تقديم ديوان ” بوح بوضوح” للمصطفى عبسي”
توطئة:
يخوض المصطفى عبسي تجربة جديدة من خلال ركوب قارب الشعر، بعد أن أصدر ديوانه الزجلي الأول بالعامية المغربية الذي عنونه ب ” جنان لحروف” سنة 2019، تلاه ديوانه الثاني ” ديوان في قصيدة” سنة 2002م، مولوده الشعري حمل عنوان ” بوح بوضوح” عن دار زاجل مصر للنشر والتوزيع أهداه الشاعر لأمه الغالية وزوجته المساندة له، والناقدة لأعماله.
وقد تردد الشاعر في خوض التجربة يقول ” لا أخفي أبدًا أنّي تَرَدَّدتُ كثيرا قبل الخوض في هذه التجربة الشعرية؛ لأنها الأولى لي على مستوى الفصيح بعدما ألفتُ في السابق ديوانين بالعامية المغربية. كانت قصائدي من هذا النوع تراوح مكانها بتقاسمها مع الأصدقاء فقط، لكن فكرت أن أصونها بين دفتي ديوان حتى يعطيها روحا جديدة، وطابعا خاصا لعلها تلقى انتشارًا أوسع، وهذا ما أتوخاه. ولا بأس أن أشير هنا أني ولعل أقاربي ومعار في يدركون هذا الأمر جيدا – زاهد جدا فيما يصبو إليه عامة الناس من حب للشهرة أو الظهور، بل إني أجد من المنطق وأحمد دائما أن يصل خطابي إلى القارئ في المقام الأول، ما دمت مقتنعا بفحواه وواثقا في جدواه. وعلى هذا الأساس تأتى لي التواصل مع مؤسسة زاجل للنشر والتوزيع الذي دُبر بصدفة، وَوَجَدتُ عندها الحظوة والعون والسند، أشكرها من صميم القلب، وأرجو من الله تعالى أن أكون عند حسن ظنها.” الديوان ص 6
حاول الشاعر ، في كثير من قصائده، أن ينبه إلى سلوكات مشينة أصبحنا نتعايش وتطبع معها، وتقتضي من الجميع المساهمة في التنبيه إليها وتقويمها، وركز على منظومة القيم، التي كانت تشكل اللبنات الأساس لمجتمعنا فبدأ يشوبها الاضمحلال، وتكاد أن تطمس لما نلقاه من اكتساح للعادات الغربية لمجتمعنا عن طريق قنوات التواصل الاجتماعي. وبسبب استهلاكنا لمحتوى هذه الأخيرة بشكل جامع، وبدون حرص أو تمحيص أو تدقيق؛ مما ينتج عنه ابتعاد للفرد عن هويته وانسلاخه عنها.الديوان ص 7
مضامين الديوان:
حاول الديوان أن يسلط الضوء على عدة مواضيع، اجتماعية وعاطفية بالخصوص، قد يبدو للقارئ عند قراءتها لأول مرة أنها تحمل الكثير من التشاؤم، لكن يؤكد صاحبها ويقر أن مقابل ما قد يبدو أنه تشاؤم يتبلور فيض لا انتهاء له من التفاؤل بالغد الأفضل والمستقبل المشرق، لأنه لا يرى في الحياة تعايشاً غير التعايش بالقيم الفاضلة التي تجعل من الإنسان إنسانا متزن السلوك متوازن الوجدان، وترشح لديه فكرة أن بقاءه يقوم على بقاء أخيه الإنسان، وهنا يأتي دور الشعر كصنف إبداعي، ، له ماله من التأثير في النفوس كي يضع الأصبع على ما يعتل من هذه القيم. الديوان ص 7/8
في تقديمه للديوان، أبرز الناقد ذ: أ. سعيد وزاك، أن الشاعر ابن بيئته حيث انطلق الشاعر ” .. من صميم واقعه ليرسم لنا لوحة شعرية رائعة تمتح من المعيش اليومي بكل تناقضاته واختلافاته بين ما هو اجتماعي وعاطفي بلغةٍ رصينة وحروف مشبعة بشاعرية رقيقة تجذب القارئ نحو عوالم الجمال الحسي، وتحلق به بأجنحة خيال مفعم بالإبداع والخلق والابتكار.
وقد ضم الديوان “بوح بوضوح” 26 قصيدة زاوجت بين الجانب الاجتماعي والجانب العاطفي. ومن خلال تصفح الناقد والباحث ذ سعيد وزاك لقصائد هذا الديوان وجدها من الجانب الاجتماعي تركز على هموم المجتمع والهوة السحيقة بين طبقاته ففي قصيدة “تساؤلات” قام الشاعر بتجسيد المفارقات الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء في مجتمع يتلمس طريقه تحوير الأمان، لكن الإقصاء والتهميش يؤديان إلى اللاتوازن، مما جعله يلبس الحق لباس النصر لأن التعايش في طبقة الفقراء قادر على خلق البديل…… ولعل قصيدة “هبة” هي الأكثر حزنا ودرامية، وقد أبانت على الشاعر يعيش هموم عصره وما يقع فيه من أحداث، ولو كانت شاد قسوة ، لأن هذا هو الدور الذي ينبغي أن يلعبه الشعر في الصافية بهموم الناس وقصيدة “هبة” تصور مأساة هذه الطفلة التي ماتت محترقة رقم صراخها الذي يمتزج ببراءة تريد أن تنفلت من عقال النسيان والتهميش واللامبالاة، وهنا نلاحظ روعة الشاعر في تصوير “هبة ” وكأنها ذلك الصوت الملائكي الذي يشير إلى احتراق الحقوق في عالم ينجح بالدفاع عن الطفولة، وما دفاعه عنها سوى لماني جوفاء واهنة، يقول الشاعر في هذا الصدد:
ليتكم كنتم مخلصين في إنقاذي
كما أخلصت في حرق جسدي النيران
وتعتبر قصيدة ” يا لك من زمن التي تسائل هذا الزمن العفن، زمن المكر والخداع واللامساواة، بل هو زمن الأطماع والأنانية البغيضة كما وضحها في هذه الأسطر:
يا لك من زمن قاهر
تلك القافلة تظل تسير
وكلابها على مرك تربح الديوان ص 13
إن الشاعر المصطفى عبسي لصيق مجتمعه الذي يحمل . التناقضات المجتمعية الصارخة حيث الهوة سحيقة الأم والغنى والأمل والألم وبين الإنسان واللاإنسان.
كما ركز الشاعر في الجانب العاطفي على تقنية ” الفلاش باك” التي تعتمد على تقنية الاسترجاع للماضي الجميل الذي بقي في لا شعور الشاعر، وهنا نلمس مسحة الحزن في لغته، ففي قصيدة ” أسير الهوى ” حاول أن يسترجع شذرات من الماضي الذي عاشه في كفر خواطر وجدانية رائعة. وفي قصيدة “نقم الهوى” غلبت على وجدانه العاطفي لغة اليأس والاستسلام لقدر قاس رفاه في النسيان والضعف والهوان، فيقول بهذا الخصوص:
أتسمحين لي أن أعيده كرة
لنرمم ما يمكن أن يُرمم
أم أنَّ قصدك كان واضحا
ونعمة الهوى صارت نقما الديوان ص 14
وتحمل قصيدة ” ثمن الحرية ” مناجاة الشاعر لواقع ظل عصيا عليه ليجد نفسه أمام عدة عراقيل ومصاعب تمنعه من لقاء قدره الجميل، فيعيش معاناة ومكابدة شديدتين، لأن الوصال سينال من أشرف ما يملك حريته. وفي قصيدة ” تعالي إلى ” يتوجه الشاعر إلى الطبيعة مرة أخرى (البدر القمر البحر، الشجرة الحجر ) بهذه المناجاة، وهنا نلاحظ السمة الرومانسية التي تطبع لتحديد فيفتح كوة في صرح ماض لا يريد أن يرجان ليبقى الأمل هو طوق النجاة الوحيد للوصول إلى بر الأمان.
ومن التيمات المتضمنة في الديوان: تيمة الحب، تيمة الوفاء ، تيمة البوح، تيمة الطهر والنقاء، تيمة الاغتراب.. الديوان ص 15/16
خلاصة:
عمل الشاعر على توظيف أسلوب لغوي يرضي الجميع مع تنويع المواضيع والصور الشعرية، متمنيا أن يجد بين سطوره صاحب المستوى المعرفي المتواضع والمثقف الواسع المعرفة ما يُرضيهما على حد سواء. إن قصائد الديوان “بوح بوضوح” للشاعر المصطفى عبسي حبلى بالخيال الذي يترك الباب مفتوحا على مصراعيه للقارئ والمتلقي، الذي يلجأ إلى التأويل ليفك شفرات لغة استمدت روحها من معين فياض امتزج فيه الإحساس بالكلمة ليحلق في سماء الخلق والابتكار. فلا غرو أنها تمتح من الواقع اليومي، وتعطي تشريحا لواقع الشاعر الملموس من خلال الإشارة إلى جراح في جسد الإنسانية بتعبير رقيق وراق حمل كذلك لواعج النفس رغم ألم التذكر.
الديوان سفر عبر سفينة الشعر لتبحر في يم القصيد وتحلق في سماء المعنى وتسافر الى حيث واحة الحرف الصادق، وأغلب قصائده وجدها الشاعر على ملا مح الإنسان… ” بوح بوضوح” محاولة للبوح عبر القصائد من خلال الأحاسيس، من أجل اقتحام أسوار القلب والعقل معا.