اعتراف – ليو تولستوي
كتب الأديب الروسي المشهور ليو تولستوي (١٨٢٨ -١٩١٠) هذا الكتاب في أخريات حياته ليسجل فيه اعترافاته ويتركها عهدة للأجيال القادمة لعلهم يستفيدون منها، فجاءت صريحة ومباشرة وعميقة عمق القارئ والمفكر والخبير الذي عركته الحياة.
تحدث فيه عن طفولته وشبابه ولم يستح أن يصارح قارئه بأنه ارتكب كل المنكرات طيلة عشرة أعوام، من زنى وخمر وكذب…، ثم ترك تلك المنكرات وبدأ يبحث عن جواب لسؤال ظل يؤرقه: ما الهدف من الحياة، ما معناها وما قيمتها ولماذا أنا هنا، وهل ثمة حياة أخرى أم لا؟ وظل يفكر ويتأمل ويقرأ في الفلسفة واللاهوت، ويجري حوارات مع رجال الدين وزعماء الأرثوذكسية، ولم يتوصل إلى إجابة تشفي غليله وتجيبه عن أسئلته، فتيقن أن الحياة عبث، وكل ما تحت الشمس قبض الريح، ولا قيمة ولا معنى لها كما ورد في سفر الجامعة المنسوب لسليمان، وأنه لا مهرب من المرض والشيخوخة والموت كما قال بوذا. فكفر بالأديان، وأنكر وجود الله حينا ثم عاد وخفف درجة إنكاره فأرجأ الحكم على وجوده من عدمه، واستمر في حياته ينمي ثروته ويؤلف كتبه في الأدب والفكر التي جعلت منه، وهو في الخمسين من العمر، شخصية مشهورة في روسيا. كل ذلك وهو ينظر إلى نفسه نظرة دونية، فيقول لها: إنك يا نفس جاهلة بأساسيات وجودك. وفكر في الانتحار مرارا وتكرارا، لكنه لم يمتلك الجرأة لتنفيذ فكرته.
ثم تأمل إيمان العامة من الفلاحين والعجائز فعلم أنهم يعيشون في طمأنينة وسلام رغم جهلهم بكل ما يعلمه وما يختزنه عقله من أفكار وفلسفات، فازداد احترامه لإيمان هؤلاء وازداد تقربه منهم ونفوره في الوقت عينه من أبناء طبقته ومن رجال الدين الذين يصفهم بالمنافقين الذين يفعلون من المنكرات ما كان يفعله في السنوات العشر سابقة الذكر لكنهم يخدعون الناس بمناصبهم الكنسية وبتمثيل دور الورع عليهم.
وبمرور السنين وتقدم تولستوي في العمر بدأ يحب الدين رويدا رويدا بعد أن توصل بعقله وقلبه أن الله له إرادة وإلا ما خلق هذا الكون بهذه الدقة، وأن له عقلا وحكمة ولم يخلقه عبثا، ومن ثم بدأ شيئا فشيئا يحبه، ويتردد على الكنيسة يأخذ منها ما يريد ويدع ما لا يقتنع به، ومن هذا الصنف الأخير الذي تركه مفهوم المسيحية عن الثالوث الآب والإبن والروح القدس، وهو المفهوم الذي قال عنه إنه “لم يفهمه أبدا” رغم ما أوتي من عقل وثقافة وقدرة على التفكر والتأمل، ومنها ما يسمى بسر التناول الذي تناوله مرة من يد الكاهن وندم على ذلك طيلة حياته لأنه لم يقتنع عقلا به، وغير ذلك من بعض العقائد والطقوس، واكتفى من المسيحية بتأكيدها على المحبة والتعاون بين جماعة المؤمنين على فعل الخير.
وهكذا ينتقل تولستوي في كتابه من مرحلة عمرية لأخرى ومعها يستعرض جملة الأفكار والمشاعر التي سيطرت عليه، ويلقي الضوء على نموه الفكري والعقلي والنفسي ونضجه السلوكي، شارحا ومفسرا ومحللا وضاربا المثال تلو المثال، حتى اختتم الكتاب بالإشارة إلى تصالحه مع نفسه وربه ودينه الذي يفهمه هو والذي كان على عهد المسيح، كما يقول، بسيطا لا تعقيد فيه ثم أضاف إليه اللاحقون إضافاتهم التي حولته إلى دين بعضه حق وحقيقة وبعضه أوهام وخرافات.
ويخرج قارىء اعترافات تولستوي بما خرج به قارئ اعترافات أبي حامد الغزالي في “المنقذ من الضلال” والقديس أغسطين في “الاعترافات” وجان جاك روسو في “الاعترافات” وفي “هواجس المتنزِّه المنفرد بنفسه”.. وهو أنه لا يعترف بنقائصه إلا الكبير، ولا يقدِّم نفسه عارية هكذا إلا من كانت محبته للإنسان ورغبته في تجنيبه مزالق الطريق الذي سلك أكبر من حرصه على سمعته وخشيته مما يمكن أن يقوله الناس عنه .. فياله من كتاب مفيد وممتع في آن.