مجرد رأي

تسمين الوحش

 

محمد كريم بوخصاص

يمكن أن تنزع مجموعة بشرية عنها ثوب الآدمية الذي يميزها عن سائر خلق الله، لكن لا يمكن توقع أن يصل بها الأمر إلى درجة ملاحقة الموتى في قبورهم، واستخراج الجثامين من تحت التراب للتمثيل بها، أو رفض السماح بدفن جثث وتركها تتحلل حتى يتم الاستمتاع بمشهد الدود يخرج منها.
فما الذي يمكن أن يدفع الإنسان ـ بغض النظر عن دينه أو عقيدته – إلى أن يتلذذ بالعبث بجثث الموتى بعد وفاتهم بأسابيع؟ إذا كان الانتقام هو الدافع، فماذا يمكن أن يضير جثةً شبعت موتا إذا تم العبث بها؟ وماذا يمكن أن يُفهم من هذه الأفعال الشنيعة سوى أن مرتكبيها قد بلغوا من الوحشية مبلغا لم يصله الوحوش الآدميون الأولون الذين كانوا لا يعرفون الحقوق ولا يرفعون شعارات التحضر والرقي.
هذه المشاهد الفظيعة التي رواها شهود وصلوا لتفقد مجمع الشفاء الطبي بعد انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي منه غداة حصاره الذي استمر لأسبوعين، والذي ترك خلفه قرابة 400 شهيد على جنباته ـ وفقاً لما أعلنه المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة – لم تكن محط انتقاد، بل كانت موضع تصفيق لمرتكبيها، وكانت هناك محاولات لتبرير أفعالهم والتستر عليهم لكي يواصلوا جريمتهم المقدسة بمحو غزة من الخريطة وجعل 2.3 مليون إنسان يتبخرون في الهواء.
يفرض المنطق أن يخجل المجرم عند ارتكاب الجريمة ويحني الرأس حين يقترف سلوكا همجيا، إلا إسرائيل التي تستطيع أن ترتكب عشرات المجازر في الصباح وتعلن بالمساء حاجتها لارتكاب آلاف أخرى، وهي التي يتجرأ وزير في حكومتها على إعلان تأييده لفكرة إلقاء قنبلة نووية لإبادة 2.3 مليون نسمة في رمشة عين، ويعلن قائد دفاعها محاربة جنوده “حيوانات بشرية”، وفي نفس الوقت تُشحن لها أحدث الأسلحة ويُوافق على أزيد من مائة صفقة سلاح أمريكية لها حتى شهر فبراير.
الحقيقة التي أصبحت ساطعة اليوم، أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي يمكنها أن تُسَوي مستشفى فوق رؤوس المرضى والجرحى والأطقم الطبية في الفجر، وتقصف مبنى قنصلية في الظهر، وتقتل سبعة عمال إغاثة دوليين يحملون جنسيات دول حليفة لها بعد الزوال، وتنفذ إعدامات ميدانية لمدنيين بدون محاكمة في المساء، وتفجر رؤوس أطفال ونساء قبل مغرب نفس اليوم. نعم، إنها الدولة الوحيدة التي بمقدورها انتهاك ميثاق الأمم المتحدة، والقانون الدولي الإنساني، واتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية، واتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب في يوم واحد، ثم يُطلب منها العفو عن التقصير في حقها، ويُطبطب على ظهرها أسفاً لعدم ري عطشها من الدماء، ويُقبَّل جبينها لأنها تبرهن أنها حمامة سَلام، وتُستجدى أن تتريث في القتل خوفا من أن ينال منها التعب وهي مُدَللة العالم المتحضر ورمز للديمقراطية وحقوق الإنسان.
هي الدولة الوحيدة التي تجعل صحيفة بريطانية عريقة مثل الغارديان تعتبر انتقاد رئيس وزراء بريطانيا يندرج ضمن حرية التعبير، ولكنها تقوم بإقالة رسام كاريكاتير مخضرم عمل معها لمدة أربعين عاما، وذلك بسبب رسمه لبنيامين نتنياهو بشكل قد يثير استياءه. كما أنها الدولة الوحيدة التي لا يجوز انتقادها في أي شيء، والتي لم تطبق أي قرار أممي أو تلتزم بأي قانون دولي في تاريخها، والتي يجب أن يَذكرها العالم بالديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
تبقى أيضا الدولة الوحيدة التي كانت عواصم غربية ترفض قبل أشهر استقبال وزراء من حكومتها لكونهم متطرفين ينتمون لأحزاب سليلة منظمات مصنفة في واشنطن والاتحاد الأوروبي كمنظمات إرهابية (مثل حزب كاخ، ومنظمة غوش أيمونيم، وأغودات إسرائيل، وديغل هتوراه وغيرها)، قبل أن تسارع نفس الدول لمنحهم العتاد والسلاح الذي يقتلون به الأبرياء اليوم في غزة والضفة الغربية، ويُطلب منهم عدم اليأس حتى القضاء على أعدائهم.
بسبب الكابوس الذي نعيشه منذ أكثر من خمسة أشهر، نجد أنفسنا مضطرين للتساؤل عن الوحشية التي باتت تتجلى في سلوك إسرائيل، والتي تدعمها عواصم غربية رغم أنها ترى انهيار “قيمها” أمام مجتمعها المحلي من تحت الدبابات الإسرائيلية التي يقودها ضباط فوق أشلاء مدنيين أبرياء، ودون أن تقوى على الاستنكار، تماما كما لم تفعل وهي ترى سَنَّ قانون لإغلاق قناة فضائية بعد استهداف عدد من صحافييها وإرهاب آخرين.
لم يعد هناك منطق يمكن أن يبرر تصرفات إسرائيل، حتى وإن كانت تصنف دولة عنصرية وفاشية. فقد قادتها حكومتها الـ37، التي يتزعمها “أبو المجازر” حزب الليكود، الذي تأسس عام 1973 عبر اندماج منظمات كانت تصنف داخل إسرائيل إرهابية مع حزبين يمينيين صهيونيين، إلى ذروة الوحشية. تتنافس الأحزاب المشكلة لها في التطرف ورفض حق الفلسطينيين في إقامة دولة مستقلة، حتى دون النظر إلى عاصمتها، وتوسيع الاستيطان ضدا في العالم، حيث انتقل عدد المستوطنين في الضفة الغربية من 268 ألفا في فترة ما قبل أوسلو (1967-1993) إلى 750 ألفا بعد توقيع الاتفاق.
لقد تم تسمين الوحش منذ عقود حتى صار اليوم فوق العالم !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى