بقلم : ذ: هشام امساعدي
أن يفرح التلاميذ المجدون بانتهاء السنة الدراسية مع بعضهم في حرم المؤسسة أو خارجها هو حق من حقوقهم. ذلك أن فرحتهم تأتي بعد مجهودات موسم دراسي حافل بالجد والاجتهاد والمثابرة، والسهر إلى منتصف الليل في إعداد الواجبات المنزلية، والاستيقاظ مبكرا لإدراك حصص الصباح الأولى، وتحمُّل عناء الطريق والتنقل والاكتفاء بنصف وجبة للوصول في الوقت، ومجاهدة النفس في مقاطعة الهواتف وأجهزة الألعاب وقت الفروض والامتحانات… وأن يحتفلوا داخل فصول الدراسة صحبة معلميهم المحبوبين وأساتذتهم الذين يرتاحون لهم وفق ضوابط أخلاقية، وآداب لا تنتهك القواعد الأساسية للسلوك اللائق في التقاط الصور التذكارية وتناول الحلوى والمشروبات وترديد الأناشيد واسترجاع الأوقات الجميلة، هو أمر مرغوب وسلوك لا بأس فيه، ولا يملك الأستاذ سوى التفاعل الإيجابي معه مادام هذا الاحتفال لا يخرج عن دائرة التواصل التربوي الذي ينبني ـ على مدار السنة أو السنوات ـ على علاقات إنسانية وتأثيرات من شأنها أن توطد العلاقة بين المعلم والمتعلمين، وأن تُسهم في بناء شخصية الطفل/الطالب ونموه معرفيا ونفسيا واجتماعيا… فحين ينظر التلاميذ إلى معلميهم وأساتذتهم بأنهم شركاء لا غُرَمَاءُ (جمع غريم وهو الخصم) في العملية التربوية، يُقْبِلون بجد على التعلم ويصبحون أكثر انفتاحا على المدرسة.
بَيْدَ أن صورة الفرحة التي استوقفتني هذه السنة كما في السنوات القليلة الماضية، خاصة بين تلاميذ السنوات الإشهادية عند اجتيازهم آخر مادة من المواد المقررة في الامتحانات الجهوية والوطنية، هي صورة مغايرة تماما لهذا السلوك اللائق والمرغوب فيه في التعبير عن المشاعر الإنسانية. فرحة ظاهرها احتفال وترفيه وباطنها اختلال في قواعد التربية وأسس التعليم. إنها صورة لعُصبة من التلاميذ وهم يمزقون الدفاتر والكتب المدرسية أمام أبواب المؤسسات التعليمية، ويرمون المحافظ فارغةً في الهواء تعبيرا منهم عن فرحتهم بانتهاء الموسم الدراسي، وتخلصهم من عبء الدراسة والحضور الإلزامي كل يوم، مع الحرص على توثيق هذه الصورة القاتمة صوتا وصورة بواسطة هواتفهم الذكية مادِّين أصواتَهم في غبطة وسرور: “c’est fini باي باي يا المدرسة”… كما لو أصبح هذا المشهد البئيس طقسا من طقوس نهاية الامتحانات الإشهادية، وهم لا يعلمون أنهم أضافوا تعبا آخر لعمال النظافة بعد انتشار مخلفاتهم في كل شبر من الشارع.
هذا الخروج عن الأشكال الراقية والمألوفة في الاحتفال أساء إلى كل معاني الفرح في عين المراقبين وأولياء الأمور، وأساء إلى علاقة التلميذ بأستاذه، وإلى علاقته بمجتمعه، وإلى علاقته بنفسه حتى صار حديث الجرائد الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي الباحثة عن مادة إعلامية تخلق الحدث. وهو ما يدعونا جميعا ـ آباء وأمهات ومُرَبِّين ومسؤولين ـ إلى التساؤل: هل نحن أمام حالة عرضية أم أمام سلوك أصبح معتادا، وقد يصل مع توالي السنين وتكرار الفعل إلى مستوى الظاهرة السلبية؟ كيف بات هذا الجيل لا يخجل من تصرفاته الطائشة أمام الملأ، وصار يفخر بتوثيق السوء أمام عدسات الكاميرا؟ هل انتقل هذا الجيل، تحت مسمى الحريات الفردية، إلى مرحلة السقوط وصولا إلى ثقافة بل ثقافات الانحلال؟
مهلا أيها المحتفلون بتمزيق الكتب المدرسية والدفاتر، هل لكم عذر فيما فعلتم؟ حاولت وقد هزتني شراسة المشهد أن أجد لكم عذرا في احتفالكم، فوجدت أن كل الأعذار أقبح من ذنبكم. لكنني اجتهدت قدر الإمكان في الوقوف على بعض الجوانب النفسية التي من الممكن أن تكون وراء هذا السلوك البشري غير السوي، وبعض العوامل الاجتماعية المغذية له بحكم أن أي سلوك اجتماعي لشخص أو جماعة أشخاص هو انعكاس للموقف الذي يمرون به.
معشر المحتفلين، إن تجسيدكم للاحتفال بهذه الطريقة الشائنة ما هو إلا الشجرة التي تخفي خلفها غابة من الاختلالات والمشاكل التي تتخبط فيها المؤسسات التربوية منذ عقود، ويحاول المدرسون والمدرسات التعايش معها على مضض. إن احتفالكم هذا يعكس بالعين المجردة طاقة الكراهية العالية التي يحملها تلاميذ هذا الجيل تجاه المدرسة والأستاذ؛ ففي تمزيق التلاميذ للدفاتر والكتب تمزيق للروابط والصلات الحسية والمعنوية التي تجمعهم بالأستاذ والمدرسة، ونقصان اعتراف بفضلهما عليهم. ويؤكد من ناحية أخرى أن هذا الجيل يعيش بالفعل تحولا جذريا في الأفكار ونظرةً مغايرة للعالم؛ فكأنهم بانتقامهم من الدفاتر والكتب ـ بوصفهما مصدرين من مصادر التحصيل الدراسي وإنتاج المعرفة ـ إنما ينتقمون من المناهج الدراسية برمتها التي لم تفلح في غرس قواعد التربية السليمة، وينتقمون من الأستاذ الذي لا يكف عن مراقبتهما بداية كل حصة، ويعتبر إحضارهما معيارا للجدية وعلامة على الرغبة في الدراسة من التلاميذ. واسألوا آخر أستاذ بالقرية قبل المدينة عن مؤشرات كراهية التلاميذ للتعلم والدراسة من أبناء هذا الجيل في مؤسسته، سيرصد لكم بدل المؤشر الواحد العشرات من قبيل:
ـــ عدم الحفاظ على تجهيزات المؤسسة وممتلكاتها العامة: تعطيل الصنابير؛ تفكيك المقاعد والكراسي؛ تخريب الطاولات؛ سرقة المصابيح والمُعِدات المخبرية…
ـــ إهمال الواجبات المنزلية، وعدم المبالاة بالعقوبات التربوية كفصم النقط من معدل الأنشطة المندمجة أو الحرمان من المشاركة في القسم أو في حصة الرياضة؛
ـــ عدم بذل أي مجهود داخل القسم، ومحاولة تصدير ثقافة العدم إلى القلة القليلة من التلاميذ الجادين المجدين؛
ـــ التجرُّؤ على الأستاذ وتقليل الاحترام عليه أمام التلاميذ؛
ـــ الغياب المتكرر والتأخر المقصود عن الحصص؛
ـــ الاطمئنان إلى المنكر (العلاقات المحرمة والكلام الفاحش)، وعدم التورع من الغش وكأنه حق مشروع؛
ـــ التبول في الدرج وفي الممرات المسقوفة؛
ـــ الكتابة على الجدران بعبارات مسيئة وخادشة للحياء العام؛
ـــ ردود الأفعال العنيفة تجاه الطاقم الإداري والتربوي، والتنمر على التلاميذ…
إن مقارنة بسيطة بين تلاميذ هذا الجيل وجيل بداية الألفية الثالثة (حتى لا أقارنهم بجيل التسعينيات من القرن الماضي) كافية لإدراكنا جميعا أن هذا التراجع القيمي الخطير لم يكن فيما مضى صارخا ومنكشفا كما هو الآن، وأن بضع سنوات كفيلة بإحداث فجوة قيم ومفاهيم وتصورات بين الأجيال، وإنشاء موجة ارتداد قوية في المستوى التعليمي بسبب تسارع المتغيرات العالمية وتأثير وسائل الإعلام المعاصرة في صناعة جيل فارغ معرفيا وعاطفيا واجتماعيا، يفتقد القدرة على التعلم والتركيز والتفاعل الإيجابي مع بيئته ومحيطه؛ جيل انتقل من قاعات الدراسة إلى منصات الإعلام ليستهلك المحتوى والصورة، ويخوض معارك وهمية بين سطور التعليقات، ويَدُلُّ بنفسه أمام الأجيال السابقة كأنه هو العنوان في كل ذلك الاستهلاك؛ جيل يعيش الحداثة شكلا لا مضمونا، ولا يجد لنفسه قيمة ومكانة إلا وهو بحوزة هاتفه، ولا يُشَكِّلُ علاقاته وروابطه إلا عبر الوسيط الآلي؛ جيل لا يقبل الوصاية من أحد ويعطي لنفسه الحق في مناقشة كل شيء ونقد كل شيء، وتَسكنُه الروحُ الثورية على المعتقدات والتاريخ والذاكرة الجماعية والعادات والتقاليد والأعراف؛ جيل يعتبر الانحدار حريةً فردية، والتطاول جرأةً يجب اكتسابها، والاندفاعَ شجاعةً وبطولة؛ جيل حالم يعشق السعادة والحياة المثالية داخل المجتمعات الافتراضية، ويستغرق طول الوقت في المستقبل الذي لا يأتي كما يشتهيه عندما يفرغ هاتفه الذكي من الشحن.
إذاً نحن أمام جيل غارق في دوامة الانفتاح المعرفي والتسوق الإلكتروني، ويدور حول محور وهمي ومنفلت تماما من القيم الإنسانية والاجتماعية، لأنه ببساطة لم تعد تهمه القيم والقواعد والأصول، ولا انتقادات الأسرة والمعلم والمجتمع مادام هو يقيس مكانته بعدد المتابعات والتعليقات في منصات التواصل الاجتماعي، ومادام يجد لأفكاره الساقطة وسلوكاته المنحرفة صدى ووزنا في نقرات المعجبين والمعجبات التي تطلب منه مزيدا من الجسارة والإقدام في قادم المشاركات. ولن أكون قاسيا إذا قلت: لن نجني سوى الفراغ من جيل يعيش في نوع من الفراغ، ويريد تحقيق الذات من هذا الفراغ؛ ولن نتوقع الإنجاز من جيل انتظاري لا يكلف نفسه بذل مجهود لينسجم مع محيطه الأسري وبيئته كما نجحت في ذلك الأجيال السابقة بشكل سلس، بل يريد من البيئة نفسها أن تنسجم معه. وعندما يشعر أن العالم لا يتغير من أجله، يُقْبِلُ على شراء أغراضه من السوء والتفاهة والرذيلة، ولا ضير عنده في أن يأكل من الشجرة ويقطع في عروقها سواء أكانت هذه الشجرة وطنا أو عشيرة أو مدرسة أو كتابا أو معلما.
وطبيعي، في غياب الوازع القيمي والأخلاقي لدى هذا الجيل وتدني مستواه التعليمي والمعرفي، أن تلتفَّ خيوط الثورة الرقمية المستَتِرة حول رقبته ويتسلل خطرها إلى وعيه وسلوكه ونظرته للعالم، وأن تتدرج وسائل الإعلام وشبكاته في تحبيب الاتِّباع والاستخفاف والهبوط إليه، أملا في تشكيل هوية جديدة غير هويته؛ هوية عنوانها عدم الاعتراف بالقيم الإنسانية والمُثُل الإسلامية العليا التي تقود الإنسان إلى السلوك الحسن والأهداف العالية، وتَسُوقُهُ نحو بناء مجتمع صالح ومتماسك.
فإذا استثنينا فئة قليلة من أبناء هذا الجيل التي تؤمن بالنجاح في حياتها الشخصية والمهنية، وتسعى إليه سعيا اعتمادا على خطة واضحة وأهداف محددة، فإن الغالبية الساحقة تكره الاجتهاد والكفاح في الحياة، ولا طاقة لها على العمل والتضحية واتخاذ القرار، وتبحث عن أقصر المسافات وأيسر السبل لتحقيق الشهرة في ساحات وسائل التواصل الحديثة. وشتان بين النجاح في الواقع الذي يأتي عن طريق العمل الدؤوب والسعي المستمر والانضباط والصبر، وبين الشهرة التواصلية التي تتجاوز في تحققها ـ أحيانا كثيرة ـ كل غاية نبيلة إلى تجريب الوسائل غير المشروعة وصولا إلى ما يسميه المختصون ب “الاستنفاع المنفلت”؛ إذ لا مانع عند هؤلاء الذين انحدرت أذواقهم قبل سراويلهم من تحقيق الشهرة والربح السريع من بوابة التفاهات. وتحت رعاية التفاهة يبني المُنْفَلِتُون مجدا من خيال، ومعابدَ من خَبَال.
أعتقد أن البحث عن الشهرة الزائفة وتحقيق الذات لدى كثير من أبناء هذا الجيل، مهما كان التصرف شائنا كتمزيق الدفاتر والكتب المدرسية أمام المؤسسات التعليمية، ومهما كان المحتوى الإعلامي المقدم (تحليل نص، صورة، فيديو…) رديئا وتافها، هو أول مؤشرات هويتهم المسروقة. وليس السارق سوى الإعلام الاجتماعي وشبكاته بصفتهما الراعي الرسمي لثقافة التفاهة في زمن الثورة الرقمية. ولن آتي سوى بأمثلة قليلة على أمواج التفاهة في بحر الانفلات الإعلامي.
أنت لما تشاهد مثلا قنوات إعلامية عديدة ومواقع للتواصل الاجتماعي تتزاحم أمام المؤسسات التعليمية في فترة الامتحانات الوطنية والجهوية للظفر بتسجيل حوارات تافهة مع فئة معينة من التلاميذ، أقل ما يقال في حقها إنها كانت تائهة وشاردة طيلة الموسم الدراسي، وأحسب أن هذه الفئة مقصودة بالحوار عند كثير من الإعلاميين الباحثين عن انتزاع أكبر عدد من نقرات الإعجاب والانتساب إلى الصفحات، يقدمون أنفسهم ناطقين رسميين باسم جميع التلاميذ المغاربة وكأنهم بطاقة بريدية (une carte postale) لأبناء المغرب، يستهزئون بالدراسة وبأسئلة الامتحان وبكَمِّ الآيات والدروس المطلوب حفظُها في نهاية السنة، ويُنَقِّصون من دور المراقبين الذين يؤدون مهمتهم على أكمل وجه في قالب ساخر، ويتباهون أمام الكاميرات بنجاحهم في الغش والتضليل، ويعيشون ـ لحظة التسجيل والتصوير ـ دور الضحية بإلقاء اللوم على الظروف والأشخاص في كل شيء لا يروقهم أو يناسب هواهم، ويتهربون من تحميل أنفسهم المسؤولية فيما حصل ويحصل… أنت لما تتابع كل ذلك العبث والسوء تفهم أن الغاية هي تبخيس قيمة العلم والتحصيل الدراسي، وتخسيس وزن التقييم المستمر والامتحانات في عيون الفئة المنضبطة والمجتهدة، وإشاعة روح الهزيمة النفسية والاستسلام للفشل بين أبناء هذا الجيل.
وأنت حين تجد نشطاء المحتوى الإعلامي الرقمي يحتفون ب “النكرات”، وبأشخاص فارغين لا هم محسوبون على الرياضة ولا على الغناء ولا على التمثيل أو الكوميديا… كل إنجازاتهم أنهم نشروا مقاطع فيديو على منصات التواصل الاجتماعي قدَّموا فيها فكرة منحطة أو فضيحة بجرعة زائدة، أو وهَّموا الجمهور بمشاكل مزيفة، أو نطقوا عبارة إنجليزية أو فرنسية بشكل مُحَرَّف… صانعين منهم نجوما من ورق؛ وحين تجد رواد الإعلام المشاهير لا يتحرجون في مخالطة الفاسدين والشواذ جنسيا من أهل الفن والرياضة بمقدار الارتياح والإعجاب لا بمقدار الحاجة (كأن يكون العمل مثلا هو الذي يجمعهم بهم ويجبرهم على الجلوس معهم)؛ وحين تجد الدولة تُغْدِقُ الأموال والإكراميات على كل هؤلاء بلا حساب، من أجل أن يقبلوا بالمشاركة في حفل خيري أو إحياء سهرة أو مهرجان فني هنا أو هناك؛ وبالمقابل تجدها تتعمد إبعاد النماذج المضيئة من الشباب الناجحين في حياتهم الدراسية والعملية، وتُغَيِّب عن قصد المسابقات الجادة والنافعة في حفظ القرآن والأشعار والتاريخ، وفي مختلف الآداب والفنون والعلوم… وإذا ما قُدِّرَ لوزارة من الوزارات أن تلتفت إلى هذه القدوات الحسنة من الشباب الناجح، فإنها تُنفق عليهم إنفاق البخيل عام الشِّدَّة، خاصة ما كان له ارتباط بنشر الوعي والقراءة والثقافة العامة كمسابقة المشروع الوطني للقراءة؛ أنت حين تنظر إلى كل تلك الحالات متفرقةً أو مجتمعةً، تستنتج أن الإعلام الفاسد بتمكينه لهؤلاء التافهين وتعبيد طريق الشهرة والربح السريع لهم إنما يريد بذلك صناعة قدوات جديدة لأبناء هذا الجيل من نجوم الهوى والعَفَن، ويوظفهم ـ مع سبق الإصرار والترصد ـ أدواتٍ للتجهيل وتضليل الشباب، ومشاريعَ لتسطيح الفكر وتزييف الوعي وطمس الهوية والذاكرة الجماعية.
وأي عار أكبر من أن تخصص وزارة التربية والتعليم بالمغرب جائزة مالية قدرها 5000 درهم للتلميذة “هبة الفرشيوي” بعد فوزها بالمرتبة الأولى في الأولمبياد الإفريقي للرياضيات الذي أقيم في العاصمة الرواندية “كيغالي” في 21 ماي 2023، وتشريفها لبلدها حيث تُوِّجَت بلقب “ملكة إفريقيا في الرياضيات لسنة 2023″، لتجد عند عودتها استقبالا شاحبا بالمطار شحوب القلم الذي أُجْبِرَ على كتابة الشيك، وخاليا من كل أجواء التقدير والتسويق الإعلامي اللذين يحظى بهما أشباه الفنانين وأنصاف المواهب والقدوات السيئة. مكافأة لا تساوي ثمن تنسيقيات الزهور وباقات الورد التي توضع أمام آخر فنانة في البلاتوهات التلفزية أو في مؤتمر من المؤتمرات الصحفية الاستهلاكية التي تعقدها، واستقبال لا يُضَارِعُ دموع الفخر التي غمرت التلميذة “هبة” وهي تحمل العلم المغربي على منصة التتويج في أدغال إفريقيا.
إن تهميش الناصحين والمصلحين والقدوات الحقيقية من أهل العلم والمعرفة، وتكريم التافهين في مختلف جوانب الحياة، وإظهارهم أمام المتابعين بمظهر الأشخاص المُهِمِّين الذين يحق لهم تصدر المنابر والمجالس والبلاتوهات ومنصات التواصل، سيشعر أبناء هذا الجيل بالنقص إزاء حياتهم الطبيعية ويغير نظرتهم للنجاح في الواقع، وسوف يُزَهِّدُهم في طلب العلم والكفاح لأجل تحقيق أهدافهم، ولن يزيدهم إلا بُعدا عن القيم والفضائل ومكارم الأخلاق في المستقبل. كيف لا وهم يرون غيرهم من الشباب الفارغ يطرقون أبواب المجد والشهرة والثروة دون تعب ودون حاجة إلى تحصيل علمي أو شهادة من مدرسة أو جامعة؟ وَمَنْ مِنَ هؤلاء الناشئين الميَّالين بطبعهم إلى الكسل والنوم إلى حدود العصر، سيُفضِّل طريق العلم الطويل والشاق على طريق النجومية القصير والمُرْبِح؟
وجدير بالذكر، قبل الختام، أن الثورة الرقمية (في جانبها المنفلت طبعا) ليست هي السبب الوحيد وراء كُره التلاميذ للتعلم والقراءة ونفورهم من المدرسة، لكنها ـ في نظري ـ تبقى السبب الرئيسي في صناعة هذه الكراهية وهذا التراجع الكبير في منسوب القيم في المجتمع. وهناك أسباب أخرى أسهمت بنسب متفاوتة في هذا التحول الاجتماعي والتغير القيمي الخطيرين، قد نعود لها بقليل من التفصيل في مقال مستقل إن شاء الله، ويمكن تركيزها في ثلاث دوائر كبرى:
ـــ المؤسسة الأسرية: التسامح الزائد مع الأبناء؛ غياب القدوة الصالحة من الآباء؛ إهمال الأطفال بسبب نشاطات المرأة الجديدة وتفضيلها العمل المهني على العمل المنزلي؛ إلقاء مسؤولية التربية والتنشئة الاجتماعية على المدرسة…
ـــ المؤسسة التعليمية: كثرة الواجبات المدرسية؛ اتباع أساليب عتيقة ونمطية في التدريس والتقويم؛ ضعف التشجيع والتحفيز التربوي؛ السخرية والتنمر؛ قلة الفضاءات التربوية المناسبة لبناء شخصية المتعلم وإشباع حاجاته النفسية والاجتماعية…
ـــ مؤسسة المجتمع: الرفقة السيئة؛ النظرة المادية للحياة؛ تغير العلاقة بين الرجل والمرأة بعد خروج المرأة للعمل؛ تهرب الشباب من تكوين أسرة؛ انتشار العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج…
عطفا على كل ما سبق، نقول إن طاقة الكراهية العالية عند شباب هذا الجيل للعلم والمدرسة لن تكفي معها توعيةٌ ولا تحسيسٌ بأهمية تقدير المعلم وبقيمة المصالحة مع الكتاب في إحداث التغيير المنشود وتحقيق النجاح المطلوب في الحياة، بل إن الأمر يحتاج إلى مراجعة جذرية وشاملة لأجزاء المنظومة التربوية أملا في تطوير الوعي التربوي والاجتماعي الكفيل بتعزيز قيمة العلم وحب المعلم في نفوس الناشئين، وحمايتهم من الانجرار وراء حملات الإشغال والإلهاء عن بناء نهضة الأمة، والاستجابة لدعوات الانحلال والثورة على القيم والأخلاق باسم الحريات الفردية والحداثة.