مجرد رأي

مناضلان في النار ومناضل في الجنة (*)

ذ: هشام امساعدي
يُعَرَّف النضال بأنه ردُّ فعل مجتمعي يعبر عن رفض واقع ما، يتفاعل معه الإنسان محاولا مواجهته واستبعاده. والنضال المدني لا يخرج عن هذا التعريف، فهو نشاط يقاوِم ـ بدون سلاح ـ السياسات العمومية المرتبطة بتدخل الدولة وباقي الفاعلين الرسميين في مجال محدد على مستوى المجتمع أو التراب. وبتبسيط شديد، فالنضال المدني هو أسلوب مقاومة من قِبَلِ الفاعل المدني لإجراءات وتدابير وقوانين معينة لها ارتباط وثيق بتدبير الدولة أو إحدى مؤسساتها للشأن العام الداخلي أو الخارجي، يضغط بالطرق السلمية في اتجاه حسن التدبير وإنهاء التبذير من جهة، وفي اتجاه المطالبة بالإصلاحات السياسية والإدارية والاجتماعية والحقوقية وغيرها من جهة ثانية، وذلك في إطار الشراكة بين المجتمع المدني والدولة بهدف اقتراح البدائل وإيجاد الحلول للأزمات والمشاكل المتعلقة بالشأن العمومي. إنه نوع من التدخل المجتمعي الواعي والضغط باللين لتلبية حاجة اجتماعية أو إنسانية أو معرفية تتصل بوجدان العامة في مجتمع ما وبحقوقهم.
وأي معركة نضالية لا بد للفاعل المدني فيها من توقع مواجهة مع الفاعل الرسمي، قد تكون محدودة في الزمان والمكان أو طويلة الأمد، وقد تتحول إلى صراع مرير مع السلطة أو مؤسسات الدولة. فطريق النضال ليست مفروشة بالورود، وقد يضطر المناضل لخوض معركة ما أكثر من مرة لكي يحقق جزءاً من المطالب فقط، وربما لا يحقق شيئا. ويحتاج النضال المدني ضد سياسة الدولة وتدابيرها إلى أسس من التنظيم داخل هيئات ومؤسسات قانونية (أحزاب سياسية، نقابات، جمعيات، منظمات حقوقية، اتحادات طلابية…)، ومن الدراية بالقوانين المؤطِّرة للفعل النضالي، والوعي السياسي والثقافي الكفيلين بالتفاعل الإيجابي مع مستجدات المحيط. ويحتاج أكثر إلى إلمام بمجالات النضال وأشكاله الكثيرة التي تختلف بحسب الظروف والأسباب؛ كما يتطلب تضحية واستعدادا نفسيا من لدن الفاعلين المدنيين الحقيقيين لدفع ضريبة مواقفهم من الدولة ووقوفهم مع الشعب ضد سياستها في أي وقت.
وبديهي أن كل أسلوب أو مجال في النضال (نشاط سياسي، نشاط نقابي، عمل خيري، عمل حقوقي…) يعبر عن توجه سياسي أو فكري قائم على مبادئ ومرتكزات ومعتقدات تتفق والأسس التي تُوجه نشاطات الفاعل المدني في التغيير ونمط الإصلاحات التي يرغب فيها، وتجعله يتجاوز اهتمامَه بمصالح ذاته ومصالح الأعضاء المناضلين في هيئته إلى الاهتمام بمصالح الناس، وبالقضايا التي ترتبط بالمحيط والمَعِيش اليومي للمواطنين والمواطنات. ولا عيب في ذلك، ما دامت هناك ثمرة للنضال يقطفها الفرد وتعزز تحقيق التوازن بين الدولة والمجتمع. كما أن النضال المثمر هو الذي يصل إلى أفضل النتائج بأقل مجهود ممكن.
فالنضال بهذا المعنى لا يُجيده كل الناس لأن الشأن العام لا يهتم به كل الناس، بل ليس شرطا أن يُجيده كل الناس. فَمِنَ الناس مَنْ هو مهيأ لمواجهة أعباء الحياة المعيشية باقتدار عظيم، لكنه غير مؤهل للدفاع عن مصالحه وحقوقه بالوسائل المشروعة، والوقوف باستماتة في وجه من لا يستحيي أن يُعطِّل مصالح العامة ويسلبهم حقوقهم، فكيف بمناشدته الدفاع عن مصالح غيره وحقوق الآخرين مثله؟! من هنا تتولد شرارة النضال الأولى ـ في كل زمان ومكان ـ نحو تحقيق ما تيسر من المقاصد النبيلة للفرد والمجتمع، ودفع ما أمكن من المفاسد والأضرار عنهما. ومن هنا أيضا تزداد الحاجة إلى النضال في المجتمع في ظل ضعف تجاوب الحكومات مع مطالب الشارع المعقولة، وانكماش عباءة الحريات والحقوق في الوطن العربي. وأجمل النضال ما كان في سبيل تحقيق إنسانية الإنسان، حيث يكفل له تلك المثل العليا التي يتطلع إليها من حرية وكرامة وعدل ومساواة… ويصرف عنه وعن مجتمعه كل ما هو سيء. وأمام هذه الأهمية القصوى للنضال، فلا يملك الإنسان إلا أن يناضل، حتى قيل إن: “من تخلى عن النضال تخلى عن إنسانيته، ومن تخلى عن إنسانيته لم يستحق الحياة”.
ولا يختلف اثنان في كون العمل النقابي ـ شأنه شأن العمل الحزبي والجمعوي والحقوقي ـ واجهة أساسية للنضال المدني في المجتمع، وبابا من أبواب الخير الموجبة لمرضاة الله ومحبة الناس. فالفاعل النقابي بدفاعه عن مصالح الناس هو مواطن صالح مُصلح، ينفع غيره بما أقدره الله عليه، ويحمل عنه من المكاره ما لا يتحمله بنفسه، ويُدخل السرور على قلبه بمساعدته على قضاء حاجته. فقد روى الشيخان في الصحيحين عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ عن النبي ﷺ أنه قال: «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته»، وفي الصحيح من حديث أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «واللهُ في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه». فهذا الفاعل في مجتمعه، الذي يمشي من غير مقابل في قضاء حوائج الناس حتى يثبِّتها أو يدفع عنهم مكروها قد أصابهم، سيؤجر وجوبا على عمله في الدنيا والآخرة، وقد وعده الله بقضاء حاجته وبعونه حين يحتاج إلى معونة لأن الجزاء من جنس العمل.
ولذلك، فقبل أن ينشأ النضال هناك المناضل الذي يحمل مشعل النضال في محيطه، ويتمسك بالمبادئ والقيم المنبثقة من قناعاته ومعتقداته، ويجاهد في سبيل تبليغها وتثبيتها في مجتمع لم يعد رافدا من روافد اكتساب القيم، بل صار رافضا من روافضها وكافرا بجميع أنبيائها في إحداث التغيير الإيجابي والمتدرج. خلف كل نضال إذاً يقف مناضل مع الحق يحامي عن أعراض الناس، ويحاول استعادة الكرامة المفقودة والحقوق المهضومة، ويدرك كيف ومتى يقول “لا” لِيُحَوِّلَ الفئات المقهورة والطاقات المتناثرة في المجتمع قوة واحدة خلفه، يحرك مشاعرها في الوقت المناسب ويعزف على أوتار قلبها لتؤدي دورها الكامل في الضغط على الحكومات والدول من أجل إيجاد الحلول المناسبة لحاجاتهم الأساسية.
وإذا كان النضال مهمة سامية ونبيلة لأنه متصل بإنسانية الإنسان، فإنه في شقه الحزبي والنقابي والجمعوي والحقوقي أصبح رديفا لكراهية المناضل. ويوما بعد يوم يتنامى خطاب الكراهية هذا ويتخذ أشكالا وصورا جديدة في الساحة النقابية. فقد كان المناضل فيما مضى لا يخشى على نفسه من شيء سوى تحميله مسؤولية تمثيل شريحة واسعة من المجتمع، يتكلم باسمها أما الهيئات الرسمية ويذود عن كرامتها، ويباشر أمورها بجد وجهد كبيرين دون انتظار مقابل من أحد، ويبدي جاهزية كبرى لتحمل الصدمات من الآخرين لكنه أبدا لا يتوقف عن أداء واجبه تجاه الفرد والمجتمع، لأنه يؤمن أن العمل النقابي عبادة من العبادات التي يتقرب بها المناضل إلى ربه. ومع مرور الوقت، بات كل منتسب إلى النضال يتجرأ على هذه الأمانة العظيمة، ويسعى إليها بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة؛ وهو ما أساء إلى صورة النضال في أوساط من يناصرونه.
إن امتداد ظلال الكراهية إلى المناضل النقابي بغض النظر عن موقعه بين الحق والباطل، وبغض النظر عن التضحيات الكبيرة التي يقدمها في سبيل الآخرين، له ما يبرره في ساحة النضال. وأول هذه المبررات هو انحراف المناضل عن المبادئ التي ترعى رسالة النضال النبيلة، ومن كثرة شيوع هذا الانحراف في النضال صار هو الأصل، وصارت الاستقامة عند قلة قليلة مجردَ شكلٍ ونشازًا في زمن الانحدار والتردي في العمل النقابي. وهنا يُثار السؤال من جديد حول جدلية النضال والأخلاق. فلو وضعنا قائمة تضم أسماء أفضل مئة مناضل ينشط في الساحة النقابية في الوقت الراهن، فسيكون عدد المنحرفين منهم ضِعف الراشدين مرتين. من هنا جاءت فكرة عنوان هذا المقال: “مناضلان في النار ومناضل في الجنة”.
ولا ينبغي أن ينسحب اهتمام القارئ عن مضمون المقال إلى سؤال ثانوي حول الحق في الحكم على الناس بدخول الجنة أو النار من عدمه، بقدر ما يجب أن ينصب حول وجوب حذر الفاعل النقابي من التفريط في المسؤولية وخيانة الأمانة في تمثيل العمال والموظفين، ومن النضال المأجور الذي يكون بدافع مادي أو مصلحة شخصية أو أي مقابل لخفض صوت الجهر بالحق أمام الجهات المسؤولة في الدولة، ففي ذلك خطر عظيم.
وبحسب الوقائع التي عايشناها عن قرب في العمل السياسي والنقابي، سواء ما تعلق منها بالمساطر القانونية للنقابات في تشكيل مكاتبها ومجالسها وفي اختيار زعمائها، أم ما تعلق بمبادئ النضال التي تعبر عنها القيادات في الميدان، أم تلك التي تتعلق بمواقفها عند التفاوض الجماعي، ولعل أعظم خيانة على الإطلاق من النقابات الأكثر تمثيلية هي توقيعها على نظام المآسي في اتفاق 14 يناير 2023 الذي فجر غضب رجال ونساء التعليم، وهرَّب ملفهم المطلبي من مائدة الحوار إلى الشارع في سابقة هي الأولى من نوعها في تاريخ الحركة النقابية؛ بحسب كل تلك الوقائع يمكن تصنيف المناضلين إلى ثلاث دوائر كبرى:
أولا ـ مناضل يقبض ثمن مواقفه
لو استطاعت موائد الحوار أن تبوح بكامل أسرارها لضجت من الصراخ والعَتَب على هؤلاء المناضلين المتطفلين على النضال، والنضال منهم بَرَاءٌ؛ وربما استحيت من تقديم شكوى رسمية ضد جماعة من النقابيين العُتَاة الفاشلين في كل شيء إلا في عمليات “الدعم التبادلي” و”همزات الوصل”، الذين يأكلون على سِمَاطِ معاوية في القصر، ويُصَلُّون خلف علي (كرم الله وجهه) على الحُصُر، وربما فضحتهم على رؤوس الخلائق.
ثُلَّةٌ من الأولين الطامحين إلى الثراء على حساب أداء الواجب تجاه أبناء مجتمعهم، وقليل من الآخرين الباحثين عن المجد على فراش من ريش، باعوا عرق العمال والموظفين وتفاني المخلصين من المناضلين في تنظيماتهم العتيدة على امتداد عقود من الزمن، وتسببوا في تحويل العلاقة بين الفاعل الرسمي والفاعل المدني إلى علاقة ربحية، واتخذوا من النضال صنعة يسعون من خلالها وراء مصلحة زائلة (مال، سلطة، امتياز). فهؤلاء حتى بعد موتهم لا تستريح الساحة النقابية من أوزارهم، ولو دفنوا ما دُفن شرهم على العمل النقابي مع رمادهم، بعد أن نجحوا في عملية استنبات لأغصان خبيثة في شجرة النضال الطيبة. وأسوأ ما في هذا الكائن المحسوب على النضال:
1 ـ صفات شخصية: يمتلك الشجاعة اللازمة للدفاع عن مواقفه وقناعاته الفكرية، وقادر على الترافع مع سبق الإصرار على إخفاء نواياه المبيَّتة، وعلى دغدغة عواطف الناس واستمالتهم إلى ما يريد؛
2 ـ في علاقته بالجماهير: كائن استرزاقي يبيع عضلات العمال ويتلاعب بنضالات الكادحين، مستعد ليساوم على كل قضية مجتمعية عادلة وكل ملف مشروع (cnops نموذجا)، ويُكَيِّفُ مواقفه (المتقلبة) بحسب الراعي الرسمي لنزواته ومصالحه الشخصية؛
3 ـ في علاقته بالتنظيم: يقتل النضال بانقلابه على المبادئ التي يدعو إليها ويهتف بها، وأخطر ما فيه سحب مزيد من ضحايا الغنيمة إلى صفه، فلا يموت سلوكه بموته. ولو اقتضت مصلحتُه الشخصية ترحالَه من تنظيم نقابي إلى آخر لما تردد.
فهذا مناضل باع حصانه الذي يغزو عليه (الضمير)، وكسر قوسه التي يرمي منها خصومه (المصداقية)، فهو ضَالٌّ مُضِلٌّ.
ثانيا ـ مناضل يطلب/يشتهي ثمن مواقفه
اسألوا الكواليس (أماكن على المسرح لا يراها المشاهدون) عن رقصة الموت الأخيرة في الليلة التي تسبق انعقاد المؤتمرات، وعن القُوى الخفية التي تُحرك الأشياء عن بعد، فإذا تنفس الصبح صار الرأس ذيلا والذيل رأسا، وظهر على خشبة المسرح ممثلون هواة وربما لا علاقة لهم بالنضال، فكيف يكونون أبطالا لمسرحيتها على مدى خمس سنوات؟!
كصواريخ الفضاء ينطلق هذا النوع من المناضلين في البداية بشكل صحيح، لكن عند دخولها المدار تتخذ مسارا مائلا أثناء الصعود بدلا من التحرك في خط مستقيم. فهؤلاء المناضلون لم يكونوا مسنودين من أي جهة (سياسية) سوى الجهد والتفاني والإخلاص في العمل، لكنهم في مرحلة ما من عمر النضال يحسون بقيمة إنجازاتهم وتضحياتهم في سبيل تنظيماتهم النقابية، فيرون أنفسهم فوق الجميع، وفوق الأخطاء، وفوق المؤسسات؛ ويصبحون أكثر تركيزا على البقاء بدل العطاء.
هؤلاء يؤمنون بأن عدم تخليدهم في مناصب القيادة إلى الأبد يدل على عدم تقدير التنظيم لزعمائه. فإن حدث أثناء التدافع المشروع (انتخابات اللجان متساوية الأعضاء، وانتخابات تشكيل المكاتب/المجالس الوطنية والمجالية) أن سُحبت من أحدهم هذه المناصب والصفات، انقلب على الديمقراطية التي كان ينادي بها عندما كانت نتائجها إلى جانبه، وتصاعد دخانٌ أسود من جميع عوادمه وألسنةُ نيران وقصفٌ عنيف لإخوانه وشركائه الذين انتقدوه خلال مرحلة التداول في المرشحين. ومنهم من يلجأ إلى احتكار جميع السلط والوثائق والبيانات والأسرار التي تجعل منه القائد الأوحد العارف بخبايا التنظيم في مجاله الترابي، والتي تمكنه من أن يصعد على الدوام إلى “البوديوم” النقابي في اللجان أو المجال؛ ومنهم من إذا أُجْبِرَ على التنحي دفع بأضعف قيادي في التنظيم ليتحكم فيه عن بعد، فالعلاقة بين الشيخ والمريد علاقة من نوع فريد.
هؤلاء مثل أولئك، وإن بدت مصالحهم مختلفة فإن قلوبهم متشابهة. وأسوأ ما في هذا النوع من أشباه المناضلين:
1 ـ صفات شخصية: يعاني من تضخُّم الأنا وتبخيس الآخر، ومن النقد المستمر في موقع القيادة لأنه يرى نفسه فوق الحساب، يصف الواقع ولا يكلف نفسه عبء البحث عن حلول، وبدل أن يتعاون مع شركائه في التنظيم يلقي اللوم عليهم ويحملهم مسؤولية فشله؛
2 ـ في علاقته بالجماهير: كائن مشهدي من درجة جنرال؛ مناضل غيور يشتغل لصالح الجماهير والمنخرطين، لكن لذة الظهور في الصورة عنده لا تقاوم، ولا يستحيي أن يصف نفسه بالزعيم الخارق أمامهم؛
3 ـ في علاقته بالتنظيم: يقتل النضال بحرصه الشديد على المسؤولية، وبانتصاره لذاته على حساب التنظيم؛ يُجَفِّلُ الكفاءات المخلصة ويشوه صورة معارضيه؛ عاشق لِلْكَوْلَسَة ويحمي نفسه بتشكيل تكتلات داخل التنظيم الواحد؛
فهذا مناضل أبقى على حصانه الذي يغزو عليه (الضمير)، لكنه كسر قوسه التي يرمي منها سهامه (المصداقية)؛ فهو مناضل ضَالٌّ.
ثالثا ـ مناضل يدفع ثمن مواقفه
قليل هم الذين تُطابق أقوالُهم أعمالَهم، وقليل هم الذين يتبنَّون أفكارا ويتصرفون بناء عليها، ومستعدون للموت في سبيلها. وقليل من هذا القليل هم الذين يصمدون أمام الإغراءات التي يمكن أن تشكل نقط ضعف لأي مناضل، في زمن تضغط فيه أجواء الفساد والانحراف على الشرفاء للخضوع وتقديم التنازلات إسوة بالآخرين. لا يُطَبِّلُون للباطل ولو مَتُنَ، ولا يكتمون الحق ولو وَهَنَ؛ طرحوا من قاموسهم عداوة المنافسين، وقربوا إلى مجالسهم أشرس المعارضين؛ الأقدمية بينهم لا تعني المَزِيَّةُ، والمَزِيَّةُ عندهم لا تعني الأفضلية.
هم الأخيار لا يشقى بهم جليسهم، من كان معهم أصابه من الشرف ما أصابهم، عرفنا منهم من يخاطر بسلامته، ويسافر ليلة كاملة لِيُشْرِفَ على مؤتمر أو يحضر وقفة يكثِّر بحضوره سواد الأمة، خالطنا منهم من يضحي بجهده وصحته ورغبته وراحته، يقتطع من راتبه الزهيد ويعطي للتنظيم، يأبى أن يُعَوَّضَ في بنزين سيارته، وتذكرة التنقل، ونسخ أوراق المنخرطين، وقهوة الصباح في قاعات الانتظار… هؤلاء بشر عاديون لا يريدون أن يكونوا أبطالا خارقين، وفي الوقت نفسه لا يريدون أن يكونوا ضحايا منتظَرين، يأكلون مما نأكل ويمشون في الأسواق، ويخطئون كغيرهم من المناضلين، لكن خطأهم خطأُ اجتهاد وتقدير (للمصلحة العامة) وليس خطأ تعاظم وبيع ضمير. وشَتَّانَ بين مناضل عقيدة ومناضل غنيمة!
هؤلاء هم رسل النضال الحقيقيون الذين يؤمنون بأن المسؤولية تكليف وليست تشريفا؛ فقد حازوا الاحترام في أي مرفأ رَسَوْا عليه، وأتعبوا مَنْ بَعْدَهُمْ من المناضلين في أي ضفة من الضفتين حطوا عليها: ضفة إخوانهم وضفة خصومهم. وأجمل ما في هذا المناضل الأَثِيلِ:
1 ـ صفات شخصية: يتحلى بجرأة كبيرة في اتخاذ المواقف الواضحة، وقادر على الترافع عن المطالب، يتفاعل مع الاقتراحات بجدية، يسمع أكثر مما يتكلم، يعترف بالغير، يبحث دائما عن حلول ويفكر في المستقبل، يُعِدُّ الخَلَفَ ويشجع من حوله على النجاح؛
2 ـ في علاقته بالجماهير: كائن عملي وخدوم، منحاز إلى صف العمال والموظفين، صريح ولا يبيع لهم الوهم، ثابت على المبدأ ويقف في وجه الضغوط؛
3 ـ في علاقته بالتنظيم: رجل معطاء، لا يشعر بالسعادة في الأخذ بل في كرم العطاء، وفي حب إخوته بدل الإقصاء؛ مستعد للاعتراف بأخطائه ولا يخشى النقد، يشعر بتأنيب الضمير عن أي تقصير في مهمته، لا يتقدم للمسؤولية إلا إذا قدَّمه إخوانُه؛
فهذا مناضل أراح حصانه الذي يغزو عليه (الضمير)، وأشعل قوسه التي يرمي منها سهامه (المصداقية)، فهو مناضل صالح مُصلح.
***
وبكلمة نهائية، المناضلون على ثلاثة أنواع: نوع انتهازي خُلِقَ ليفترس، ونوع مشهدي خُلِقَ ليتزعم، ونوع صامد خُلِقَ ليقاوم. ومهما قاومت هذه الثُّلَّةُ الأخيرة من أجل أن تُجَمِّلَ صورة النضال، وترد الاعتبار للمناضل في الساحة النقابية، فإن جهودها تصطدم بطمع الفئتين الأوليين. ورحم الله ابن عطاء الله السكندري حين قال: “ما بصقت أغصانُ ذُلٍّ إلا على بَذْرٍ طَمِعَ”.
إن أي زيغ للمناضل ينعكس سلبا على رسالة النضال ومقصديته الإنسانية، كما أن أية إساءة إلى رموز وأيقونات النضال في المجتمع هي إساءة إلى النضال نفسه. وهذا المقال جاء ليسد حاجة ماسة في الساحة إلى المناضلين الشرفاء الذين لا يقبلون بالتمسح على أعتاب رجال الدولة وأرباب الشركات. وجاء ليذكر النقابات الأكثر تمثيلية بأن النضال قبل أن يكون ممارسة هو سلوك تلمسه الجماهير في القيادات المناضلة والمفاوِضة، ويذكر هذه القيادات بأن النضال النزيه مرتبط في أصله بالتضحية وليس بالاسترزاق، وأن الجماهير فَطِنت لأمر المسترزِقين.
ـــــــــــــــــــ
(*) تنبيه: الحكم على الناس بدخول الجنة أو النار هو تجرؤ على مشيئة الله عز وجل، فلا يعلم عاقبة المسلم إلا هو، ولكن حسبي أنني اقتبست العنوان من حديث رسول الله ﷺ تحسينا للكلام وترسيخا لمعانيه في النفوس؛ فعن بُرَيْدَةَ قال: قال رسول الله ﷺ: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ: رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ، فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ، وَجَارَ فِي الْحُكْمِ، فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفِ الْحَقَّ، فَقَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ، فَهُوَ فِي النَّارِ» رواه الأربعة، وصححه الحاكم.

تيط مليل، في: 09/12/2023

Abdeslam Hakkar

عبد السلام حكار مدير الموقع وصحفي منذ 1998 عضو مؤسس بالتنسيقية الوطنية للصحافة والإعلام الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى