الواجهةجرائم وحوادث وقضايامجتمع

تأملات في مصير الأسرة لدى تطبيق القانون على أولياء الأطفال (قراءة سوسيولوجية)

بقلم الدكتور عبد الله صدقي

بمناسبة الذكرى الـ 25 لعيد العرش، أصدر العاهل المغربي الملك محمد السادس عفوا، يشمل ألفين وأربعِ مائةٍ وستةٍ وسبعين شخصا 2476، شمل فيها العفو الملكي ثلاثة صحفيين ومؤرخا وهم: توفيق بوعشرين وعمر الراضي وسليمان الريسوني والمعطي منجب وآخرين …
* العفو حق حصري على الملك، وذلك بموجب الفصل الثامن والخمسين من الدستور… وهي سنة حسنة … عيد عرش سعيد على جلالة الملك الهمام (محمد السادس رعاه الله)

من صميم العدل أن يعاقب الظالم مرتكب جُنحة أو جِناية أو خَرقٍ للقانون، أو مستعمل للشطط في تطبيق القانون، أو حين الإدانة في إحدى القضايا المتعلقة بالحق العام، طلبا لإقامة دولة الحق والقانون والعدل، وضمان الحقوق، وتطهير الحياة من الفساد الاجتماعي، والفساد المالي، والفساد القانوني، والفساد الاقتصادي والفساد الفكري …

لا جدال في أن الامتثال أمام القضاء والعدالة أمر قانوني وحضاري، وجب أن يستجيب له أي مواطن كان، سواء حاكما أو محكوما، قاضا أو شرطيا، مسؤولا أو مستخدَما، فقيرا أو غنيا، أبيض أو أسود، فالكل سواسية أمام القانون، والحق والعدل هما عمادا القضاء … فالقانون والعدالة وجب أن يعلوا ولا يُعلى عليْهما، ما داما هما صماما الأمان، الضَّامنان لبناء مجتمع ينعم بالاستقرار والسلام والأمن وضمان كرامة الأفراد …

إن القاعدة الذهبية في أصل قانون القضاء، هي أن (الفرد بريء حتى تثبت إدانته، وليس متهما حتى تثبت براءته)، لذلك وجب أخذ جميع الاحتياطات عند الاشتباه في أي فرد، حرصا على أنْ لا تُمس كرامتُه بضرر، أو يُساء إلى شرفه وعرضه، أو يُنال من مكانته الاجتماعية والأسرية والوظيفية، ذلك أن البراءة التي تأتي بعد التحقيق والحكم النهائي بعد اتهامه، لا يمكن لها أن تمسح التُّهم والإساءات والنظرات التي التُصَقت به سابقا في المجتمع، بل ستلازمه طوال الحياة، إنه بعبارة واضحة (سيعيش حياة ملطخة بالباطل)، يستخدمها كل من أراد الإساءة إليه لدى الحاجة، وتبقى عصا يُطارَدُ بها في كل منعطف من حياته، ولن يستطيع أحد أن يخلصه من تبعاتِها … ( كم من مظلومين دخلوا السجن بالباطل وهم (بُرَآء)، تعوزهم أدلة البراءة !!! وكم منهم من خلوا سبيلهم، وأخرجوهم من السجن، لأنهم لم يجدوا شيئا ضدهم، أو ظهر ما يثبت براءتهم بعد أن قضوا في السجن أياما وليالي، إن لم تكن سنواتٍ وعقودا، ثم يعوضوه بحفنة من مال، وقد لا يعوض إطلاقا… لكن القوانين المكتوبة لا تستطيع أن تمسح ما لحق بنفسياتهم من آلام وعقد واكتئاب، وما أصيبوا به من أمراض مُزمنة، أو لحق بسيرتهم في الحياة الاجتماعية والسياسة، التي ستعرضهم لوابل من النعوت والسخرية، والتشفي من قِبَلِ أفراد المجتمع، وهذا ما قد ننعته بغياب (ثقافة قانونية عادلة)، تلك التي تستطيع أن تَسُنَّ قوانين أكثر عدالة، وترقى بالمشرِّع، ليكون مؤهلا لوضع النصوص والأحكام والقوانين المنصفة المتقدمة.

أما جانب آخر، وهو ما نريد الحديث عنه، لما يمثل من أهمية قصوى وإشكال عصي، ونقصد مصير(الأسرة) ومصير (الأبناء)، إننا ندرك تمام الإدراك أن هذا الأمر يُعد إشكالا عسيرا ومعقدا أمام الفعل القضائي الحالي في القانون، ذلك أن مرتكب الجُنحة أو الجِناية أو غيرهما، قد تقول العدالة القانونية كلمتها فيهم، ويُزَّجُّ بهم في السجن، سنة أو سنوات أو عقود، ويَنْفُضُ القاضي يده، وقد أدى مهمَّته على أحسن وجه، بعدما طبق ما على الأوراق من قانون، واستخدام حسب كفاءته القانونية وثقافته الاجتماعية ما يدعى بالسلطة التقديرية،

إلا أن مصير الأسرة بالأبناء تظل في الدائرة الرمادية، خاصة إذا كان هذا السجين أبا أو أما… حيث يكون دخولهما إلى السجن طامة كبرى ستحلُّ على الأبناء الذين لم يرتكبوا أي جنحة أو جناية، ولا أي ذنب، لتخَربَ بيوتهم، وتبعثر أسُرهم، ليصيروا في سراب الضياع بعد أن طبقت العدالة، وزُجَّ بأحد آبائهم أو أمهاتهم في السجن، وأغلقت المحكمة أبوابها، وانفض القضاة إلى قضايا أخرى.

صحيح أننا أمام تحدي خطير لمصير (الأسرة)، حين تعرض أحد أوليائها إلى الاعتقال والسجن، ونحن نعلم علم اليقين أن هذا التأمل يُرهق فكر أهل القانون، مثلما يرهق فكر علماء الاجتماع وعلماء النفس والسياسيين والفقهاء وغيرهم … نحن متفقون على أن يطبق القانون على أي فرد من أفراد المجتمع، يتجاوز حدوده ظلما، وينال الظالم جزاءه، غرامة مالية أو سجنا نافدا، (ولا نتحدث هنا عن الحكم بالمتابعة في حال سراح وغيره) … لكننا متفقون على أن السؤال الاجتماعي والحضاري والعادل يظل قائما متمثلا في معرفة (ما مصير الأسرة والأبناء؟)، … ومن سيحل محل الأب في الأسرة، أو مكان الأم؟… نعم الأب ارتكب جُرما قانونيا، لكن ما ذنب الأطفال حتى تبعثر أسرهم ويصبحوا في مفترق الطرق عرضة للانحراف؟؟؟ …

شواهد كثيرة لدينا عن آباء قضوا عقوبتهم في السجن، وخرجوا، فإذا بهم يجدون أبناءهم مشردين، بل منهم مَنْ تعاطى المخدرات، ومَن أمتهنَ الإجرام وزار السجن مرات ومرات، ومنهم من أصبح مريضا نفسيا باضطراب الشخصية الخطير، ومنهم من اختلَّ عقليا بمرض دهاني، وهام على وجهه في الأرض، ومنهم فتيات تعاطين الدعارة والتسكع، وغير ذلك من نتائج غياب أحد الوالديْن، إنها باختصار (مأساة تحل بالأبناء بل ب(بالوطن) )، الذين سيظلون يجترون هذه المأساة، لتصير وَبَالا عليهم وعلى عائلاتهم، وعلى المجتمع قاطبةً، إنها الهزيمة النكراء للمجتمع أمام المجتمعات… حيث يصبح وجود هؤلاء الأبناء خرابا للوطن، بعد أن ضاع المجتمع مما كان يمكن أن تقدمه عقولهم وشبابهم، بعد أن اغتصبت طفولتهم وحياتهم، لأن القانون قال كلمته، وطبقت العدالة العمياء …

بذلك نرى أن يشمر أهل القانون وعلماء الاجتماع والخبراء النفسانيون، وخبراء الاقتصاد، وعلماء الدين، وغيرهم ممن لهم علاقة بموضوع الأسرة لإنقاذها وإنقاذ أطفالها أثناء الهزات العنيفة، التي يمكن أن تتعرض لها الأسرُ، ويكون الأبناء هم الضحايا وكبش الفداء، أملا في أن يجد الباحثون والمختصون مخرجا، أو توليفة تَصُبُّ في تطبيق القانون من غير كوارثَ اجتماعيةٍ، أو إلحاق الضرر بالأسرة، وتشريد الأبناء الأبرياء ظلما وجهلا باسم القانون والعدل …

هنا باعتبارنا باحثين في العلوم الإنسانية وعلم الاجتماع خصوصا، وباعتبارنا ننشط في مجال الأسرة والتربية، نقدم كبسولة صغيرة كاقتراح ومقاربة للدولة، قد تؤتي أكلها قليلا، وتخفف الوجع على الأسرة التي اعتقل أحد أوليائها، ونكون قد جعلنا مجتمعنا يربح شقا مهما من الأسرة، في انتظار أن تتظافر الجهود، من قِبل مختلف التخصصات العلمية، أملا في أن نُنجز حلولا ناجعة لضمان سير الأسرة الطبيعي، والفوز بأطفال المستقبل الذين ستشرق بفضلهم شمس حضارتنا غدا أمام الأمم، فغنى المجتمعات ليس هو البترول، وليست هي الجواهر والذهب والألماس، وليست هي العمارات الضخمة، والمراكب العملاقة … وإنما هي عقول أبنائها، الذين يمثلون الأمل والحضارة القادمة…

هذه الكبسولة بسيطة جدا، لكن نتائجها تعطي أكلها كلَ حين، وتُغنينا عن العديد من المأساة التي يتعرض لها هؤلاء الأبناء….

1. أن ندع الأنانية والتعصب للأحكام التي ورثناها، ونخلص عقولنا من الجاهز
2ـ حين متابعة المتهم قانونيا بالعدالة، وجب وضع كل الاعتبارات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والسياسية … فلا نفقد الأمل في المتمثل أمام المحكمة، وفيما يمكن أن يقدمه للمجتمع من نفع مما يمكن أن يأتي به أو ما يستثمره في أبنائه لأجل الوطن، بمجرد أن المتهم قد نسب إليه ارتكاب خطأ أو جرم قانوني ما.
3ـ عند الحكم بتوديع المحكوم في السجن، وجب الاطلاع على أسرته (فالأطفال ملك للمجتمع وليس للآباء)، ورعاية الأبناء والزوجة، وذلك:
ـ بتقديم الدولة مساعدة مالية واقتصادية، إن كانت الأسرة قد فقدت أو قلَّ مصدر رزقها الذي أصبح سجينا، بما ارتكبه من خرق للقانون.
ـ تعيين من قبل الدولة مساعدة اجتماعية أو أخصائية اجتماعية نفسية للأسرة، قصد متابعة نفسية الأم وأطفال السجين، وتدعيمهم بالدعم النفسي، وزيارتها لهم بتواصل فعال، ومتابعتهم عن قرب، للحرص على ما يضمن نوعا من توازنهم النفسي، حتى لا يتسلل لهم اضطراب الشخصية، أو مرض من الأمراض النفسية، وحتى تسير أيضا دراستهم بشكل طبيعي أو أقرب من الطبيعي، ويعيشوا في جوٍّ من الاستقرار والأمن والسلام، في انتظار أن يقضي الأب مدة السجن، ويُفرج عنه، ويستفيد مما جناه، ويعود إلى الحياة والأسرة، مواصلا حياته الطبيعية ووظيفته، منخرطا في بناء المجتمع، بدلا من جعله حاقدا على المجتمع … ذلك أن الأطفال داخل الأسرة، هم عماد نهضة المجتمع، المعول عليهم لبناء صرح حضارتها، مؤمنين بأن الأسرة الفاشلة لا تعطي إلا أبناء فاشلين، وأبناء فاشلين لا يقدمون للمجتمع سوى الخراب والتخلف والاندحار …
في هذا السياق نطرح مجموعة من الأسئلة المشروعة، التي تكمن في:
ـ ما مدى توفرنا على إحصائيات سوسيولوجية حقيقية عما يسببه سجن الآباء من ضياع وانحراف الأبناء؟ …
ـ ما سبب قوانين مجتمعنا في عدم ارتقائها إلى الحفاظ عن (الأسرة) جوهر المجتمع؟
ـ ألا تحتاج رؤيتنا القانونية إلى إعادة النظر في القوانين التي تهدم أكثر ما تبني؟
حتى إذا افترضنا أن رؤيتنا القانونية فيما نصدره من قوانين مسكوكة ومحنطة ما تزال متخلفة، نطالب عندئذ بمرافقة هذه القوانين (التي نراها قاصرة ومجحفة) بالمقاربة الاجتماعية والنفسية والدينية والعلمية، بُغيةَ أن تكون الأحكام في صالح الأبناء والأسرة وسلامة المجتمع وتقدمه.
لأننا نرى أن استقراء النصوص القانونية من قبل القاضي لدى إصدار الأحكام، ليس سوى إسقاط، وذلك لما يعوزه من اعتماد مقاربات اجتماعية نفسية اقتصاديةـ التي كان من المفروض أن تُنجب الأحكام على ضوئها بحكمة المشرعين للقوانين…
صحيح أن قضية الأسرة والأبناء، الذين يُقدَّم أولياؤهم للمحاكمة والاعتقال والسجن، هي قضية شائكة ومعقدة، لكننا حين نرى مكانة الأطفال في الحقوق، ودورهم فيما نسعى لبنائه من مجتمع ذي صرح حضاري، ينعم تحت ظلاله المواطنون، ويستمرئون الحياة عذوبة وإنصافا وعدلا، لا ننفك في أن نضحي بالعديد من الأمور في سبيل تحقيق ذلك، إنهم أبناؤنا، فلذات أكبادنا، وجه غدنا القادم، حيث كل الشعوب تسعى لرعاية أبنائها، وتُسخر لهم الغالي والنفيس في الحرص على أمانهم وسلامتهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية … فأين نحن من ذلك؟
فهل وضعنا الطفل في عين الاعتبار حين أودعنا أباه أو أمه في السجن؟ وما ذنب هذا الطفل؟
وكيف يمكن أن تنجز وصفة، نكون فيها قد طبقنا قانونا، ينصف المظلوم، ويحرص على أمن وسلامة الطفل وحقوقه؟

فالفكر المنغلق يقود إلى التخلف
والقانون نحن الذين نصدره، وهو مرآة لفلسفتنا ورؤيتنا للعالم…
إن كانت الأحكام القانونية متخلفة، فإن ذلك ليس سوى انعكاسٍ لفكر وعقل المجتمع

Abdeslam Hakkar

عبد السلام حكار مدير الموقع وصحفي منذ 1998 عضو مؤسس بالتنسيقية الوطنية للصحافة والإعلام الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى