في الحاجة إلى عبد الوهاب المسيري : ” إسرائيل” من منظور معرفي (ج3)
بقلم : محمد همام
كتب الأستاذ عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، في الصفحة ماقبل الأخيرة من سيرته : ( رحلتي الفكرية : في البذور والجذور والثمار، دار الشروق2005، 726صفحة)، مايلي: ” وكثيرا ماتهاجمني لحظات يفقد الكون فيها معناه، وتصبح الأمور سخيفة ونسبية، وأبدأ في الشعور بالرغبة في تحطيم ذاتي وتحطيم من حولي. حدث لي هذا عند توقيع اتفاقية كامب ديفيد. كما حدث في عام 1979، وأنا في الولايات المتحدة، وكنت أقوم ساعتها بجولة في الكونغرس لأحدثهم عن علاقة إسرائيل بجنوب إفريقيا. وفجأة بدأت أشعر بسخافة ما أفعله وأتساءل عن جدواه. وكنت أسأل مرافقتي : لما لا أتوقف عن كل هذا، وأذهب إلى مطعم فرنسي أو صيني يطل على النهر فأجلس فيه وأتناول ما أريد من أطعمة ثم أدخن سيجارا وأذهب بعدها إلى المسرح وأعود إلى منزلي؟ وبذلك أكون قد أعطيت ظهري للتاريخ، بل وأخرجت لساني له؟ لماذا سأعود إلى مصر، وأنا عندي عروض مغرية لوظائف عديدة؟! أمكث في أمريكا، بلد اللاتاريخ، والآن وهنا، فأعيش في اللحظة، ولا أفكر لا في الماضي ولا في المستقبل، فأفقد وعيي وأهنأ بما تحس به حواسي الخمسة، بحسبانه البداية والنهاية…أليست هذه ألذ طريقة للانتحار يعرفها المرء؟” (ص713). لم تمنع هذه الهواجس الأستاذ المسيري من بحث الظاهرة الصهيونية، بل التخصص فيها. فقد حكى في مذكراته، في فصل: ( علاقتي بالصهيونية) ص471،كيف نشأ اهتمامه بالبحث في الصهيونية، وتزامنه مع بداية تشكل رؤيته الفكرية ونماذجه التحليلية. ويمتد اهتمامه من لحظاته الطفولية الأولى، وعلاقته باليهود وبالثقافة اليهودية في بلدته دمنهور، إلى احتكاكه واصطدامه باللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية؛ في الثقافة والفكر وفي الإعلام والسياسة. ويحكي المسيري أن علاقته الحقيقية بالبحث في الصهيونية ابتدأت عام 1963، حين دخوله جامعة كولومبيا لتحضير شهادة الماجستير في الأدب الإنجليزي والمقارن. كانت لحظتها ( إسرائيل)، في الخطاب العربي الرسمي والشعبي، مجرد كيان ( مزعوم) باستطاعة الجيوش العربية القضاء عليه في أي وقت أرادت! وهذا التصور رسخته أيديولوجية قومية متضخمة، ومتمركزة حول ذات زعيم مستبد ومضلل. لذا لم يكن يظن المسيري أن ( إسرائيل) الكيان المزعوم، يمكن أن يكون موضوعا يستحق البحث، بله التخصص فيه! وفي المقابل كانت الصهيونية، في الإعلام الأمريكي والغربي، تقدم نفسها باعتبارها حركة إنسانية، لم يكن من أهدافها الاستيلاء على فلسطين، بل ايجاد وطن لليهود يلجؤون إليه عند الحاجة. وكانت ( إسرائيل)، في الستينيات، أيام حركة عدم الانحياز وموجات حركات التحرر الوطني، تقدم نفسها كإحدى دول العالم الثالث، وأن الصهيونية حركة كفاحية ضد الاستعمار!!
وفي هذا السياق نشأت أيديولوجيا قائمة على أساطير كثيرة داعمة للأيديولوجية الصهيونية. كما بدأ يترسخ البعد الأسطوري للحركة الصهيونية، وكذا لليهود ول( إسرائيل)، في العالم العربي والإسلامي على الخصوص. وتعزز هذا البعد بعد هزيمة الجيوش العربية أمام الجيش الإسرائيلي سنة1967.
وجد المسيري، إذن، نفسه أمام متن شاسع من التمثلات والروايات والأفكار المسبقة والأحكام المتعجلة وغير المسنودة بالأدلة، في النظر إلى الحركة الصهيونية، وإلى اليهود، وإلى ( إسرائيل)، وأمام حملة ضخمة في أمريكا وأوروبا داعمة ل(إسرائيل). كل هذا دفعه إلى اتخاذ قرار التخصص في دراسة الحركة الصهيونية، وفي دراسة اليهود، وفي دراسة ( إسرائيل). وقد أثمر هذا التخصص مكتبة ضخمة، مما ذكرناه سلفا من المؤلفات والدراسات والموسوعات. وارتبط اسم المسيري بالصهيونية وباليهود، وب (إسرائيل).
ولم يكن تخصص المسيري في الصهيونية مجرد امتهان بحث أكاديمي، أو اتخاذ العلم مهنة، بتعبير ماكس فيبر1864-1920، في محاضرتيه المشهورتين: ( السياسة كمهنة) و ( العلم كمهنة)، بل هو تخصص من صميم مسؤوليته الأخلاقية والإنسانية. وهو تخصص يقوم على الربط بين العلم والفلسفة، وبين الفلسفة والعلوم الاجتماعية تحديدا. بذلك تحول المسيري من تخصصه الأصلي، وهو: الأدب الإنجليزي والأمريكي والمقارن، وهو المجال الذي بلور فيه ( النماذج التحليلية)، إلى حقل الدراسات الصهيونية. ويحكي المسيري في مذكراته (ص489 ومابعدها)، تشابك الأطروحات السياسية مع الموضوعات الفكرية في ذهنه، خصوصا عند اطلاعه على مذكرات تيودور هرتزل( 1860-1904). ولكنه استطاع تحقيق الانتقال من ( السياسي) إلى ( المعرفي)، ومن الاهتمام بالأحداث السياسية المباشرة إلى الاهتمام بالثوابت المعرفية والاستراتيجية. وقد ساعده اطلاعه على أعمال المفكر الفلسطيني الدكتور إسماعيل راجي الفاروقي (1921-1986)، خريج جامعة القاهرة وجامعة هارفارد. أستاذ أديان مقارنة في جامعة تمبل، ساعده على تعميق رؤيته المعرفية؛ وقد ألف الفاروقي كتابين صغيرين عن العقيدة اليهودية وعن الصهيونية، بمنهج مخالف لكتب السرد التاريخي، ولكتب العقائد والدعاية والمسماة: ( المناظرات الدينية) في الدراسات الإسلامية. ويؤكد المسيري في أكثر من مؤلف استفادته من ميراث ماركس1818-1883، ومن قراءة جورج لوكاتش1885-1971، لماركس،خصوصا في كشف النزعة الإنسانية في الماركسية، و استفادته من ماكس فيبر خصوصا في رفض ( الموضوعية الفوتوغرافية)، ومن أعمال مدرسة فرانكفورت، ومن أطروحات روجي غارودي، في مرحلته الماركسية، خصوصا في نقد الاغتراب، ومن كتب زيغمونت باومان1925-2017، في أطروحته عن( السيولة). كما استفاد من الأطروحة التوليدية في اللسانيات، ومن محاوراته مع مؤسسها نعوم تشومسكي، خصوصا في زيارته القاهرة سنة 1994. وقد ضمن المسيري مذكراته عرضا حواريا ونقديا لفلسفة تشومسكي التوليدية. كما كان المسيري قريبا في أمريكا من حركة اليسار الجديد.
ويمكن اعتبار النموذج المعرفي أهم المفاهيم التفسيرية التي اعتمدها المسيري في التأسيس لرؤيته المعرفية ل( إسرائيل). والنموذج في أطروحة المسيري هو: رؤية تصورية أو خريطة معرفية يجردها عقل الإنسان، بشكل واع أو غير واع، من الوقائع والأحداث التي تقع له، والظواهر التي يرصدها، والدراسات التي يقرؤها. ويرصد الواقع ويفسره من خلال العلاقات القائمة بينها. لذا تصبح ( إسرائيل)، من منظور هذا النموذج الإدراكي التفسيري، مجموعة من العلاقات والتفاصيل والحقائق والوقائع، يستبعد العقل بعضها، لعدم أهميته، ويبقي بعضها، ويجردها، ثم يربط بينها، وينسقها، بحيث تصبح حسب تصوره مماثلة للواقع. عندها يكون ماينتج عن عملية التجريد وكذا تصور العلاقات بين عناصر الظاهرة هو ( النموذج) الذي يماثل الواقع ولو كان افتراضيا. وهذا النموذج هو الذي يشكل (صورة إدراكية) عن الظاهرة/ ( إسرائيل) في حالتنا.
(يتبع).