مجرد رأي

رموز الحركة الوطنية والإبداع السينمائي: أية علاقة؟

د.مصطفى الطالب
ناقد فني وسينمائي.
قد يبدو السؤال غريبا لكون الصورة التي ترسخت في أذهاننا هي أن أبناء الحركة الوطنية لم يكن لديهم الوقت للاهتمام بالفن أو السينما، ولكونهم أناس جديين فوق العادة نظرا لطبيعة مهامهم ومهمتهم الكبيرة المتمثلة في قضية التحرر و المطالبة بالاستقلال التي تقتضي جهدا كبيرا وتضحية غالية كما تبين ذلك من خلال تاريخ الحركة الوطنية ببلادنا والتي لعبت دورا هاما في الحصول على الاستقلال إلى جانب السلطان محمد الخامس طيب الله ثراه ونضال الشعب المغربي. لكن الحقيقة عكس ذلك.
فأبناء الحركة الوطنية كما انخرطوا في المقاومة المسلحة منذ بداية الاستعمار الفرنسي، تبنوا أيضا المقاومة الفكرية والثقافية، فاهتموا بالمقالة والخطابة والأدب (كالعلامة عبد الله كنون والزعيم علال الفاسي والمناضل عبد الخالق الطريس رحمة الله تعالى عليهم) ووظفوا الفن خاصة المسرح كأحد الوسائل الناجعة التي لجأت إليها الحركة الوطنية لزرع روح المقاومة ونشر الوعي السياسي والنضالي بين أفراد المجتمع المغربي. ويكفي التذكير هنا بمسرحية ” اندامتي بعت بلادي ” لفرقة الأطلس بمراكش في ثلاثينيات القرن العشرين أي إبان فترة الاستعمار الفرنسي وهي الفترة التي عرفت نشاطا مسرحيا في العديد من المدن المغربية كفاس ومراكش والرباط، فضلا عن النشاط السياسي المقاوم.
ولأهمية المسرح والتمثيل قال شاعر الحمراء (محمد بن إبراهيم بن السراج المراكشي) في قصيدة ألفها سنة 1933 :
لعـمرك إنما التمـثيل فـن له فـضل على المـتفرجـينا
يريـهم من مباحث ما رأوه على ورق لـبعض الكاتبـينـا
وهذا يبين مدى وعي رواد الحركة الوطنية بالدور الكبير الذي يلعبه الإبداع الفني في خدمة قضايا المجتمع والإنسان وفي خدمة قضيتهم الأولى قضية الاستقلال، وفي التصدي للغزو الثقافي الغربي والاستشراقي وفي التعرف على التاريخ العربي الإسلامي والنهل منه.
وفي هذا الصدد نذكر أن جمعية تلاميذ قدماء مدرسة المولى إدريس بفاس زارت مدينة مراكش سنة 1935 وقدمت مسرحية ” أميرة الأندلس ” لأمير الشعراء أحمد شوقي، وهي المسرحية التي تدور أحداثها حول عصر ملوك الطوائف بحيث تتطرق لأسباب سقوط الدولة الأموية بالأندلس المتمثلة خاصة في البذخ والترف والفساد والتفرقة والتخلي عن المقاومة. ويأتي اختيار هذه المسرحية في سياق التصدي للاحتلال الفرنسي وكشف خططه الهدامة للدين واللغة والتاريخ والمجتمع المغربي فضلا عن استغلال خيراته الطبيعية والاقتصادية، وأيضا من أجل استنهاض الهمم لدى المتلقي المغربي.
لكن ماذا عن السينما؟
لا شك أن المغرب إبان الاستعمار لم يكن يتوفر على سينما وطنية بما تحمله هذه الكلمة من معنى، وإنما السائد آنذاك هو من جهة الترويج للسينما الكولونيالية التي كانت تخدم المستعمر وأجنداته وتقدم صورة مغلوطة ومشوهة عن الإنسان المغربي باعتباره إنسان غير متحضر مقارنة مع الإنسان الأوروبي، معتمدة في ذلك على الإكليشيهات والصور النمطية التي يروجها الأدب الأوروبي عن الإنسان العربي بصفة عامة. ومن جهة أخرى عرض الأفلام الأوروبية والأمريكية التي كانت تلقى رواجا عالميا وتجاريا.
فهل كان رموز الحركة الوطنية في غفلة عن هذا الجانب أي السينما؟
بالطبع لا، لكن ليس جلهم، ربما البعض منهم وذلك حسب ثقافة كل واحد منهم وحسب درجة الاهتمام والأولويات المطروحة أمامهم.
ولعل ما دفعني لإثارة هذا الموضوع والشعب المغربي يخلد الذكرى الثمانون لتقديم وثيقة الاستقلال (1944) هو ما كتبه المفكر والزعيم المناضل الراحل علال الفاسي رحمة الله تعالى عليه في كتابه “مذكرات المنفى في منفى الغابون 1937-1946” (منشورات مؤسسة علال الفاسي) والذي يعتبر في تلك الفترة أحد أهم كتب أدبيات المنفى والسجون، إلى جانب كتاب “من ذكريات سجين مكافح في عهد الحماية الفرنسية البغيض في المغرب أو أيام كولميما” للعلامة المجاهد محمد إبراهيم الكتاني رحمه الله، والذي يوثق لمرحلة سجن الفقهاء والطلبة (بفاس) بعد المظاهرات المطالبة بالحرية وخاصة حرية تنظيم الاحزاب سنة 1937، والتي رد عليها الاحتلال الفرنسي بالقمع الشديد الذي أدى إلى استشهاد الفقيه والأديب محمد القري بعدما سجن هو أيضا بقرية كرامة وهي منطقة نائية آنذاك بإقليم الراشيدية.
يقول الراحل علال الفاسي:
18 دسمبر 1937:
-هجم علينا البعوض والنمل ذو الأجنحة والذباب الصغير بكيفية غريبة وقد نشأت في جلدي من لسعاتها تآليل ضغيرة نشأت عن الحك والتاكل، وليست جربا ولا نوعا معروفا، وقد قيل عن انجلي انها معروفة بهذا دائما. تذكرت بهذا شريطا سينمائيا كنت رأيته بالرباط اسمه “فيف فيلا” حول تحرير المكسيك وقد اتخذ فيها المستعمر وسيلة لاعدام بعض زعماء الحركة أن قيده وطلاه بالعسل واطلق عليه قربة النحل والنمل ذي الأجنحة فما زالت تلسعه حتى مات. وقد قلت لروكس انكم فعلتم بي مثل هذا فابستم.”
إحالة الزعيم علال الفاسي رحمه الله، وهو في المنفى بإفريقيا الاستوائية، على شريط سينمائي أمريكي للوقوف على ظروف منفاه الصعبة لها دلالتها الرمزية والفنية، فهي تبين جليا مدى اهتمام الراحل بالسينما ومدى وعيه بأهمية الصورة خاصة في الفترة الكولونيالية حيث انتجت العديد من الأفلام الفرنسية التي سعت إلى تشويه صورة المغربي (متخلف وغير متحضر كما سبق ذكره) وخاصة صورة المقاوم المغربي وكل مقاوم للاستعمار.
اختياره الحديث عن فيلم “فيف فيلا-VIVA VILLA له دلالته الفكرية أيضا، فهو وإن كان فيلما أمريكيا من نوع الويسترن، أخرجه جاك كونواي سنة 1934، إلا انه يتطرق لسيرة رمز المقاومة المكسيكية بانشو فيلا أو المكنى ب فرنسيسكو فيلا خلال نهاية القرن 19 وبداية القرن 20. وقد قام بالدور الممثل ولاس بيري الذي حاز آنذاك على جائزة أحسن ممثل في مهرجان البندقية.
فهذا الاختيار يبين مدى اهتمام الراحل بقضايا التحرر لدى الأوطان المستعمرة، واستمداد قوة النضال من حركاتها المقاومة، مع الوقوف على وسائل التنكيل والتعذيب التي يستعملها المستعمر اتجاه المقاومين، كما هو الشأن في مقارنة حالة منفاه مع حالة التعذيب التي عاشها فرنسيسكو فيلا.
وهنا يتبين أن السينما بالنسبة لزعيم الحركة الوطنية ليست فقط وسيلة للترفيه وإنما وسيلة توعية بالقضايا السياسية والثقافية وترسيخ قيم العدالة والكرامة والتحرر. كما أن إحالته على فيلم له رمزيته النضالية تشير إلى حسه الفني والنقدي معا، وإلى المسؤولية الملقاة على عاتق المتلقي (المتفرج) في اختيار الأعمال السينمائية الهادفة والملتزمة بقضايا الإنسان الحقيقية، عوض الأفلام التجارية ذات المحتوى الفارغ. وهذا ما نحتاجه إليه اليوم: الفعل المسؤول إنتاجا وتلقيا وأيضا الحس النقدي في وقت أصبحت فيه الأفلام متوفرة بشكل كبير ومتطور (مع المنصات الرقمية).
من جهة أخرى يمكن القول أن الراحل علال الفاسي فطن مبكرا لدور الصناعة السينمائية كوسيلة ناجعة في التغيير الاجتماعي ونشر الوعي باللحظة التاريخية التي يحتاجها الإنسان (المقاوم) من أجل التحرر والاستقلال والرقي والدفاع عن الكرامة وبناء الوطن. كما فطن لشيء مهم يتمثل في السبق الذي حققه الغرب بامتلاكه للصناعية السينمائية منذ بدايتها عند نهاية القرن 19 م، وذلك من أجل غزو العالم فنيا وفكريا وإعادة تكشيل المخيال الجمعي لدى شعوب العالم مع إعادة كتابة تاريخها بالشكل الذي يخدم مصالحه (الغرب) الثقافية والسياسية ويجعل منه قويا أمام الشعوب الأخرى.
وهذا الجانب للأسف لم تفطن إليه الحركات الثقافية والإصلاحية والسياسية التي شهدها العالم العربي بعيد فترة الاستقلال، لاستهانتها بأهمية الصورة وارتباطها بالمكتوب وبالماضي وانعزال رموزها في برجهم العاجي دون النزول إلى الشارع ومعرفة ما يحرك وجدانه ويغير عقليته، ثم استنادها أحيانا إلى فتاوى غير واقعية لا تراعي مبدأ الاجتهاد. مما فوت عليها فرصة ذهبية لترسيخ مشاريعها الإصلاحية في المجتمع.
أخيرا
صحيح أن أبناء الحركة الوطنية بالمغرب لم ينتجوا مثلا أفلاما وثائقية خلال الفترة الاستعمارية مثل المقاومة الفلسطينية التي وثقت للاحتلال البريطاني ثم الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وذلك لاختلاف الظروف السياسية والاجتماعية بين المغرب والمشرق. لكن الحركة الوطنية كان لها الفضل مبكرا في الوعي بأهمية الفعل الثقافي والإبداع الفني والسينمائي والتحسيس بتأثيره الكبيرعلى الوجدان وبمساهمته في نشر الوعي في المجتمع، متقدمة بذلك على العديد من التوجهات او بعض الفتاوى التي كانت ترى الفن بعين الريبة والشك. هذه الرؤية الحداثية هي التي شكلت مبادئ الحركة الوطنية التي تبث عليها روادها كما قال الراحل علال الفاسي الشاعر، والذي لا شك إذا نقبنا في كتاباته سنجد إيحالات أخرى إلى أعمال سينمائية متميزة:
لا يحسب القوم أن النفي يرجعني عن مبدأ حل في روحي وجسماني
وأن عزمي يهوي من مؤامرة قد دبرت من فرنسيس وإسبان
ما النفي؟ ما السجن؟ بل ما الموت في وطن ما زلت أرعاه إخلاصا ويرعاني؟
وطدت نفسي على ما كان من زمن فلست أخشى على عزمي وإيماني.

Abdeslam Hakkar

عبد السلام حكار مدير الموقع وصحفي منذ 1998 عضو مؤسس بالتنسيقية الوطنية للصحافة والإعلام الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى