الواجهة

شهرزاد في الغرب …غزوات في عالم ألف ليلة وليلة

 

حاول ثلاثةَ عراقيِّين في فترة السبعينيات من القرن الفائت، بدءِ دراسة “ألف ليلة وليلة”. فقدمت فريال غزول أطروحتها لنيل شهادة الدكتوراه في التحليل التركيبي لهذه الليالي إلى جامعة كولومبيا الأميركية عام 1978. بينما تكفل الفيلسوف والعالِم الاجتماعي المعروف في جامعة شيكاغو (وبعدها جامعة هارفرد) محسن مهدي بالمهمة الشاقة التي تمثلت أولاً في كتابة “ملاحظات عن ألف ليلة وليلة”(1973)، وبعد ذلك في تحرير مخطوطة عربيَّة لـ “ألف ليلة وليلة” من القرن الرابع عشر، أصدرها عامَ 1984 متبوعةً بكتابين عن تصنيف المخطوطة ونقدها. وجاء الجهد الثالث، في أبحاث وكتابات الأكاديمي في جامعة كولومبيا محسن جاسم الموسوي، والذي صدر كتابه الشهير في الثمانينيات بعنوان “شهرزاد في إنجلترا”, ليتبعها بعدد من الكتب الأخرى كان آخرها كتابه الصادر حديثا بالعربية ” ألف ليلة وليلة في ثقافات العالم المعاصرة”، ترجمة د. قصي مهدي، كلمة للترجمة. ففي هذا الكتاب، والذي كان قد صدر بالانكليزية سنة 2021 ، يقرر الموسوي مرة أخرى العودة لقراءة الليالي العربي وتأثيرها في العالم المعاصر. فعلى الرغم من أن هذه الليالي، لا تلقى الاهتمام والقراءة الكافية من قبل القراء العرب هذه الأيام، لكنها في المقابل ما تزال تشغل هموم المؤلفين وكتاب السينما الغربيين. ومن الأمثلة على ذلك تسويق دِزني لإنتاج فيلم “علاء الدين” بحلته الموجهة إلى البالغين، وكذلك نسختها الكرتونيَّة السابقة، وهي النسخة التي أخرجها غاي ريتشتي، وأُطلِقت في 24 مايو 2019، وكلَّفَت 183 مليون.
يعتقد الموسوي أن هناك تحولاً رأسماليا ما بعد كولونيالي يقوم على فهم “ألف ليلة وليلة” بوصفها ملكا يمكن التحكم به، وباعتبارها سلعةً تستوعب أذواقاً مختلفة وتستجيب لها، في الوقت نفسه الذي تبقى فيه جذابة للجميع باعتبارها نصاً ثقافياً مشتركاً.
ولأن شهرزاد تلعب على أحلام السلطة، وفي الوقت نفسه تقدم الحمالين والمتسولين واللصوص والحالمين والحسناوات والمحتالين والتجار المحترمين، فإنها شقت طريقها للإنتاج الثقافي مرة أخرى.
غالان ..النسخة الأولى
يتوقف الموسوي عند الفرنسي انطوان غالان، والذي نشر أول نسخة من الليالي العربية في الغرب بداية القرن الثامن عش، ومما يروى هنا أنه استعان في جمعه للقصص بالحلبي الماروني حنا دياب. وبالرغم من أن هناك قراءات غربية عديدة حاولت التقليل من دور دياب، الا أن بعض الحكايا العربية والقصص التي كشف عنها مؤخرا، وتعود للقرن السادس عشر، تظهر لنا ان كثير منها مشابه للقصص التي نشرها غالان ،وهو ما يدعم فكرة وجود وسيط نقل عنه، وفي الغالب قد يكون دياب أحدهم، كما يذكر غالان نفسه في يومياته. لكن وبغض النظر عن هذه الجزئية، فان انتشار نسخة غالان تبين اتساع دائرة جمهور القراء التي ستصبح، في الوقت المناسب، القاعدة للإدارة السلطوية والاستعمارية. اذ لم يكن يوما الاهتمام بالشرق العربي شفافاً أو بسيطاً في بريطانيا وفرنسا وهولندا. وكان نشاط الترجمة متعلقاً بنزعة سياسية/ تجارية، وبمصلحةٍ في الأراضي التي تصورها “الليالي” على أنها وافرة. ولذلك غالبا ما ظهر المترجم الغربي كبطلِ مَلْحمة أشرف عليها بنفسه، ومكتوب له أن يعيد إحياء مخطوطة. ولذلك يعتقد الموسوي ، أن طبعة غالان تتَّفق مع الرغبة المتصاعِدة باستملاك بيئة الحكايات الأصلية، وممارسة شعور تحقيق الذات ضد الفشل الخيالي، كما أن الغربيين غالبا ما حاولوا من خلال نشر هذه الليالي القول أن الشرق قديم وتقليدي، ولذلك فهو يتطلب نابليوناً، أو في حالة البريطانيين، بحاجةٍ إلى كرومر ليعيد إحياء الأرض، ورسم نطاقات عودة شهرزاد إلى الحضارة. ولذلك فقد أصبح الانجذاب إلى شهرزاد مرادفا للانجذاب إلى محيطها العربي، الذي ينتظر المخلص الإمبراطوري.
ويبدو أن الاهتمام بالليالي لن يقتصر على الفرنسيين والانكليز، بل نراه يتتبع ترجمات الليالي العربية في ألمانيا، اذ ظهرت أربعة ترجمات في هذا السياق ، لغوستاف فييل (1839-1842)، ولِماكس هينينغ في نسخته “المنقحة” (1895-1897)، ولفيليكس بول غريف (1912-1913)، وترجمة ليتمان (1923-1928). وتمثل نسخة فييل التوتر المتصاعد في صناعة الثقافة بين المترجمين والناشرين؛ إذ أعطى ناشره الألماني إذناً للكاتب المحرر أوغوست ليوولد بحذف ما يجده مُنافِياً للأخلاق. واعتمد هينينغ على طبعة بولاق و”مخطوطات زوتنبرغ” و”ملحقات الليالي” ، بينما تمتعت ترجمة ليتمان بالحس المشترك، وبدا أسلوبه دائماً “واضحاً، مقروءاً، ومتوسط المستوى”.
الطريف في كتاب الموسوي، أنه لن يحصر نفسه بنقاشات المستشرقين في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وانما نراه يتتبع النقاشات حول الليالي العربية، وبالأخص بعيد الخمسينيات. اذ نرى مثلا جبرا جبرا ينتقد “الليالي”بوصفها سلسلةً من المغامرات التي نادراً ما “تنمو بشكل عضوي”. ويضيف في مقال آخر أن “ألف ليلة وليلة” مزيج من الواقعي والفانتَستيكي، غير أن قوتها تكمن في تحفيز القوة التخيلية التي تغير شخصا مثل شهريار إلى شخص أفضل. وفي تفسيراته لهذه القراءة، يرى الموسوي أن جبرا ظل يقرأ “الليالي” في خمسينيات القرن الماضي، بمفاهيم الرواية الأوروبية الحديثة، ولكن ليس بالمفاهيم اللاحقة لِما- بعد الحداثة التي تلجأ إلى الترقيع، والميتاقص، والمحاكاة الساخرة، والتهكم، والمفارَقة للتعامل مع حقائق متعددة، بينما شعر روبرتو أرلت وخورخي لويس بورخيس، بأنهم وثيقو الصلة بهؤلاء الأسلاف. وتماماً كما أنَّ الحياة عبارة عن سلسلة من الانقطاعات والتأجيلات والصيغ والتكرار والمفاجأة، كذلك كان على السرديات الما-بعد حداثية أن تتلاءم معها وتستوعبها.
شهرزاد في السينما:
وبالرغم أن غالبية كتاب وصناع السينما الغربية سلبوا الحكايات واستحوذوا عليها لاكتشاف قوالب نمطية – فإن هناك عدداً قليلاً ِممن اقتربوا من ألف ليلة وليلة بشكل منهجي ومدروس مثل بيير باولو بازوليني في فيلم( زهرة الألف ليلة وليلة). اذ احتفظ بازوليني جزئياً بممارَسات سرد القصص في الليالي غيرَ مهتم بحكاية الإطار، وبادئاً من حيث يجد مواقع الحب والمكائد والمغامرة. وغالباً ما نظَر إلى فيلمه على أنه يمثل سيرة ذاتية أكثر من غيره من الأفلام التي أنتجها. وعلى الرغم من الانتقادات التي وُجِّهت لبازوليني بسبب ميله إلى الإثارة الجنسية، فإنه افتتح الفيلم بقصة”نور الدين وزمرد”، قبل تغطية حكايات فريدة أخرى عن اللقاء الجنسي والتعلم كما في قصة” عزيز وعزيزة”. يلفت كولين ماكابي الانتباه إلى خصائص معيَّنة في الفيلم تميِّزه من حيث كونه إنتاجا فنياً. بينما فحص بازوليني نُسخاً مختلفة من “ألف ليلة وليلة” (وصور مشاهد في عدد من الأماكن، من بينها اليمن وأصفهان [إيران] وإريتريا ونيبال)، فإنه سمَح أيضاً لتجربته الحديثة المحبطة في الحب بأن تظهر في اختياراته للمواقع والقصص. في المقابل نرى في «تسالي هولمارك» ، التي عُرِضت على مَدار ليلتَين (30 نيسان/أبريل والأوَّل من أيَّار/ مايو، 2000) قد حافظت على بعض الخصائص القصصية “لليالي”، مع التركيز على بعض حكايات المغامَرة والمفاجأة والفكاهة. يفتتح علي بابا المشهد بعد حكاية الإطار، متبوعاً بقصة الأحدب، ثم علاء الدين ، ثم حكاية السلطان والمتسول التي تأخذ قصة النائم الذي استيقظ وتصوغها من جديدٍ. و إلى جانب هذا الجهد لاستعادة المعنى الذي ينسجم مع “الليالي العربية”، هناك اعتراف بوجودها في العصر الرقمي. يقدم طارق العريس في هذا السياق قراءة مهمة، ليس فقط لبعض الآثار والأصداء في وسائل التواصُل الاجتماعي، ولكن أيضاً للمحادثات الرقمية التي تنقل “الليالي” إلى الفضاء الافتراضي باعتبارها تسريبات وفضائح لا تقل عن غيرها من أشكال الإنتاج في إعطائها المعلومات. وهكذا، نحن موجودون في فضاءات مَرئيَّة وافتراضيَّة تعتبر “الليالي” ممتلكات طيعةتستحق الملاءمة لعصر رقمي جديد ولكن مليء بالتحديات.
محمد تركي الربيعو/ جريدة القدس العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى