عبد الإلاه بلقزيز يكتب : من أجل اللغة العربي
ما العمل لتمكين اللغة العربية من أسباب حماية نفسها من سياسات التبديد والتصفية، المنتهجة ضدها باسم النجاعة وضرورات التكيف مع الكونية ؟
من النافل القول إن مقاربة هذا السؤال تفترض نقداً مزدوجاً لأزعومتين متعارضتين في المضمون، متطابقتين في النتائج: الأولى الجهوزية الناجزة للغة العربية لكي تكون لغة العلوم والتقنية التي بها نستغني عن غيرها من اللغات، والثانية “تخلف” اللغة العربية وعجزها عن مجاراة اللغات العالمية في الاصطلاح والتعبير، – وبالتالي – زوال حاجتنا إليها في التدريس والاستخدام! الأزعومتان معاً تتنازعان النفوذ والسيطرة، في السجالات التي تدور على اللغة، وإن كان للثانية منهما الغلبة، بقوة الأمر الواقع السلطوي لا بقوة الحجة والإفحام .
لا بُد من القول – رداً على الأطروحة الأولى – إن جهداً علمياً كبيراً مازال مطروحاً على العاملين في الحقل اللغوي: في ميادين المصطلحيات والاشتقاق والترجمة، لإغناء الرصيد اللغوي الاصطلاحي للعربية وتنظيمه وتوحيده . ومعنى ذلك أن اللغة العربية في مسيس الحاجة إلى إعادة تأهيل في مجالات العلوم والتقنية حتى تصبح قادرة على الصيرورة لغة لاكتساب المعارف العلمية الدقيقة، نظير ما أصبحته في ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية منذ عقود ستة أو يزيد.
ومع أن اللغة العربية ليست مسؤولة عما أصابها من ضعف في الموارد العلمية بسبب السياسات التعليمية المتبعة المصرّة – ما عدا في العراق وسوريا – على تدريس المواد العلمية باللغات الأجنبية، إلا أن الأمر الواقع، الذي فرضته تلك السياسات، لا يمكن رفعه إلا ببذل المزيد من الجهد في إغناء رصيدها الاصطلاحي بالترجمة والإنتاج الفكري والعلمي باللغة العربية.
ما دون ذلك لن يفيدنا كثيراً أن نستمرئ عادة المكابرة، فنصر على جهوزية لغتنا – في وضعها الحالي – للاستخدام في التلقين العلمي . من يفترض ذلك، يتصرف كما لو أن الذين يطعنون على جدارة اللسان العربي، إنما يقصدون تبخيص قدره كلسان للعلوم الدينية وللآداب، أو حتى للعلوم الإنسانية الحديثة، وليس هذا مرادهم، أو مراد الأكثر منهم.
لا بد، في المقابل، من التسليم بحقيقة أن معظم من يعالن اللغة العربية عداءً أو خصومة أو اعتراضاً، ويدعو إلى التخلص منها في التدريس والإدارة، والاستعاضة عنها بالعامية (بلغة العامة) وبلغات أجنبية . . إنما يعاني جهلاً مطبقاً بها، أو نقصاً حاداً في اكتسابها، وعجزاً عن استخدامها كتابة وقراءة.
ومعنى ذلك أنه يعاني عقدة نفسية مزمنة تجاهها . وهي عقدة مفهومة، في كل حال، وتشبه عقدة المُعادين – بشكل عصابي – للغة الفرنسية والإنجليزية لمجرد الجهل لهما . والمشكلة ليست في العقدة النفسية، من حيث هي حالة سيكولوجية، وإنما هي في تحويلها إلى موقف ثقافي وسياسي، أو في تأسيس موقف ثقافي وسياسي على حالة مرضية شخصية، ففي ذلك منتهى الشطط والعبث، إذ من ذا الذي أعلم جاهلاً للعربية، لا يقوى على فك حروفها، أنها لغة متخلفة لا تليق بالتكوين العلمي؟ كيف له أن يقطع بعدم حاجتنا إليها وهو لم يقرأ بها نصاً فكرياً أو فلسفياً أو أدبياً ليقيس وزنها في ميزان النجاعة؟ ليس للجهل باللغة العربية أن يقرر في ما إذا كانت لغة مناسبة للتكوين والبحث العلمي، فالجهل جهل ولا يبنى عليه .
كما أن الكيد للغة الوطنية لصالح لغات أجنبية تعبير عن نقص فادح في الوطنية، ناهيك بما فيه من خرق وانتهاك فاضح للدستور الذي ينص على أنها اللغة الوطنية الرسمية.
سيكون على المدافعين عن مرجعية اللغة العربية أن يخوضوا معركتهم على جبهتين: جبهة البناء والتأهيل، وجبهة الدفاع والتأمين . الأولى جبهة العلم والثقافة والبحث العلمي المنصرف إلى تنمية القدرة العلمية والاصطلاحية للغة العربية، وتبسيط قواعدها النحوية والصرفية، وتيسير طرق تلقينها واكتسابها لدى الناشئة، ومراجعة برامجها في المدارس والجامعات، ورعاية البحث العلمي فيها والإنفاق الرسمي عليه، وإحداث الأكاديميات العلمية الخاصة بها، ودعم أطرها المؤسسية العلمية الموجودة سلفاً (مثل مجامع اللغة العربية) . . إلخ .
والثانية جبهة النضال الثقافي والاجتماعي – المدني والسياسي ضد المافيات الفرنكوفونية والانغلوفونية المندسة في مراكز الدولة، المديرة لمخططات الإجهاز على اللغة العربية خدمة للأجانب والمرتبطين بهم في الداخل العربي، ومحاصرة هذه المافيات ثقافياً، وقانونياً، برفع الغطاء عن أهدافها، وبيان ما في تلك الأهداف من مساس بالمصالح العليا للوطن والأمة، ومن اعتداء سافر على الدستور بما هو التمثيل الأعلى لمصالح الأمة . النضال الأول بنائي وطويل الأمد، وجمهوره الباحثون والأكاديميون .
والنضال الثاني دفاعي ينتمي إلى التمسك بحقوق المواطنة، وجمهوره – بالتالي – المواطنون كافة . ومثلما يحتاج الأول إلى أطر خاصة به، يحتاج الثاني إلى أطره الشعبية المناسبة .
اللغة العربية خط أحمر، لأنها الكينونة، ولأنها الوطن والأمة.