د. كمال القصير*
موقع : القدس العربي
الإنسان في القطب الجنوبي أو الشمالي المتجمّد ليس فاعلا في الطبيعة، بل هي التي تتحكم في اختياراته اليومية، وتفرض عليه مبدأ التعايش معها فقط. وحتى عندما يريد مغادرة الحياة، فإنها تجبره على أن يُدفن في الثلج لا في التربة كما هو معتاد.
إن تلك البرودة تحرم الإنسان حتى من الموت والتحلّل، حيث تحتفظ بجسده، وفي الغالب أيضا بالفيروسات نفسها التي فتكت به. وفي كثير من الأحيان تطفو جثت الموتى بعد ذوبان الجليد، فتستقر في بطون الحيوانات المفترسة.
حقبة الصقيع:
إننا نعيش عصرا إسلاميا جليديا، شبيها بالحياة في القطب المتجمّد، وتشتد البرودة كلما اتجهنا نحو العراق وسوريا وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط، واليمن وصولا إلى البحر الأحمر وخليج عدن. حيث أصابت علة البرودة التاريخ والمشاعر والناس في تلك المناطق، وشلّت حركتها وأخرجتها من معادلة التأثير الدولي. أما المناطق التي لم تتجمّد حتى اللحظة، فإن الرياح الباردة تهب عليها.
إنها حال العالم الإسلامي المتجمّد، من حيث أدوار مكوناته وفاعليته الحضارية.
أمّا حقبة الصقيع التي ضربت العالم الإسلامي، فهي في حاجة إلى عناصر لإذابة الجليد، أُجملها في عنصرين، هما استئناف فعل” المُطالبة”، وإعادة بناء الأيديولوجيا.
إن حالة التجمّد تمنع من استثمار التوتر في المنطقة، من أجل إعادة بناء المشاعر والأفكار الكبرى، وإحياء ما اختفى منها.
عندما يتجمّد الإنسان فإن أول قانون ينطبق عليه، هو توقف الحركة، في السياسة والمشاعر والفكر والدعوة. وأريد أن أؤكد هنا على أن حالة التجمّد تمنع التجديد والتجدّد. غير أن شعار تجديد الخطاب الديني في الوقت الحالي فارغ المحتوى. ذلك أن التجديد يتعلق بالإنسان، فتجديد الخطاب وحده لا يحقق الاستئناف والفاعلية.
أما النقاشات السائدة حول قضايا مثل الحداثة الغربية، فلن تولد الفاعلية، لكونها تنتمي إلى أفكار الدّفع لا الطلب.
فبإمكاننا أن نرى الفاعلية تنبع بكثافة، حتى من ثنايا الخطابات الوهمية والخيالية. وبهذا الاعتبار فإن الفاعلية من أهم محركات المطالبة. إن مصطلح” الفاعل السياسي” المتداول في المنطقة، فارغ المحتوى مُضلّل الاستعمال.
الدولة الوطنية الباردة:
إن بإمكاننا ملاحظة مدى تأثير التحول، في تكوين الدولة الإسلامية المعاصرة. خاصة ما يتعلق بخاصية ” التردّد” لديها إزاء المشاريع الفكرية الكبيرة. أو تخليها عن الكثافة الأيديولوجية، التي كانت ملمحا أساسيا لبنية هذه الدولة في التاريخ. ويعتبر هذا التحوّل عنصرا أساسيا في تفسير السلوك الإسلامي العام لدول ما بعد الاستعمار.
وقد نشأت داخل القطب الإسلامي المتجمّد، الدولة الباردة قبل قرن من الزمن. وكان ذلك التأسيس خاليا من عناصر المشاعر والأفكار الكبرى، ومن روح” المطالبة” في ميادين العلوم والسياسة والثقافة والاجتماع. ذلك أن الطاقة الحرارية هي المكون الرئيسي لانطلاق الأجسام واندفاعها بالسرعة القصوى. وقد كان قيام الدولة العربية بعد سقوط المُتّسع العثماني الجامع، مقترنا بالانكفاء والانغلاق القومي الضيق.
إن المشكل الأساسي في النموذج الإسلامي العام منذ القدم، يتمثل في صعوبة الحفاظ على الانسجام بين مقتضيات السياسة والأيديولوجيا. حيث عرف اضطرابا باستثناء فترات تاريخية، شهدت العودة إلى مصالحة السياسة بالأيديولوجيا الكبرى، ومن خلالها تحققت أهم الإنجازات التاريخية.
إننا جميعا بإمكاننا الشعور بالبرودة في المنطقة، ونستطيع أن نلاحظ أن الدولة العربية والإسلامية المعاصرة لا تمتلك أيديولوجيا تعكس رؤيتها للمستقبل. ولكي أكون أكثر وضوحا، فإن بلدا مثل تركيا أو باكستان في أمس الحاجة الآن إلى إعادة بناء أيديولوجيا، تتماشى مع متطلباته الداخلية وسياقه الإقليمي. ذلك أن التجارب والواقع يبرهنان كل يوم، أن الرهان على الإنجازات الاقتصادية وحدها لا يصنع موجات الاستئناف.
فالأجيال التي تقتنع بإنجازات الأرقام، سرعان ما تغير رأيها بتغير المعدلات والأرقام. وهذا بخلاف الأجيال المقتنعة بالفكرة، فإن منسوب تضحياتها من أجل النموذج واستماتتها تكون مرتفعة ومستمرة. وبإمكاننا أن نشاهد حجم التأثير الذي تمتلكه المجموعات الفاعلة أيديولوجيا في المنطقة، مقارنة بغيرها ممن لا تمتلك بناء أيديولوجيا.
قضية فلسطين:
لقد كان أحد أكبر أخطاء الإسلام السياسي في العقود الأخيرة، هو رهانه على تحقيق النمو الاقتصادي فقط، اعتقادا منه أن ذلك يضمن استمرار نموذجه ومشروعه السياسي. وأغفل من خلال هذا المنطق تماسك الأيديولوجيا، الدافعة للشعور الجماعي، فلا هو استفاد من بعض نجاحاته الاقتصادية المؤقتة، ولا هو حافظ على بنيته الفكرية الصلبة.
وكان برود وتجمد العناصر الأيديولوجية والدعوية لديه، سببا في عدم قدرته على العودة والاستئناف. إن التاريخ يبرهن على أننا لن نبقى طويلا في المستقبل من دون أيديولوجيا كبرى في المنطقة.
إن تحقيق قدر من الأيديولوجيا فوق القومية، أمر مطلوب حاليا بالنسبة للنموذج التركي والباكستاني والأندونيسي والماليزي. وهي من وجهة نظر تاريخية نماذج للقوى الإسلامية العاطلة.
أما بالنسبة الى مصر، فإن الحديث بخصوصها في الوقت الحالي عن أيديولوجيا عامة، يعتبر ضربا من العبث.
وفي حالة تركيا فإن خفّة وبرودة أيديولوجيا الإسلام السياسي الحالي، سوف يدفع نحو بروز قوى جديدة، تتغذى على هذا الجانب، لتحشد على قاعدة رفض التفريط أو عدم منح الأولوية للقضايا الإسلامية.
إن قضية فلسطين هي الشيء الوحيد الذي مازال يصنع الصلة بين هذه الدول ومكوناتها الاجتماعية، مع باقي شعوب المنطقة من الناحية الشعورية. ويذكّرها أحيانا بمفهوم الأمة الغائب. وبسبب خفة الأيديولوجيا، فلا أحد من هذه الدول بإمكانه أن يشتغل إقليميا من خلال بناء الأذرع، ومدّها في المنطقة، لكون التمدد يتأسّس على شبكة الولاءات الشعورية والفكرية في الغالب، حتى في أقسى الظروف.
هزّة في الوجدان:
أما الأيديولوجيا المطلوبة، فليست برنامجا اقتصاديا أو سياسيا. والسياق هنا لا يتسع لمناقشة المطلوب منها في المنطقة. لكني أكتفي بذكر أهم عنصر فيها، وهو القدرة على إحداث هزّة في الوجدان الاجتماعي، لا الفكري أو الثقافي في هذه المرحلة.
أهم ما يحتاجه الإنسان للحياة في الأماكن الباردة هو استمرار الحركة، التي تمنحه الحرارة والطاقة، فهو يتحرك في طلب الصيد والغذاء. وبهذا الاعتبار فإن مبدأ المطالبة أساسي لخروج العالم الإسلامي من حالة التجمد. وأساس المطالبة قائم على توسيع مساحة مشاعر وأفكار الطّلب.
ومن أهم مشاعر الطلب الكبرى التي ينبغي إعادة ترميمها، هو مفهوم” الجماعة “، التي تعكس الانتماء الإسلامي العام. إن مفهوم الجماعة يفرض التعاون والتفاهم، وقيام العصبية المشتركة في المنطقة. ومجرّد استمرار تداول هذا المفهوم، مؤثر على بنية الشعور لدى الشعوب.
لقد توقف النموذج الإسلامي عن مطالبة الآخرين، بما هو حق تاريخي وحضاري له. وانتقل من المطالبة بالقدس والأقصى، إلى مجرد التعايش مع الوضع الذي يحاول أن يضفي عليه طابع الواقع. كما توقفت كثير من النخب عن المطالبة بأي تغيير أو اقتراح أي بدائل. وسقط أحد أهم ركائز المطالبة وهو مفهوم” الدولة الراعية”، التي ترعى المشروع الإسلامي في العالم.
ترميم الروح الإسلامية:
تنعكس برودة الروح الإسلامية العامة في الانحسار الشديد، لمفاهيم وتعبيرات عديدة من التداول العام، مثل “أخوّة الدّين، أو الأخوة الإسلامية”. وتعتبر هذه المفاهيم من مفاهيم الطلب، وهي بسبب محدودية توظيفها السياسي والاجتماعي والثقافي، باتت تَضعُف دلالتها وتأثيرها على وعي المجتمعات الإسلامية. وقد أثبتت سابقًا فاعليتها في توجيه مواقف الشّعوب، حيال القضايا الكبرى للمنطقة، بسبب استعمالها الكثيف إعلاميًّا وسياسيًّا، من طرف عدد من الأنظمة العربيّة والأحزاب السياسيّة، والتّيارات الدّينية في المنطقة.
ويبدو أنّ درجة العصبيّة التي يمثّلها مفهوم الأخوّة في الدّين، لا تمنح هذا المفهوم الفاعلية الكافية، في بناء التوجّهات داخل الجغرافيا الإسلامية، وخلق الظّروف المناسبة للعمل المشترك. لكن ذوبان الجليد في المستقبل، سوف يكشف حجم المساحات الخصبة، التي حرم منها العالم الإسلامي نفسه.
* كاتب مغربي