درس الإبستمولوجيا بين الجابري ووقيدي
بقلم: ذ : محمد هُمام
عن موقع : الفيصل
ألقى الأستاذ محمد وقيدي (1946- 2020م) محاضرة: ما هي الإبستمولوجيا؟ في بداية الثمانينيات من القرن الماضي بجامعة محمد الخامس بالرباط. وهو يعدها انطلاقة رسمية للدرس الإبستمولوجي بالجامعة المغربية. وقد توسع في الإجابة عن السؤال: ما هي الإبستمولوجيا؟ في كتاب بالعنوان نفسه. كما أنجز بحثًا آخر، بعنوان: مهام الإبستمولوجيا، ضمن عمل مشترك، في كتاب جماعي، بعنوان: «إشكاليات المنهاج في الفكر العربي والعلوم الإنسانية». شارك فيه: عبدالسلام بن عبدالعالي، وسالم يفوت، وسعيد بن سعيد العلوي، وكمال عبداللطيف، ومصطفى حدية، ومحمد كداح، والمختار الهراس. (عن منشورات دار توبقال، الطبعة الأولى، 1987م)، وهو عبارة عن أعمال: مناظرة المنهجية التي كانت تنظمها جمعية البحث في الآداب والعلوم الإنسانية، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس.
وعلى الرغم من عدم ميلنا إلى التورط في بحث سؤال: من صاحب المبادرة الأولى في تدريس الإبستمولوجيا في الجامعة المغربية؟ وهو سؤال أنطولوجي معقد أكثر مما هو سؤال بحثي قابل للمعالجة اليقينية، فإنا نشدد على السبق الذي ميز فريق الأساتذة الباحثين في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس، من مختلف الأقسام والشعب، وكذا من مختلف الحقول ومن مختلف التخصصات، مع فرادة مقدرة وملحوظة، من خلال التتبع الدقيق لمسارات الدرس الجامعي بالكلية، بناءً على مؤشرات الإنتاج العلمي، والتأليف الفكري، والإشعاع الوطني والدولي، والتأطير الثقافي، والحضور في الفضاء العمومي، بما يسجل فرادة وتميز أساتذة شعبة الفلسفة.
ولكن يبقى التأكيد على أن حقل الإبستمولوجيا كان حقلًا مغريًا لباحثين آخرين، وهو ما خلق نوعًا من التنافس العلمي المحموم بين الأساتذة الباحثين، وخلق جدلًا معرفيًّا ومنهجيًّا بينهم، وصل إلى حد الخصومة الفكرية، ولكنها خصومة رسخت موقع الإبستمولوجيا، بوصفها خلفية علمية، وباراديغمًا معرفيًّا، مؤثرًا بشكل كبير، في جُلّ المشاريع الفكرية والعلمية التي تميز بها مجموعة كبيرة من الأساتذة الباحثين المبدعين، من الجيلين، من مختلف الشعب بالكلية.
ولقد كان الأستاذ الجابري، رحمه الله، من الجيل الأول في الجامعة، رائدًا في البحث الإبستمولوجي، خصوصًا على مستوى التأليف، أو على مستوى التطبيق. وكان البحث الإبستمولوجيا يقتضي حينها البحث في إبستمولوجيا العلوم الطبيعية، وهي الإبستمولوجيا التي ستُنقل إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، وإلى الفلسفة، وإلى تاريخ الأفكار، وإلى السوسيولوجيا، وإلى اللسانيات، وإلى النقد الأدبي، وإلى العلوم السياسية، وإلى حقول أخرى. وهو نقل قام به غاستون باشلار، ملهم الإبستمولوجيين المغاربة.
فقد نقل باشلار هذا النموذج عن أوغست كونت، خريج مدرسة البوليتيكنيك، وسكرتير الفيلسوف سان سيمون، وصاحب كتابي: الفيزياء الاجتماعية، ودروس في الفلسفة الوضعية. وصادفت النزعة الوضعية عند كونت تكوينًا أساسيًّا في الرياضيات وفي الفيزياء والكيمياء عند باشلار، مع تكوين فلسفي، وهو ما ساعده على استلهام نموذجه المعرفي (الإبستمولوجي)، ومفاهيمه التفسيرية الصارمة. فأصبح الحديث في الإبستمولوجيا يبتدئ بالحديث في باراديغم العلوم الطبيعية. ولا يخفى ما في هذه النزعة من رغبة (إبستمولوجية/ وضعية) لإضفاء الصرامة والدقة و(العلمية!!) على الخطاب الفلسفي، وعلى العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام.
لذلك أصبح البحث في مباحث الرياضيات والفيزياء، على الخصوص، جزءًا من البحث الإبستمولوجي الناشئ في الجامعة المغربية. فقد ألف الجابري، رحمه الله، كتاب: مدخل إلى فلسفة العلوم العقلانية المعاصرة وتطور الفكر العلمي. (صدرت الطبعة الأولى في بيروت، سنة 1976، وأعيد طبعه أكثر من سبع مرات!) ووضع له الجابري مدخلًا عامًّا مطولًا حول: الإبستمولوجيا وعلاقاتها بالدراسات المعرفية، خصوصًا: العلاقة بحقول: نظرية المعرفة، والميثودولوجيا، وفلسفة العلوم، وتاريخ العلوم.
ودرس وجهات النظر العلمية والفلسفية التي كانت رائجة حينها، خصوصًا: الوضعية، والوضعية الجديدة، والنظرية التطورية، والمادية الجدلية. وعرض لإبستمولوجيا غاستون باشلار، في فلسفة النفي، والإبستمولوجيا التكوينية عند جان بياجيه. ثم تناول في قسمين كبيرين: تطور الفكر الرياضي والعقلانية المعاصرة، وتطور الأفكار في الفيزياء، مع ترجمة عدد وافٍ من نصوص إبستمولوجيا الرياضيات والفيزياء، عقب كل قسم.
وقد ضمن الجابري الكتاب نصوصًا كثيرة تعبّر عن مرجعيات العلوم الطبيعية في توجيه البحث الفلسفي، والعلوم الاجتماعية والإنسانية، من منظور إبستمولوجي. وبرزت في هذا السياق نصوص: نيوتن، وهايزنبيرغ، وديتوش، ولوي دوبري، وأرنست ماخ، وبوانكريه، وآينشتاين، وآخرين، من علماء الرياضيات والفيزياء والكيمياء. وخلق كتاب الجابري حافزية جديدة للبحث الإبستمولوجي، من خلال تطبيق بعض مفاهيم إبستمولوجيا باشلار، وجان بياجيه، في مشروعه الفكري (نقد العقل العربي، خصوصًا في الجزء الأول: تكوين العقل العربي، صدر سنة 1985م)، وبخاصة مفهومَيِ: التكوين، والقطيعة…
موقف وقيد من هذا النوع
من البحث الإبستمولوجي
لم يكن الأستاذ وقيدي يحبذ هذا النوع من البحث الإبستمولوجي؛ انطلاقًا من إبستمولوجيا العلوم الطبيعية، الرياضيات والفيزياء على الخصوص، رغم أنه قد سار في هذا الطريق في بداية أبحاثه الإبستمولوجية؛ وذلك بسبب من عائق التخصص في الرياضيات وفي الفيزياء، وأيضًا بسبب صرامة هذا الاختيار، بما لا يتناسب وخصوصيات الحقل الفلسفي، وحقل العلوم الاجتماعية والإنسانية.
لذلك يذهب الأستاذ الوقيدي إلى أن بحثه في إبستمولوجيا العلوم الطبيعية يمنعه من التطبيق المرن للمفاهيم الإبستمولوجية خارج حقل العلوم الطبيعية، وهو الشيء الذي أعانه عليه متن الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير (1918- 1990م) بخلفيته النقدية الماركسية. خصوصًا أن الأستاذ وقيدي خاض تجربة البحث في إبستمولوجيا العلوم الطبيعية، وهو مقتنع بأن تطور العلوم الاجتماعية والإنسانية في القرن التاسع عشر ارتبط بشكل وثيق بتطور العلوم الطبيعية. وعليه، فإن العلوم الاجتماعية والإنسانية قابلة للتحليل الإبستمولوجي، بأصوله وروافده في الفيزياء وفي الرياضيات.
فقد أنجز بحثًا بعنوان: «إبستمولوجيا العلوم الفيزيائية» (ظهر سنة 1978م)، وانتشر وسط الأساتذة الباحثين في كليات العلوم، وليس وسط الأساتذة الباحثين في كليات الآداب والعلوم الإنسانية!! تحدث فيه عن الثورة العلمية في النظرية الفيزيائية وعن أهميتها، اعتمادًا على نصوص ألبرت آينشتاين (1879- 1955م)، خصوصًا في كتابه: تطور الأفكار في الفيزياء Paris 1975))، ليتوجه إلى بحث العوائق الإبستمولوجية التي تعوق البحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية.
وهذا التوجه في البحث ستظهر بعض معالمه في كتابه: ما هي الإبستمولوجيا؟ وهو ما سيخلق داخل بنية التفكير الإبستمولوجي الناشئ في الجامعة المغربية، توجهات مختلفة؛ يمكن رسم دوائرها الأولى، في مجهودات أساتذة باحثين بالكلية، كالتالي: الدائرة الأولى يمثلها الجابري، والدائرة الثانية، وهي قريبة منها، يمثلها عبدالسلام بن عبدالعالي وسالم يفوت، والدائرة الثالثة يمثلها محمد وقيدي، والدائرة الرابعة يمثلها بن ناصر البُعزّاتي وعبدالسلام بن ميس…؛ دوائر تجسد الاشتباك الفكري المثمر على أرضية الإبستمولوجيا، وتجسد الدور الحقيقي للجامعة بوصفها فضاءً
للحوار والاختلاف.
سيتفجر النقاش العلمي، إذن، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بجامعة محمد الخامس، على أرضية الإبستمولوجيا، من أجل البحث عن صياغة خطاب فلسفي على قواعد علمية (إبستمولوجية) صارمة، تستلهم النزعة العلمية كما تطورت في متن الفلاسفة الفرنسيين، كونت وباشلار، وكذا عند بياجيه خاصةً. وأتصور أن كتاب الجابري: مدخل إلى فلسفة العلوم، بقدر ما كان حافزًا للأساتذة الباحثين بالكلية، وبقسم الفلسفة على الخصوص، بقدر ما كان مستفزًّا، ومغذّيًا لنزعة تَحَدٍّ، عند أساتذة آخرين.
وفي هذا السياق، كتب الأستاذ وقيدي دراسته عن (إبستمولوجيا العلوم الفيزيائية) وعن النظرية النسبية خاصة، ثم ألقى محاضرته المعلومة، وأصدر سنة 1983م، كتاب: ما هي الإبستمولوجيا؟ كان يخيم على الأستاذ وقيدي، في نظرنا، وهو يجيب عن سؤال: ما هي الإبستمولوجيا؟ كتاب الجابري: مدخل إلى فلسفة العلوم. بل كان الأستاذ وقيدي مسكونًا بتوجيه البحث الإبستمولوجي في غير الوجهة التي رسمها له الجابري في كتابه؛ أي تخليص مباحث الإبستمولوجيا في العلوم الاجتماعية والإنسانية والبحث الفلسفي من مباحث إبستمولوجيا العلوم الطبيعية، خصوصًا الرياضيات والفيزياء، وهو ما برز في كتاب الجابري سالف الذكر.
ومن ثمة تحويل البحث الفلسفي من تأملات فلسفة العلوم إلى دقة الإبستمولوجيا (الوضعية بالطبع). ويعترف الأستاذ وقيدي أن الإجابة عن السؤال: ما هي الإبستمولوجيا؟ أمر معقد وصعب. وعليه، كان هدفه من الكتاب وضع قاعدة، أو برنامج عمل، من خلال تقديم تعريف عام لفلسفة العلوم ذي وظيفة إجرائية، يساعد على مناقشة المواقف الإبستمولوجية المختلفة، والمهام التي أنجزتها فلسفة العلوم، والمهام الجديدة التي ينبغي أن تنجزها الإبستمولوجيا، وكذا الشروط التي يمكن أن تنجز فيها تلك المهام.
من ضيق فلسفة العلوم إلى سعة الإبستمولوجيا:
فالأستاذ وقيدي يريد أن ينتقل بالبحث من ضيق فلسفة العلوم، كما ترسخت مع الأستاذ الجابري، إلى سعة الإبستمولوجيا، كما ثبتت مفاهيمها مع باشلار، بقراءة ألتوسير. وقد صدر حينها للأستاذ وقيدي كتاب: فلسفة المعرفة عند باشلار (دار الطليعة/ 1980م)، وكان يحيل عليه كثيرًا، ويَعُدّ نتائجه العلمية متكاملة مع طموحاته البحثية في كتاب: ما هي الإبستمولوجيا؟ ورغم حضور خيال كتاب الجابري في كتاب الأستاذ وقيدي، فهو لم يشر له على طول كتاب: ما هي الإبستمولوجيا؟ (227 صفحة)! على غير عادة الأستاذ وقيدي؛ ذلك أنه كان منفتحًا باستمرار على المشاريع الفكرية لزملائه الأساتذة الباحثين بكلية الآداب، كما أنه حاور الجابري نفسه واشتبك معه فكريًّا في كتبه اللاحقة.
وكتاب الجابري يقع في قرابة خمس مئة صفحة! رغم ذلك لم يخرج الأستاذ وقيدي في كتابه عن الإطار المنهجي الذي رسمه الجابري في كتابه؛ لأنهما في الحقيقة يطرقان حقلًا بكرًا في درسنا الأكاديمي الجامعي، ثم إنهما يتكئان على الخلفيات المعرفية والمنهجية نفسها لما يسمى حينها بـ«العقلانية المعاصرة» أو «الفكر العلمي المعاصر». وهذا المتكأ هو إبستمولوجيا باشلار، والنموذج المعرفي التكويني الذي صاغه جان بياجيه، وإشكالات الفكر الفلسفي الفرنسي عامة.
ومع ذلك سعى الأستاذ وقيدي إلى إحداث اختراقات بحثية من أجل رسم طريق مخالف للبحث الإبستمولوجي في الجامعة؛ لذلك سعى إلى فصل مهام الإبستمولوجيا عن مهام فلسفة العلوم، كما حدد الفوارق بين الفلسفة ونظرية المعرفة، وقدم مقترحات في حدود المعرفة العلمية في ارتباط بالبحث الإبستمولوجي. ورأى أن البحث في نظرية المعرفة ينبغي أن ينتهي إلى البحث الإبستمولوجي. والبحث الإبستمولوجي هو متابعة أثر المعرفة العلمية في بنية الفكر. إنها نوع من التحليل النفسي للمعرفة الموضوعية، من منظور باشلار، تحليل موضوعه لا شعور الباحث العلمي، وهدفه اكتشاف جملة العوائق التي تعوق عملية المعرفة، أو ما يسميه باشلار بـ«العوائق الإبستمولوجية». كما يعمل البحث الإبستمولوجي على اكتشاف «القيم الإبستمولوجية»، وبيان دلالة الاكتشافات العلمية من الناحية الثقافية العلمية، وكذا من
الناحية النفسية.
وتجاوز العوائق الإبستمولوجية يقتضي اكتشاف العوائق الأيديولوجية، وهي بالمناسبة عوائق لم يتحدث عنها باشلار، ويعد الأستاذ وقيدي نفسه مبدعًا لها في البحث الإبستمولوجي، خصوصًا في العلوم الاجتماعية والإنسانية، وهو الأمر الذي سيخصص له الأستاذ وقيدي كتابًا بعنوان: «العلوم الإنسانية والأيديولوجيا» (دار الطليعة، بيروت 1983م).
وبحكم رغبة الأستاذ وقيدي في توجيه البحث الإبستمولوجي إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية، وكذا تخليص البحث الفلسفي من قبضة فلسفة العلوم، مستثمرًا متن ألتوسير في قراءة باشلار، والفلسفة الوضعية عامة، مع انفتاح على المتن النقدي لإيمانويل كانط (1724- 1804م)؛ فقد بحث في علاقة الخطاب الفلسفي بالخطاب العلمي، حيث توسعت الهوة بين الخطابين بتوالي الثورات العلمية، وبخاصة الثورة العلمية المعاصرة.
لذلك بحث فيما سماه بـ«الفلسفة التلقائية للعلماء»، استلهامًا من نص ألتوسير؛ أي بحث وضعية العلماء داخل الفهم الفلسفي للنتائج العلمية، سلبًا أو إيجابًا، وحوارًا وجدلًا، في إطار الفلسفة الضمنية التلقائية للعلم، التي نكتشفها، أو بالأحرى يكتشفها البحث الإبستمولوجي، من خلال تتبعه الاكتشافات العلمية، ومن خلال ملاحظة تطور المنهج العلمي.
من هنا نكتشف التأويلات الفلسفية (غير العلمية) للنتائج العلمية، وهنا تتأسس التحيزات غير العلمية وسط حركية البحث العلمي، فتنشأ التأويلات الفلسفية للعلم غير المتطابقة مع النتائج العلمية، بل تذهب بها في اتجاه غير صحيح. ويعرف ألتوسير الفلسفة التلقائية للعلماء بأنها فلسفة لا تتمثل في النظرة التي يكونها العلماء عن العالم، أي تصورهم للعالم، بل هي ما لديهم من أفكار، واعية بذاتها أو غير واعية، عن ممارستهم العلمية وعن العلم. (اعتمد الأستاذ وقيدي على كتاب ألتوسير:
Philosophie et philosophie spontanné des savants, Maspero1967).
فألتوسير كان مسكونًا بتجاوز الفلسفات التقليدية التي تستغل النتائج العلمية وتحولها لخدمة أنساقها الفلسفية الجاهزة. ورغم المجهود البحثي الذي يمكن أن تقوم به الإبستمولوجيا، ستبقى الفلسفة التلقائية للعلماء متصفة بالتناقض؛ بسبب الاصطدام بين العناصر التي تصدر عن الممارسة العلمية، أي العناصر الداخلية، والعناصر الآتية من خارج هذه الممارسة! وهي القيم التي يحملها العالم معه إلى الممارسة العلمية.
هذه القيم ليست، في نظر الأستاذ وقيدي، واستلهامًا للخط الفكري لألتوسير في قراءة باشلار، إلا قيمًا أيديولوجية! وهو ارتهان، في نظرنا، لنزعة وضعية هي ذاتها أيديولوجية وغير علمية، ستُتَجاوَز من خلال التطورات التي سيعرفها البحث الإبستمولوجي في الجامعة المغربية، من خلال أعمال أساتذة باحثين في الكلية، مغاربة وعرب، خصوصًا ما كان يقدمه علي سامي النشار في تاريخ الفلسفة، وكذا أطروحة محمد عزيز الحبابي، وما سيقدمه طه عبدالرحمن في مشروعه العلمي برمته، وكذا كتابات بن ناصر البُعزّاتي، وآخرين.
لقد سعى الأستاذ وقيدي إلى تخليص البحث الإبستمولوجي من مباحث إبستمولوجيا العلوم الطبيعية، وكذا من مباحث فلسفة العلوم مما يراه (قيمًا أيديولوجية) محرفة لمسار البحث العلمي، ومستغلة لنتائجه. ويعود له الفضل الكبير في تعميق البحث العلمي في المواضيع التي ظهرت على نحو عابر في خضم إنتاجات الجيل الأول، ولم تخرج بعد حينها في شكل مؤلفات معمقة للموضوع، كما نجد عند العروي والجابري وطه عبدالرحمن.
انتقاد الجابري:
لقد ألهم متن ألتوسير الأستاذ وقيدي لإغناء أطروحة باشلار، الشيء الذي لم يتوافر لأطروحة الجابري في كتابه: مدخل إلى فلسفة العلوم، لأسباب كثيرة؛ لذلك بحث الأستاذ وقيدي برشاقة إبستمولوجية، وأسلوب سلس، قضايا الفكر الفلسفي والروح العلمية، كما انتقد، على نحو غير مباشر، فلسفة العلوم كما قدمها الجابري في كتابه، من دون الإشارة إليه بالطبع! كما انتقد مفهوم العقلانية المعاصرة عند الجابري، بل عدَّها عقلانية (ميتافيزيقية)!
وقاد هذا النقد الأستاذ وقيدي إلى البحث في نظرية المعرفة وفي علاقتها بالإبستمولوجيا، وقدم عرضًا تاريخيًّا لنظرية المعرفة عند أفلاطون، وعند ديكارت من خلال عرض شائق لمشروعه المعرفي، هذا المشروع الذي فتحه على البحث في قواعد المنهج في العلوم، واشتبك مع الميتافيزيقا على أرضية المنهج. وعَدَّ سؤال المنهج سؤالًا علميًّا وليس سؤالًا ميتافيزيقيًّا عند ديكارت. وبغض النظر عن نجاحات المشروع المعرفي لديكارت أو إخفاقاته، أمام الثورات العلمية المتلاحقة، فقد أقرّ الأستاذ وقيدي بالقيمة الموضوعية للإبستمولوجيا الديكارتية. وكانت رافدًا من روافد درسه الجامعي الذي كان يقدمه في مادة الإبستمولوجيا، وهذا في حد ذاته مكسب للدرس الجامعي وسبق مقدر للأستاذ وقيدي.
لقد لعب الأستاذ وقيدي دورًا أساسيًّا في نقل النقاش الإبستمولوجي في الجامعات الأوربية؛ فرنسا أولًا، وألمانيا ثانيًا، إلى أروقة الجامعة المغربية؛ مثل قضايا المنهج والميتافيزيقا، عبر بوابة المتن الباشلاري. مع سبق في الانفتاح على المتن الكانطي في قضايا: العقل، والمعرفة، والفهم. فقد لخص في كتابه نظرية المعرفة عند كانط، والعلاقة بينها وبين النظرية الديكارتية، ثم قدم الخطوط العامة للمشروع المعرفي عند كانط، وهو مشروع يتمحور حول العلم والميتافيزيقا على أرضية العقل الإنساني.
لذلك كان العمل النقدي لكانط متجهًا رأسًا إلى العقل؛ هذا العقل الذي نجح على مستوى العلم، لكنه ما زال يتخبط على مستوى الميتافيزيقا. (لقد اعتمد الأستاذ وقيدي على الطبعة الفرنسية لكتاب كانط: نقد العقل الخالص) وقد سار على نهج عموم الأساتذة الباحثين المغاربة في الإبستمولوجيا، وهو التعرف إلى الفكر الفلسفي الألماني عبر (البوابة الفرنسية)، وهو في حدّ ذاته إشكال معرفي ومنهجي، بل إبستمولوجي، وعائق إبستمولوجي، خصوصًا من الوجهة اللغوية، أو ما يسميه باشلار نفسه بـ«العائق اللغوي». على أي، كان المتن الكانطي رافدًا جديدًا في الدرس الإبستمولوجي بالجامعة المغربية؛ فقد أتاح الفرصة للدرس الجامعي المغربي للبحث في مصادر المعرفة، وقابلية الفكر للتلقي، أي الحساسية الفكرية؛ أي القدرة على تلقي التمثلات، أو «قابلية الانطباعات»، ثم القدرة على التفكير في موضوع ما بواسطة هذه التمثلات، أي: «تلقائية التصورات». وعلاقة الحواس بالزمان والمكان، في إطار ما يسميه كانط بـ«الظاهرة»، وقضايا «الفهم» من حيث وظيفته، ودور التصورات القبلية الخالصة في إنتاج الفهم، وعلاقة المقولات بموضوعات التجربة، وحدود المعرفة البشرية.
وعقد الأستاذ وقيدي مقارنة دقيقة بين الإبستمولوجيا الكانطية والإبستمولوجيا المعاصرة. ورغم إقراره بأهمية المجهود الكانطي، وهو الذي كان هدفه الأكبر هو الرغبة في إيجاد حل لمسألة المعرفة وحسم الخلاف فيها، فقد كان يريد إقامة نظرية عامة عن المعرفة، وهو ما يجعل هذا المجهود مختلفًا عما تسعى إلى إنجازه الإبستمولوجيا، ضمن مهامها الأساسية، في نظر الأستاذ وقيدي.
وهذا التوجه الكانطي هو الذي سار فيه الأستاذ الجابري، كما سيظهر في كتبه اللاحقة، خصوصًا في الكتاب الأول من موسوعة «نقد العقل العربي»؛ أي كتاب: تكوين العقل العربي، الذي يعارضه الأستاذ وقيدي؛ لذلك انتقد نظرية المعرفة عند كانط، وهو في نظرنا يتبنى النسق الفلسفي الفرنسي، مع باشلار خاصة. من هنا يرى الأستاذ وقيدي أن الإبستمولوجيا لا تكون نظرية للمعرفة، من منظور كانطي بالطبع، إلا في الحالة التي يكون فيها التحليل الإبستمولوجي للمعرفة العلمية على وعي تام بإطاره النسبي؛ أي المرحلة التاريخية المحددة التي يحللها من تاريخ العلوم، وإلا سيسقط ذلك التحليل في إضفاء صفة الإطلاق على استنتاجاته وعلى مفاهيمه. ودرس الأستاذ وقيدي، في سياق نقده لكانط، علاقة نظرية النسبية والمبادئ التركيبية القبلية في فلسفة كانط. وخلص إلى أن تطور العلم قد حدث بقدر ابتعاده من الميتافيزيقا الكانطية.
فقد حدث نوع من (التفسخ التدريجي) للتركيب القبلي كما وضعه كانط على مستوى الأفكار، وهذا ما ساعدت فيه نسبية آينشتاين، بمضمونها التجريبي المخالف لتجريبية فرانسيس بيكون (1561- 1626م)، وجون ستيوارت ميل (1806- 1873م). لقد استمد آينشتاين تجريبيته من الفيزياء النظرية الحديثة، التي تشكل الرياضيات أساسها، وهي التي قوّضت، في نظر الأستاذ وقيدي، أهم قواعد العقل الخالص واكتشافاته مع كانط!