الواجهةثقافة وفنون ومؤلفاتمجرد رأي

في الحاجة إلى عبد الوهاب المسيري: “إسرائيل” من منظور معرفي (ج4)

بقلم : محمد همام

    لم ينف المسيري تأثره ب( النموذج المعرفي) المادي الفلسفي، والذي كان عنوانا للحداثة؛ نموذج غشي عليه حياته مذ كان في بلدته دمنهور، عندما اجتاحته موجة من الشك استمرت إلى حين دخوله إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وكان كغيره من مثقفين العالم الثالث، قد ابتلعوا النموذج الغربي، ببنياته ومفرداته ومناهجه. ولكن سرعان ماسينخرط المسيري في نقاش جديد، وهو نقد( مابعد كولونيالي)، Postcolonialism، وهو حركة أكاديمية، تكاد تكون حركة نقدية موازية لحركة نقد مابعد الحداثة Postmodernism، كما ظهرت في أوروبا، مع فلاسفة نقاد ومدارس فكرية؛ مثل ألان تورين، ومدرسة فرانكفورت، ومشروع زيغمونت باومان، وعلي عزت بيغوفيتش… وقاد حركة النقد مابعد كولونيالي مفكرون وأكاديميون وأساتذة جامعات، خصوصا في الجامعات الأمريكية. واشتهر من هؤلاء، أكاديميون من افريقيا وٱسيا؛ مثل: إدوارد سعيد، وطلال أسد، و بابا هومي، وغياتري سبيفاك، وعبد الوهاب المسيري…وقد اهتمت هذه الحركة النقدية بنقد بنية الفكر الكولونيالي، من خلال دراسة علاقة القوة بالمعرفة، والهيمنة الثقافية، وكل أشكال السيطرة والاقتلاع للجذور، مما يتضمنه الخطاب الكولونيالي، وعلاماته الفكرية والسياسية البارزة؛ وهي الحداثة. وقد ظهرت مدرسة جديدة في النقد مابعد كولونيالي، قادها مفكرون من العالم الثالث، انتقدوا مدرسة النقد مابعد كولونيالي الأولى، من داخل المنظومة الكولونيالية؛ أبرزهم في حياتنا الفكرية اليوم المفكر وائل حلاق، والذي تعرض بالنقد لمتن إدوارد سعيد، وهو النقد الذي ضمنه كتابه: قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي، 2019. كما برز المفكر الفلسطيني جوزيف مسعد، صاحب كتاب: ( الإسلام في الليبرالية)، 2018، وكتاب: ( ٱثار استعمارية: تشكل الهوية الوطنية في الأردن)، 2019، وقد انتقد الحالة الليبرالية في العالم العربي والإسلامي، واعتبرها حالة استشراقية متكاملة الأركان والمواصفات.وقد أنجز صديقنا الأستاذ الباحث رشيد بن بيه دراسة متعمقة واستقصائية، نشرت في العدد الأخير من مجلة ( المستقبل العربي، العدد503، يناير2021)، بعنوان: ( الحداثة والكولونيالية والإبادة)، قدم فيها دراسة وافية عن الضغط المعياري للحداثة على المفكرين الغربيين وكذا على المفكرين العرب، مما جعلها في منحى عن التحليل والنقد. وقد عرض في دراسته، برشاقة تحليلية ومقارنة كبيرة، أطروحة وائل حلاق، من خلال نقده لبنيات العلم الحديث. وخلص إلى تورط الذات الغربية المتسيدة في الكولونيالية وفي جرائم الإبادة. كما عرض لإمكانيات التيارات الفكرية من خارج النموذج الحداثي الغربي، وخاصة في المنطقة العربية والإسلامية، على مساءلة الذات الغربية، وعلى نقدها.
يمثل المسيري، إذن، واحدا من رموز تيار حركة النقد مابعد كولونيالي، لذلك سعى إلى تجاوز النموذج المادي الغربي، والتحيز الكامن فيه، لعجزه عن الإحاطة بالظاهرة الإنسانية، بماهي ظاهرة مركبة، وبماهو نموذج اختزالي. وقد ساعدته دراساته في الأدب الإنجليزي والأمريكي على تعميق النموذج. وبرغم استفادة المسيري من أطروحة توماس كون في بناء ( النموذج المعرفي)، أو ( النموذج الرشيد)، في كتابه المشهور: ( بنية الثورات العلمية)The structure of scientific revolutions، 1962. فقد طور تصوره الخاص للنموذج المعرفي، من خلال أبحاثه في المجتمع الامريكي، في قضايا الدين والهوية، والفردية والنسبية، والبحث في تاريخ التنوير في أوروبا، وفي العقلانية المادية، وعن الحركة الإنسية، وفي علاقة الروحي بالمادي.( يرجع لتوضيح فكرة النموذج المعرفي بين المسيري وكون، إلى دراسة وافية لصديقنا الأستاذ والمفكر نصر محمد عارف، ضمن الكتاب الجماعي : في عالم عبد الوهاب المسيري، حوار نقدي حضاري، دار الشروق،2004،المجلد الأول). كما استفاد المسيري، في بحث هذه الموضوعات، من إرث مدرسة فرانكفورت؛ خصوصا تراث أدورنو، في نقد الحداثة، وفي نقد التنوير، وفي نقد العقل الأداتي، وفي نقد التقدم، وفي بحث علاقة الحقيقة بالقيمة، والاقتصاد بالسياسة، والحالة الاستهلاكية بالإمبريالية النفسية…وقد انتهى المسيري من أبحاثه إلى أن تاريخ الحداثة هو تاريخ النهب للعالم الثالث، وأن نهضة الغرب قامت على حساب العالم بأسره.
وقد عاش المسيري حالة مخاض مؤلمة في مرحلة الانتقال بين النموذجين، وهو ماتجسد في كتابه:( الفردوس الأرضي). وقد ساعد النموذج المعرفي( المركب) المسيري على دراسة الصهيونية. فقد اختمر موضوع ( إسرائيل) في ذهنه منذ 1964؛ فعند تأليف كتابه( نهاية التاريخ)، وجد نفسه ملزما بتعريف بعض المصطلحات وبعض الشخصيات لانخفاض مستوى المعرفة بالحركة الصهيونية، وب( إسرائيل)، في العالم العربي، وتضخم الخطاب العقائدي والأيديولوجي المفتقد للمضمون المعرفي. وتحول مسرد المصطلحات والشخصيات إلى كتيب معجمي، أو قل: موسوعة صغيرة. وكان الهدف من المسرد، في بدايته، تقديم معرفة أولية للباحث العربي، تساعده على اقتحام البحث في الصهيونية، وفي ( إسرائيل)، من خلال عمليات: التفكيك، والتركيب، والتفسير، والتقويم. لكن المسيري وجد أن كثيرا من المفاهيم مشبع بحمولات أولية وقبلية، وأن كثيراً من المفردات يكتسب دلالات خاصة تخرجها عن معناها المعحمي؛ مثل: ( الشعب)، و( الأرض)، في غياب رؤية نقدية، عند الترجمة. عندها اقتنع المسيري بأن التحدي الحقيقي ليس هو كتابة موسوعة معلوماتية واستقصائية عن الصهيونية، وعن ( إسرائيل)، بل كتابة موسوعة تفكيكية شاملة؛ تفكك المصطلحات، وتوضح المفاهيم والتحيزات الكامنة فيها. وفي هذا السياق أصدر المسيري موسوعته الأولى، بعنوان: موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية؛ فماهي دلالة ( إسرائيل)، من منظور معرفي في الموسوعة الأولى؟
(يتبع).

Abdeslam Hakkar

عبد السلام حكار مدير الموقع وصحفي منذ 1998 عضو مؤسس بالتنسيقية الوطنية للصحافة والإعلام الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى