الأنصاري الذي كتب عن قبور الصحابة .. مؤرخ مقدسي وحكاية مكتبته وكتبه
إن تجولت معه قليلا في القدس سيسرد لك أسماء الأماكن القديمة: “هذا مقر جريدة الشعب سابقا، هذه المحكمة القديمة، هُنا كانت تُباع الجرائد قبل ستين عاما”. كأن أيام الصبا المعبقة برائحة الحبر وغبار الكتب لم تبرح ذاكرته، فقد عاصر فترتين مختلفتين قبل الاحتلال وبعده، وعاين تغييرات كثيرة في الحجر والبشر، والكتب أيضا.
على بعد أمتار من مكتبته، التقينا المؤرخ فهمي خليل الأنصاري “أبو فهد” (79 عاما)، ملامحُ ناعسة بفعل التجاعيد، ورجفة يد تقبض على عصاه بإحكام لإخفائها، وبيده الأخرى حمل كيسا مليئا بالأدوية، أصاب أثر العمر جسده، لكنه لم يقترب من ذاكرته وقلبه، اللذين حصّنهما بمئات الكتب والمخطوطات التي قرأها وألفها وحققها.
وأشار السبعيني إلى مكان وسط شارع عمرو بن العاص في القدس المحتلة، وقال “كانت لي هناك ذكريات ومكتبة أشرفت عليها لأكثر من عشرة أعوام، ووضعت داخلها ثلاثين ألف كتاب جمعتهم منذ صباي”. واكتفى الأنصاري بالإشارة، وأشاح بوجهه، لكن قلبه ظلّ ينظر، لم نستطع دخول المكتبة التي أغلقت منذ عام 2014، وتفرّقت كتبها في أماكن شتى.
رافقنا الأنصاري إلى بيته في بلدة رأس العامود (جنوب المسجد الأقصى)، إطلالةٌ آسرة وأساسات وضعت عام 1939، هناك جلس إلى جانب زوجته فدوى المظفر (67 عاما) وبدأ رواية حكاية كتبه ومكتبته، وشاطرته زوجته الرواية وحِمل الغصة والألم.
سليل الأنصار في القدس :
تلقى المؤرخ تعليمه الابتدائي والثانوي في مدارس البكرية والعمرية والرشيدية في القدس، ثم سافر بعدها إلى سوريا ليدرس التاريخ في جامعة دمشق، وعاد بعد عامين إلى فلسطين إثر النكسة واحتلال شرق القدس عام 1967. عمل بعدها مدرسا في مدرسة العمرية بالقدس 18 عاما، ثم عمل باحثا في تاريخ القدس بمؤسسة إحياء التراث والبحوث الإسلامية ببيت المقدس، وألّف خلال عمله عشرة كتب وحقق عشرات المخطوطات. يُعرف الأنصاري في القدس كأبرز الباحثين والمؤرخين الذين اعتنوا بالماضي والحاضر، وحفظت ذاكرتهم أوقاف المدينة وتاريخ عائلاتها وأنسابها، كما كان أول من كتب عن قبري الصحابيين الجليلين عبادة بن الصامت وشداد بن أوس في مقبرة باب الرحمة شرق المسجد الأقصى، وكتب عن منبر نور الدين زنكي، ومقبرة مأمن الله، واهتم بالكتابات المنقوشة على الأبنية والأحجار الأثرية، وكان أبرز ما حققه “كتاب الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل”.
يعتز الأنصاري بإبرازه قبر الصحابي شداد بن أوس، ويقول للجزيرة نت “أبرزت قبر جدي، عائلتي أتت مع صلاح الدين الأيوبي إبان الفتح، ويرجع أصلنا إلى أنصار المدينة المنورة، وجدنا الأكبر هو شداد بن أوس رضي الله عنه، ووالدي خليل الأنصاري كان سادنا (خادما) في الأقصى لسبعين عاما، جدي لأمي عبد الغني الكشميري كان سادنا في الأقصى أيضا”. مقصد الباحثين وطلبة العلم :
حين كان في العاشرة من عمره، أحب الأنصاري القراءة وشراء الكتب من مصروفه الخاص، ويقول عن هوايته “كنت أقرأ عن معالم القدس وأتحقق مما قرأت ميدانيا، كنت أشتري الكتب من بائع أتى من حيفا ليبيع قرب باب العامود، قرأت في معظم المكتبات بالقدس؛ في المكتبة الأميركية، ومكتبة المتحف الفلسطيني، ومكتبة الدومنيكان، كنت أجلس في المكتبة سبع ساعات متواصلة، وأغادر مضطرا لألحق بالحافلة الأخيرة باتجاه بيتي”.
مسيرة علم حافلة جمع خلالها في بيته ومؤسسة إحياء التراث آلاف الكتب، مكوّنا نواة مكتبة نقلها إلى مقر جريدة الفجر بالقدس التي أغلقت عام 1993، وطُلب منه أن يُحافظ على إرثها ومنشوراتها. وإضافة إلى كتبه ومنشورات الفجر، أضافت مؤسسة جمعية الدراسات العربية (بيت الشرق) منشوراتها أيضا، وتملكت المكان وسلّمت مفاتيحه لفهمي الأنصاري، الذي أصبح أمينا لمكتبة زودها بالدوريات والمخطوطات والدراسات والموسوعات لتستقبل طلبة الجامعات والصحفيين والمثقفين، وكانت –على صغر مساحتها- ملتقى للباحثين الذين استنجدوا بالأنصاري ليزودهم بالمراجع والمصادر الشاملة. ديون الاحتلال تغلق المكتبة
ديوان الاحتلال تغلق المكتبة :
أغلق الاحتلال عام 2001 بيت الشرق مالك مقر المكتبة، فتراكمت ديون ضريبة “الأرنونا” على المكتبة، حتى وصلت إلى نحو 750 ألف دولار، وتوجهت أصابع الاتهام نحو الأنصاري ليدفع هذه الأموال، رغم أنه كان مجرد أمين للمكتبة وليس مالكا للمكان، حتى أُجبر عام 2014 بضغوط من بلدية الاحتلال ومعاملة سيئة من أحد جيران المكتبة على إغلاق المكان وتفريغ الكتب منه. منذ خمسة أعوام يتعرض الأنصاري للملاحقة القانونية، ويبحث عن مكان يأوي العدد الضخم من كتبه، التي راكم ما استطاع منها في بيته الصغير وغرفة نومه ومعيشته، ووضع ما تبقى في صناديق كرتونية بغرفة مهملة ببلدة العيساوية بالقدس استطاع توفيرها بشق الأنفس.
حاول الأنصاري مرارا لمّ شمل كتبه القيّمة، كما تلقى وعودا بمساعدته على إعادة افتتاح مكتبته من جديد، لكنه لم يشهد تطبيقا أو تلبية على أرض الواقع.
أنجب من الأبناء ستة، ويضيف إليهم أبناءه من الكتب التي يتألم على حالها المشتت المهمل، ويختم متنهدا “أشعر بالقهر، لم تبق لدي ثقة في العمل الوطني الفلسطيني، كل وعود المساعدات كانت كلاما بلا فعل، أشعر بأنني بلا سند أو عضد.