الواجهةثقافة وفنون ومؤلفات

رمزية الأم في “حب و برتقال” السيرة الروائية للأديب مصطفى لغتيري.

 

الناقدة المرحومة حسنة أولهاشمي
رغم المرض كانت الفقيدة المرحومة تصر على القراءة والكتابة.

عرفت مسيرة الأديب مصطفى لغتيري الأدبية تنوعا لافتا في العطاء،استطاعت أن تلم بخصوبة مختلف الأجناس الأدبية، فشقت حجب أنواع سردية حبلى بالقيمة الجمالية والعمق الفني، مسيرة العشرين عاما من النبش في غياهب المعرفة والنور، واكبها إصرار مبدع عنيد، خُلق ليصنع من الكلمة مرايا تعكس باطن الوجود الإنساني..عشرون عاما صاحبها عشق نادر لجوهر رسالة الأدب، رافقها إيمان قوي بعطايا ذات واهبة، تحلم بثقة، وتثق بالحلم..في القصة، في القص الوامض، في الدراسات النقدية كما في الرواية وفي السيرة الروائية، تأبط لغتيري عزما فريدا،لم ينتق المغامرة عن هوى بل أدرك جيدا أنه يمتلك أدوات المجازفة ،فكان التورط بطعم التحدي، وكانت غنائم الإصرار نفيسة وجد مرضية..كقارئة أتتبع بنهم إبداع هذا الأديب، كلما تناولت نوعا من أسفاره ينتابني إعجاب حد الخرس،وقتها أدرك أنني أمام طاقة فكرية بشرية مذهلة، تروض بذكاء صخب
الذات والواقع والعوالم المختلفة، تسير قوى الجمال “بتكنيك” الكتابة،فيطيعه الجمال ويفتح له أبواب فتنته اللاسعة..
في “حب وبرتقال” يطل المبدع علينا بقالب جديد ، ينضاف لقائمة أعماله العديدة،إنه جنس السيرة الذاتية، وفي علاقتها بالرواية سميت بالسيرة روائية أو الرواية السيرية، تعددت رؤى النقاد في تجنيس السيرة الذاتية وتباين تعريفها “
لقد حاول كل من تعرض للسيرة الذاتية بالدراسة أو تناول علاقتها بالرواية، أن يقترح تعريفا لها، وفي تحديدنا نستعرض ثلاثة تعريفات مقتضبة يرى جان ستاروبنسكي أن السيرة الذاتية هي سيرة لإنسان يسطرها بنفسه. ويحددها فيليب لوجون على أنها >حكي استرجاعي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص. أما جيرار جنيت فيتناول تعريف السيرة الذاتية حين حديثه عن نوعي السرد التطابقي (homodiégétique) (حضور السارد كشخصية في القصة التي يحكيها)، فيرى أن النوع الأول >يكون فيه السارد هو بطل حكايته< أما الثاني فيكون فيه السارد هامشيا لا يلعب سوى دور ثانوي كملاحظ أو كشاهد. واحتفظ جنيت للنوع الأول بمصطلح الأوتوبيوغرافي “1 .
تندرج السيرة الروائية “حب وبرتقال” ضمن ما يعرف بالسيرة الروائية، إذ تجعلنا نتقفى ذاك الرابط الحر بين السيرة الذاتية والرواية،نلامس التفاعل الحاصل بينهما، ونلمس خيوط تمازج بين الشقين،تروم انصهار الواقعي بالمتخيل لتتخصب سلسلة المادة الحكائية السيرية،تتحلل مستويات الخطاب فتنجلي محاور متن سردي حافل بالدلالة الثرية والرمز الخصب،وسخاء الرؤية..بقراءتنا لهذا المنجز
نجد سيادة ضمير المتكلم الذي يحيل إلى أن الراوي كائن داخل النص،يباشر فعل التلفظ، فضمير المتكلم “لا يحيل على كائن خارج النص، سواء كان هو المؤلف أو الشخصية التي كانها المؤلف ،فليست للضمائر الشخصية – يؤكد فيليب لوجون- إحالة إلا داخل الخطاب في فعل التلفظ نفسه، خاصة وأن ضمير المتكلم يحيل دائما على الشخص الذي يتكلم والذي ندركه من فعل التلفظ نفسه “2 .
في العمل الذي بين أيدينا صورة حية لجزء من سيرة حياة، تنبلج مكوناته في لفيف حكي يستند على اللغة والخطاب والمتخيل،يصيغ روح السرد من عمق أحداث بسيطة حينا ومتشابكة أحايين أخرى،حيث الذاكرة تنهمر والماضي القريب البعيد يعيد ترتيب واقع كان، وحاضر لصيق بذكريات غائرة في الكيان والزمن بها لا يمكن للحياة إلا أن تكون..هي لعبة الزمن ،تفرض وجودها في تشكيل حيوات تتقارب وتتباعد لتنمي آليات السياق السردي الضامن لحبكة
منسجمة وأبعاد الخطاب السيري روائي..”حب وبرتقال” دعوة لمشاركة أحاسيس جارفة للب،لتقاسم سر أسمى المعاني السامية “الحب”،دعوة لحضور سلسلة حياة بسيطة ومتمنعة في نفس الآن،حياة أساسها أم وإبن وثالثهما عالم فسيح بالحب ولاشيء غير الحب..الأم ، هذا الكائن البلوري الشفاف العجيب جعله السارد نواة حكيه، كائن رهيف وجبار في صناعة الحلم والأمل والضوء،رمز للحياة والخصوبة وماء الوجود،وجودها ينمي الثقة والأمان الضرورين في حياة الطفل/الإنسان..ينسج الكاتب علاقة فريدة بين الأم و ولدها، أكد على دورها في تشييد ثقته الباطنية وبناء لبنات نفسيته منذ السنوات الأولى من عمره،
كانت بمثابة نور يقوده لمعانقة العالم والحياة المبهمين،تزرع في روحه جدوى وجوده وتذكره في كل حين أنه الأجمل في هذا العالم، يقول السارد:” كلمات أمي بسيطة وعميقة،وكأنها لم تنطق بها أبدا،فقط ارتسمت على محياها،فبدت وكأنها أفصح عبارة تبتكرها اللغة،منذ أن فطن الإنسان إلى هذه الأداة الخطيرة، قالت أمي تخاطبني في لحظة لا أتذكر تفاصيلها:أنت أجمل طفل في العالم.إياك ان تنسى ذلك.أوتسمح لشخص أن يقنعك بغير ذلك”.ص 10.
تزخر السيرة بدلالات غنية تأخذنا بعيدا حيث تتبلور قضايا الواقع،يطغى البعد النفسي في هذا المنجز،حيث يتدفق سيل المشاعرالقوية،وتتصاعد وتيرة هذا البعد حين يتدخل في تشكيل الجانب السلوكي والتربوي للطفل،فعلاقة الأم تولد سر تكوين باطن شخصية فتية،تتأثر وتلاحظ وتقلد ..الأم هنا استطاعت أن تربي في الطفل مسؤولية الذات، وضرورة تقدير هذه الذات ،استطاعت أن تغرس في روحه كيفية العيش بزاد القيم،علمت الطفل التمسك بطريق الحلم والدفاع عن أحقية هذا الحلم،علمته تصريف المعاناة والعوز باقتناء جرعات كافية من القناعة والحب..رافقنا الكاتب في رحلته المغرية في الإنسان، في نضاله وكفاحه وتحمله كل صنوف القسوة الناتجة عن جور الزمن،هنا يطفو البعد السوسيولوجي وما تخفيه السيرة وتظهره من قيمة اجتماعية ،حيث تمرر رسائل اللاتوازن الطبقي والخلل الواقعي،نلامس واقع الطبقة الشغيلة وسلطة وسطوة أرباب
المصانع على جهد و “عرق” المشغلين،ساعات العمل المتواصلة والأجور النحيلة التي قد تضمن وقد لا تضمن كرامة مقبولة..الأم في “حب وبرتقال” صورة للمرأة المغريبة العربية المتحدية القوية،صورة للعطاء اللامتناهي والتضحيات غير المحدودة،نموذج المرأة البسيطة لكن تملك ذكاء وفطنة نادريين، بهما تراوغ كبوات الزمن،بهما تخترق أسيجة الحرمان بنوعيه المادي والمعنوي، بهما وبدفقها الروحي وبشقائها تصنع همة أجيال قوية وناجحة..الأم كانت وما تزال بالنسبة للراوي مصدر نور و وهج روحاني، يبعث في الدواخل شحنة قاهرة من الصمود، طاقة كبيرة تجدد الحياة ،تحضر في كل حين لمجابهة الصعاب، يقول السارد” حينما أجدني ضحية لظروف صعبة ،تبعث على الحزن والإحباط ،أرجع القهقري،أفتش على كلمات أمي ،حضنها الدافئ،ولا يخيب مسعاي أبدا،ما إن يحدث ذلك حتى ينبعث في نفسي فرح غير متوقع..” ص 11.
قدم لنا الأديب مصطفى لغتيري فاكهة الحب السامي، بطعم روح الأم،وهذه السيرة الروائية اعتراف جميل تستحقه هذه الشجرة الوارفة الظلال،السامقة العطايا،تنحي الروح لهذه الشامخة التي أهدتنا صانع السرود المحيرة المؤججة لسر الجمال الخلاق..
“حب وبرتقال” عمل جدير بالتتبع،يزخر بمتعات مميزة..أدعو عشاق السرد المختلف لارتشاف سحر نبضه..

……………………………………
1- محمد أقضاض: “روائية السيرة الذاتية” في الأدب المغربي الحديث/ موقع سعيد بنكراد
2- نفس المصدر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى