرف في الديار الأمريكية والأوروبية بفن (الراب Rap)
إن أغلب الدارسين للفنون الموسيقية يرون أن ولادة فن (الرَّاب)، لم تتم بالفعل إلا انطلاقا من موسيقى الجاز مع بداية السبعينيات، إثر وصول الجامايكي كول هيرك وآخرون إلى أمريكا، منطلقين من حي ذا برونكس بمدينة نيويورك، كذلك يعود الفضل لانتشار هذا الفن للمغني الجاز Gil Scott-Heronالذي كان يعتمد القافية في أغانيه، حيث اعتبر البعض أن أغانيَه هي المؤسِّسة لفن (الرّاب)، وصولا إلى بداية التسعينات، التي تفرقت إثره مجموعة NWA ليستقل كل من أفراد المجموعة، إيزي إي، وآيس كيوب، وإم سي، رين ودكتور دري، سرعان ما بدأت فرقٌ فنية أخرى تعتنق هذا الفن، لما فيه من سهولة في التعبير، ويسر في الإلقاء، ومطاوعة في الألفاظ، معبرة عن سخطها عن الوضع الاجتماعي الأمريكي والسياسي، ثم امتد في أنحاء العالم، فشمل ألمانيا، فرنسا، بريطانيا، اليابان، هولندا، البرتغال، الشرق الأوسط، شمال الأفريقي، حتى راح يملك جمهورا واسعا في كل أقطار العالم…
انتقل فن الراب إلى جل البلدان انطلاقا من أمريكا، لكننا نحن في البلدان العربية مثل عادتنا القديمة، لا يؤمن الآباء بالمستجدات، لأنهم يقدسون القديم، إذ لا يطرأ جديد على حياة الناس في مجال الثقافة والعادات والتقاليد والطقوس والأدب والفن، إلا ناصبوه العداء ورفضوه رفضا أعمى، كذلك يصاب أهل الفن بهلع من الفن الجديد، ظنًّا منهم أن كل جديد في الفن يهدد بقاءهم، فيخشون أن يصبح فنهم في خبر كان، فلا يتقاعسون على محاربته،
في الوقت الذي يستفحل أمر هذا الفن الجديد، لأن الأجيال الجديدة تعض عليه بالنواجد، إذ الممنوع مرغوب فيه، نخص بالذكر في هذا الطرح نوعا من الفن الأدبي (الشعر والأغاني)، فكلنا ندرك مدى ما عاناه الشعر الحر مثلا، طوال تاريخه من المضايقات والنقد والحط منه، وعدم القبول به في ساحة الشعر الكلاسيكي (القصيدة العمودية)، حتى بات اليوم معترفا به في كل الأوساط، إلا بعض المتعصبين للقديم، وهم قلة، وذلك بعد أن وجد الشعراء في الشعر الحر سهولة النظم، وبساطة الإبداع في التعبير، وبناء الصور الشعرية، وعدم التكلف في إجبارية النسج على بحور الخليل الفراهيدي …
الشيء الذي يحدث تماما لفن أغنية (الراب)، هذه الأغنية التي أقبلت علينا من أمريكا وبعض البلدان الغربية كما سلف القول… لم يتوان العديد من الفنانين والموسيقيين العرب الذين اعتادوا الموسيقى والأغنية الكلاسيكية والقديمة في التصدي (لفن الرّاب) ومحاربته، وتهجينه، بل وإلحاق به شتى النعوت المنحطة، إثرها تقدمت مجموعات من الشباب باحترافه، والإبداع فيه بما تمليه عليهم قريحته، منحرفة وجادة، نتيجة عدم اهتمام الجهات الرسمية بهذا اللون (الرّاب)، وقبوله في صف الفن المعترف به.
فلو أن الجهات الرسمية رصدت له المسؤولين عن قطاع الفن، وساعدوا كلَّ مَن أراد أن يقتحم أغنية (الرّاب)، لِيعلموه الأسس التي أسسها الرابوريون السابقون الأمريكيون، بالإضافة والتعديل لما يتناسب والمرجعية العربية المغربية وهويتها، لتحاشينا العديد من المشاكل التي أصبحت تظهر في الشارع المغربي، وعلى شبكة التواصل كاليوتيوب وغيره، بوقاحة القول وبداءة محتواه، وخرق كل ما هو ديني أخلاقي وقانوني، من قبل شباب انحرفوا عن جادة الصواب، بسبب إهمالنا لهم ولأوضاعهم.
لم يكن من قبيل الصدف أن أصبحنا نشكو من أقوال هؤلاء الشباب، الذين امتهنوا (الرَّاب)، من غير ذكر أسمائهم… وفي هذا الصدد نستحضر القضية الأخيرة ( الرابور صاحب أغنية “شرر كبي هواي” )، التي ضمن فيها عبارات نابية، تمس بأعراضنا وقيمنا وبناتنا، بطريقة استهتارية تشجيعية استهزائية، بدلا من أن يتناولها صاحبها بخلفية الإصلاح والتنديد والغيرة، لأنه يوما سيكون أبا له بنات، وهو طيش الشباب وضياعه، إذ لا يعبر هذا السلوك إلا عن غياب التأطير في إرشاد الشباب من قبل محترفين مسؤولين عن هذا القطاع، تأتي وزارة الثقافة في صدارة من يتحمل المسؤولية، إذ كان عليها أن ترْعى هؤلاء الموهوبين، و تؤسس مؤسسة لنقد النصوص الفنية، يترأسها متخصصين خبراء، على جميع القطاعات، سواء نصوص السيناريو أو نصوص الأغاني، أو القصة والرواية أو المسرح أو الشعر، قبل أن تنشر على القنوات، بعد ذلك يتم عقاب كل من خرق القانون طبقا للنصوص الواضحة، حيث ما عُرض على شاشة التلفاز من مسلسلات أمام أبنائنا وآبائنا في شهر رمضان ليس ببعيد، الأمر الذي يتكرر كل سنة، ولا يلقى سوى التجاهل من قبل المسؤولين على القنوات …وهم يظنون أن هذا الصنيع مرَّ مرور الكرام، ناسين أن لعنة التاريخ والدين والعادات الطهارة المغربية تلاحقهم وتلعنهم …
(كلمة حق عن فن أغنية الراب)
بغض النظر عن المسؤولية والأخطاء التي يرتكبها فنانو (الرَّاب)، تلك التي يتقاسمها معهم المسؤولون السياسيون والمهتمون بالفن، أرى بكوني متخصص في النقد الأدبي والسينمائي والروائي ونظرية التلقي، أن قوة أغنية (الرَّاب) تكمن في عبارتها، التي تشتمل على صور بلاغية، ذات روعة وجمال وتعبير، وقوة الإيحاء والرمز، في رصد العلاقات الاجتماعية الدقيقة، والكشف على المخبوء من الجروح المجتمعية، ورفع الستار على التجاوزات، وخلع القناع على الوجوه الوقحة، ومساءلة الواقع والقيم الاجتماعية التي اهترأت، ولم تنل نصيبها من التجديد
ونحن لا نبالغ إن قلنا إن اللهجة العربية المغربية تفوق ما تحمله ألسنتنا باللغة العربية الفصحى…وذلك بحكم أن اللهجة العربية المغربية، التي تُبنى بها قصيدة الرَّاب هي اللغة (اللهجة العربية المغربية)، التي نعبر بها عن قضايانا وحوائجنا، ونتواصل بها أربع وعشرين ساعةً 24/24، (اللهجة العربية المغربية) التي نحلم بها، حيث لا نحلم باللغة العربية الفصحى، وهذه الصفات جميعها، هي ما يجعل علم النفس يصفها ب(لغة الأم)، بدلا من تلك التي لا تتداول إلا في القاعات والمحاضرات والمناسبات بين الجدران، هنا تبدو المسافة الشاسعة بين اللهجة العربية المغربية واللغة العربية الفصحى، كذلك يبدو تفوق اللهجة العربية المغربية عن اللغة العربية الفصحى، في مدى الحرية الواسعة، خلافا لما تعانيه اللغة العربية الفصحى، التي اعتقلناها ثم سجناها في فضاءات محددة، وحنطناها هيكلا للمناسبات والشعارات…