مجرد رأي

هل نجح طوفان الأقصى في الإجهاز استراتيجيا على “الحل الصهيوني” ل “المسألة اليهودية” من المسافة الصفر؟

 

الدكتور الحبيب الشوباني

المقالة التاسعة عشرة (19) :
[الأساطير المؤسسة للحل الصهيوني للمسألة اليهودية:حسب منظور الفيلسوف الفرنسيRoger Garaudy (1/2) ]

1- خلصنا من المقالات السابقة إلى أن “الحل الصهيوني للمسألة اليهودية” قام على مجموعة من المقولات الدينية والسياسية التي تبرر احتلال فلسطين وتُشرعن إقامة “دولة اليهود” على أنقاض مجتمعها العربي الفلسطيني المتجذر في أرضه، عبر عملية تحويل مدروس ل “أساطير دينية وسياسية” جعلت منها “حقائق تاريخية” شكلت أساسا لسردية صهيونية عالمية، تولت نشرها والتنشئة عليها آلة دعائية وتعليمية ضخمة وفعالة، همّت مجالات الاعلام والتربية والتثقيف الموجهة لمجتمع الاحتلال في فلسطين، ولغيره من مجتمعات “الغوييم” في العالم. ويعتبر كتاب “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية Les Mythes Fondateurs de la Politique Israélienne ” للسياسي والفيلسوف والفرنسي Roger Garaudy (1913-2012) من أهم الكتب التي تصدَّت علميا لتفكيك هذه الأساطير وبيان تهافتها. ولذلك فقد أحدث صدور الكتاب سنة 1996 ضجة كبرى أفضت إلى محاكمة المؤلف بسبب شكايات تقدمت بها جمعيات صهيونية للقضاء الفرنسي، تتهمه فيها ب “معاداة السامية” بناء على قانون Gayssot-Fabius ، الذي صدر في 13 يوليو 1990 ( Gayssot صاحب المبادرة التشريعية برلماني عن الحزب الشيوعي!) . من المهم لفت الانتباه إلى أن هذا القانون صُنع على عجل كرد فعل على جريمة نبش لقبور اليهود Exhumation des tombes juives ، جرت بشكل غامض في فرنسا عام 1990، استغلتها المنظمات الصهيونية لاستصداره بعد حملة إعلامية منسَّقة لحشد الرأي العام ضد “معاداة السامية”. وقد أدان Jacques Toubon، وزير العدل في حكومة Alain Juppé السابقة – القانون بقوله: “بأنه ليس قانونا ضد العنصرية، لكنه عملية تلاعب وسيطرة سياسية (..) تستجيب فقط لمسرحية إعلامية” ؛ كما اعتبره حقوقيون فضيحة جللت بالعار مبادئ الحرية الفكرية التي ظلت علامة مميزة لتقاليد ممارسة الحريات في فرنسا الجمهورية وبلد “الأنوار”.

2- في مقدمة كتابه وضع المؤلف القارئ في صورة البواعث التي حفزته لتأليف الكتاب، وكذلك الصعوبات الجمَّة التي واجهته لنشره؛ يقول Garaudy : “بعد أن قمت، لأكثر من نصف قرن، بنشر أعمالي مع أكبر الناشرين الفرنسيين، أنا مجبر اليوم على نشر هذه المختارات من الهرطقة الصهيونية على حسابي الخاص (يسميها الروس طريقة samizdat)، لأنني منذ عام 1982 انتهكتُ إحدى المحرمات: انتقاد السياسة الإسرائيلية التي يدافع عنها من الآن فصاعدا قانون Gayssot-Fabius الشرير، الصادر في 13 يوليو 1990، والذي أرجع فرنسا إلى عهد جرائم الرأي كما كان عليه الحال في الإمبراطورية الثانية، حيث تتم الاستعاضة بقانون قمعي عن نقص الحُجج/Après avoir, pendant plus d’un demi-siècle, publié mes ouvrages chez les plus grands éditeurs français, je suis contraint d’éditer aujourd’hui en samizdat, à compte d’auteur, cette anthologie de l’hérésie sioniste, parce que j’ai, depuis 1982, violé un tabou: la critique de la politique israélienne, défendue désormais par la loi scélérate Gayssot-Fabius du 13 juillet 1990, qui restaure en France le délit d’opinion du Second Empire, en suppléant par une loi répressive à la carence des arguments”.

3- كشفت محاكمة Garaudy سنة 1998، ثم إدانته بتهمة كونه “معاديا للسامية وإنكاريّاً un antisémite et un négationniste” (يعادي اليهود وينكر الأرقام الرسمية لمحرقتهم النازية)، عن الشخصية المثقفة الصلبة لرجل عاش عضوا بارزا ومفكرا ومناضلا في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي لمدة 39 سنة. كما أن عدم تراجعه أمام ضغوط الشيطنة الإعلامية الواسعة التي تعرض لها من طرف الإعلام الغربي، أكدت تمتعه بخصائص رجل استثنائي باحث عن الحقيقة، بغض النظر عن كلفة البحث التي قد تصل إلى مواجهة آلة سياسية وقانونية وإعلامية وقضائية مصممة على اغتياله المعنوي؛ ولعل هذه الخصائص هي التي تفسر رحلته الفكرية منذ أن غادر الحزب الشيوعي سنة 1970 وتنقل بحثا عن اليقين الإيماني في الديانات البروتستانتية، ثم الكاثوليكية، قبل أن يختم ترحاله الروحي باعتناق الإسلام في 2 يوليو 1982، ويصدر بهذه المناسبة كتابيه “وعود الإسلام Promesses de l’Islam” و”الإسلام يسكن مستقبلنا l’Islam habite notre avenir”.

4- يمكن تصنيف المقولات التي عالجها غارودي في كتابه إجمالا حسب عنوانين رئيسيين: (1) مقولات لاهوتية قديمة مرتبطة بتوظيف نصوص التوراة والتلمود (كمقولة “الأرض الموعودة” ، ومقولة “شعب الله المختار” ، ومقولة “التطهير العرقي سيرا على نهج نبي الله يشوع” ) ؛ (2) ومقولات سياسية حديثة مرتبطة بتوظيف مفاهيم سياسية مستحدثة (مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، ومقولة “معاداة السامية”، ومقولة “محرقة الهولوكوست” التي أودت بحياة 6 ملايين يهودي، ومقولة “معاداة الصهيونية للفاشية” …). عن مضمون هذا الكتاب، يقدمه Garaudy للقارئ باعتباره “قصة هرطقة/حكاية بدعة. وهو ما يتمثل، من خلال قراءة حرفية وانتقائية لوحي منزَّل، في جعل الدين أداة لسياسةٍ يُضفي عليها القداسة. إنه مرض قاتل لنهاية هذا القرن كما قمت بتعريفه في كتابي”الأصوليات” . لقد حاربته بين المسلمين في كتاب “عظمة الإسلام وانحطاطه” (..) وبين المسيحيين في كتابي “نحو حرب دينية” (..) وأنا اليوم أحاربه بين اليهود في كتابي “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، مع المخاطرة بإثارة غضب الصهاينة الإسرائيليين الذين لم يعجبهم بالفعل ما ذكّرهم به الحاخام هيرش: “تريد الصهيونية تعريف الشعب اليهودي باعتباره كيانا قوميًا.. إنها هرطقة”./Ce livre est l’histoire d’une hérésie. Celle qui consiste, par une lecture littérale et sélective d’une parole révélée, à faire de la religion l’instrument d’une politique en la sacralisant. C’est une maladie mortelle de cette fin de siècle que j’ai définie déjà dans « Intégrismes ». Je l’ai combattue chez les musulmans dans « Grandeur et décadence de l’Islam » (..) Je l’ai combattue chez les chrétiens dans « Vers une guerre de religion » (..) Je la combats aujourd’hui chez les Juifs dans « Les Mythes fondateurs de la politique israélienne », au risque de m’attirer les foudres des israélo-sionistes qui déjà n’aimaient pas que le Rabbin Hirsh leur rappelle : « Le sionisme veut définir le peuple juif comme une entité nationale… C’est une hérésie ».

5- بخصوص الأساطير الدينية اللاهوتية القديمة، فقد حددها Garaudy في ثلاثة أساطير: الأسطورة الأولى، “الأرض الموعودة” : يقول “إله اليهود” في “الوعد الأبوي la promesse patriarcale” وهو يخاطب الخليل إبراهيم (أبو الأنبياء): “ولنسْلِك أُعطي هذه الأرض، من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات” ؛ تتبع Garaudy جذور المسألة وطلبها في مصادرها بدقة علمية صارمة، فكانت خلاصة بحثه أن “الوعد بالأرض يتعلق بوعد بالاستقرار، وهو موجه أولاً إلى مجموعات من البدو الخاضعين لنظام عيش الرحل، والذين يطمحون إلى الاستقرار في مكان ما في المناطق الصالحة للإقامة. بهذا الشكل، فإن الوعد يكون جزءاً من التراث الديني والسرديّ لعدة مجموعات قبَلية مختلفة/ La promesse de la terre, entendue comme une promesse de sédentarisation, a été adressée en premier à des groupes de nomades qui étaient soumis au régime des transhumances et qui aspiraient à se fixer quelque part dans les régions habitables. Sous cette forme-là, la promesse a pu faire partie du patrimoine religieux et narratif de plusieurs groupes tribaux différents “. لقد بين Garaudy كيف تم تحويل وعد إلهي عام بلَّغه جميع الأنبياء والرسل لأقوامهم– بنقلهم من حياة شاقة (البداوة) إلى حياة منعَّمة (الاستقرار) جزاءَ استقامتهم وتقواهم – إلى “قراءة أصولية للصهيونية السياسيةlecture intégriste du sionisme politique”، توحي بأن “إله اليهود” يُسوِّغُ احتلال فلسطين وتدمير شعبها وتهجير يهود العالم نحو أرض لا علاقة لهم بها. لتجلية علاقة هذا التحريف الذي طال مقولة دينية عادية، وحوَّلها إلى عقيدة مؤسِّسة لتفكير وممارسات صهيونية عدوانية ودموية، يضرب غارودي بعض الأمثلة على ذلك: (المثال الأول) اعتبار الجنرال موشي ديان Moshé Dayan الكتاب المقدس صكا عقاريا يحدد جغرافية “دولة اليهود” ويضفي القداسة على سياساتها الاستعمارية والتوسعية العدوانية، كما صرح بذلك لجريدة الجوريزاليم بوست في 10 غشت 1967: “إذا كنا نملك الكتاب المقدس، وإذا كنا نعتبر أنفسنا شعب الكتاب، فيجب أن نتملك كل أراضي الكتاب المقدسSi l’on possède le livre de la Bible, si l’on se considère comme le peuple de la Bible, on devrait posséder toutes les terres bibliques “؛ (المثال الثاني) كون هذه الأسطورة تصنع ثقافة قتل من ينازع اليهود هذه الأرض بدم بارد، كما فعل “باروخ كولدشتاين Baruch Goldstein” يوم 25 فبراير 1994 عندما أطلق النار على المصلين في الحرم الابراهيمي بمدينة الخليل مخلفا وراءه 27 قتيلا؛ أو كما فعل “إيغال أمير Yigal Amir” الذي قتل رئيس الوزراء الصهيوني “إسحاق رابين Yitzhak Rabin” يوم 4 نونبر 1995، لأن كلاهما منتوج لتربية صهيونية تُنَشِّئُ على الاعتقاد بأن تصفية كل من يوجد على تراب “الأرض الموعودة” من غير اليهود، وأن قتل من يسعى لتسليمها للعرب في إطار اتفاقيات السلام، أمر إلهي يثاب فاعله ويؤجر.

6- وأما الأسطورة الثانية ، “شعب الله المختار” ، فيقول “إله اليهود” في التوراة عنها : “هكذا قال الرب: ابني البكر هو إسرائيل” . أفضت دراسة جارودي لأسطورة “شعب الله المختار” المستمدة من هذه المقولة التوراتية، وتحميلها ما لا تحتمل، جعلته يقرر أن القراءة الصهيونية الأصولية هي التي أوحت على سبيل المثال ل Rabbin Cohen في كتابه “التلمود” أن يقول: “يمكن تقسيم سكان العالم بين إسرائيل وباقي الشعوب مجتمعة. إسرائيل هي الشعب المختار: عقيدة بالغة الأهمية/ Les habitants du monde peuvent être répartis entre Israël et les autres nations prises en bloc. Israël est le peuple élu : dogme capital” . إن ترويج هذه الأسطورة المحرَّفة للتاريخ، هدفه تشكيل وعي العالم على أساس وجود تفوق ديني تاريخي أهَّل اليهود لنيل هذه الحُظْوة الإلهية، وهو ما يعني: فرض اعتقاد غير صحيح على البشرية، يقول بأن اليهودية هي أصل الديانات التوحيدية، وأن اليهود نالوا هذه الأفضلية على سائر الشعوب بسبقهم لنفي تعدد الآلهة ورفض الشرك. وهو ادعاء مخالف لتاريخ عقيدة التوحيد الضاربة الجذور في تاريخ البشرية، كما بين ذلك غارودي عندما قدم نماذج من تعبيرات الثقافات الكبرى السابقة على اليهودية في منطقة الشرق الأوسط ولدى شعوب بلاد الرافدين ومصر، بل ولدى شعوب الحضارة الهندية وحضارة الإينكا في أمريكا الجنوبية، دون أن ينسى الإشارة إلى دلالات طوفان نوح ووجود هذه القصة في جل الثقافات الإنسانية الكبرى.

7- أما الأسطورة الثالثة للنبي يشوع وعقيدة التصفية العرقية للأعداء (عند المسيحيين يدعى يَشُوعُ بْنُ نُونٍ، أو يُوشَعُ بْنُ نُونٍ عند المسلمين)، فمصدرها موجود في سِفر يشوع العاشر، ومن ذلك ما يلي: “ثم اجتاز يشوع وكل إسرائيل معه من لَخيش الى عجلون فنزلوا عليها وحاربوها، (35) وأخذوها في ذلك اليوم وضربوها بحد السيف، وحرّم كل نفس بها في ذلك اليوم حسب كل ما فعل بِلَخيشْ.(36) ثم صعد يشوع وجميع إسرائيل معه من عجلون إلى حبرون وحاربوها، (37) وأخذوها وضربوها بحد السيف مع ملكها وكل مدنها وكل نفس بها. لم يبق شاردا حسب كل ما فعل بعجلون، فحرّمها وكل نفس بها.” فقد بين غارودي أن هذه المشاهد التصويرية لقتل كل من يقف في طريق نبي محارب، دون تمييز بين المحاربين وغيرهم من النساء والأطفال والمرضى والعزة والحيوانات، تم توظيفه في التنشئة الصهيونية لإبادة الشعب الفلسطيني طوال عقود من الاحتلال والاضطهاد، باعتبار هذه الأفعال ديناً يُتقرَّبُ به إلى إله اليهود المتعطش لدماء أعداء شعبه المختار. يستدعي غارودي أحد المشاهد المروعة المرتكبة باسم هذه العقيدة الدموية فيقول: “في 9 أبريل 1948 قام “مناحيم بيﯖن” مع عصابات الإرغون بتنفيذ مذبحة قرية دير ياسين التي ذهب ضحيتها 254 من سكان قرية دير ياسين؛ الرجال والنساء والأطفال/ Le 9 avril 1948, Menahem Begin, avec ses troupes de l’Irgoun, massacre les 254 habitants du village de Deir Yassin, hommes, femmes et enfants”. ويؤكد غارودي أن هذه العقيدة الدموية مبثوثة في التوراة (التي يسميها المسيحيون أسفار موسى الخمسة: le Pentateuque )، وهي: التكوين la Genèse ، والخروج l’Exode، واللاويين le Lévitique، والعدد les Nombres، والتثنية le Deutéronome )، وهي فيما يسمى ب”ملاحقها التاريخية” أبشع، وهي أسفار يشوع Josué، والقضاة les Juges، والملوك les Rois، وصموئيل Samuel.

(يتبع في المقالة 20)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى