الواجهةثقافة وفنون ومؤلفات

في الحاجة إلى عبد الوهاب المسيري : “إسرائيل” من منظور معرفي.(ج5)

بقلم : محمد همام

    طور عبد الوهاب المسيري النموذج المعرفي، ومفاهيم تفسيرية عديدة؛ مثل: النموذج الإدراكي التفسيري، و: أكثر تفسيرية و: أقل تفسيرية، و: التفكيك والتركيب، والنموذج الاختزالي، والنموذج المركب، والصورة المجازية، والمبدأ الواحد، والتجاوز والتعالي في مقابل الحلول والكمون، والإنسان الاقتصادي والإنسان الجسماني، والحوسلة، والواحدية المادية، والحلولية الكمونية الواحدية، ووحدة الوجود الروحية والمادية، والمرجعية المتجاوزة والمرجعية الكامنة، والشعب العضوي، والشعب العضوي المنبوذ، والجماعة الإثنية، ونهاية التاريخ، والعلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، والرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية، و الجماعة الوظيفية، والدولة الوظيفية، والدولة الصهيونية الوظيفية، والتاريخ اليهودي، وتواريخ الجماعات اليهودية، والشخصية اليهودية، والرأسماليةاليهودية، والجماعات اليهودية، والتركيب الجيولوجي التراكمي، والصهيوني الملحد، واليهودي الإثني، والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، والترانسفير، والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة المهودة، والديباجات الصهيونية المختلفة، والصهيونية الاستيطانية، والصهيونية التوطينية، والصهيونية الإثنية العلمانية والدينية…

    وقد وظف المسيري هذه المفاهيم في دراسة ( ظاهرة إسرائيل)، وهي منتشرة في كل مشروعه البحثي. وتكاد ( إسرائيل) تكون حاضرة، بشكل مباشر أوبشكل غير مباشر، في جل كتبه، باعتبارها التيمة المركزية لكل أبحاثه. وتمتد أبحاث المسيري في مجالات : علم اجتماع المعرفة، وفي السوسيولوجيا، وفي الدراسات الثقافية، وفي الدراسات مابعد الكولونيالية، وفي الٱداب، وفي التاريخ…

    وقد تشكل النموذج البحثي للمسيري في سياق عرف هزيمة العقل العربي والإسلامي أمام العقل الصهيوني؛ وبقدر ضياع الأول وتيهه، بقدر تمدد الثاني؛ تمدد على مستوى التأثير والتوسع، بعد أن احتل الأرض، واقتلع السكان الأصليين، وأتخن العرب والفلسطينيين، قتلا وأسرا. في هذا السياق عجز العقل العربي والمسلم عن فهم ماجرى بشكل موضوعي، وبشكل معرفي، فالتجأ إلى تاريخه يستدعي مدوناته التفسيرية والحديثة الهجينة والملتبسة من حيث تشكلها وتدوينها وتقعيدها، ومن حيث اتجاهاتها وتحيزاتها. وإذا أعوزته صنع أساطيره، أو استعارها من بعيد، لفهم ( إسرائيل). وإذا كان المسيري قد تصدى في مشروعه البحثي لأساطير العقل العربي والمسلم المستعارة في فهم( إسرائيل)، فإنه لم يتطرق في مشروعه البحثي لدور الاستدعاء غير المعرفي للتاريخ، وللمدونة التراثية، في تشويه الوعي بالظاهرة. وهذا الأمر مرتبط في مشروع المسيري، بمحدودية اطلاعه على المدونة التراثية، وهو ليس عيبا في المشروع، بقدر ما يعبر عن حاجته إلى أبحاث داعمة له في مجالات أخرى، خصوصا في ما يتعلق بحضور اليهود، و بنو إسرائيل، في المدونة التراثية، وأثر ذلك على فهم ( ظاهرة إسرائيل) اليوم!
يعيش العقل المسلم في النظر إلى ( إسرائيل) خلطا كبيرا، من خلال الحضور الملتبس لليهود وبني إسرائيل في المدونة التراثية، خصوصا التفسيرية والحديثية، والتي سحبت إليها مجموعة من الٱيات القرٱنية والٱحاديث النبوية، وعومتها داخل ركام من الأخبار والأحداث والوقائع والروايات، فأضاعت الرؤية القرٱنية التركيبية، وأهدرت العناصر المنهجية في التجربة النبوية، في التعامل مع أهل العقائد والمذاهب المخالفة للإسلام، ومن ضمنهم أهل الكتاب، وفي موضوعنا هذا: اليهود. فالصورة التراثية الموروثة عن اليهود أضعفت الرؤية المعرفية ل( ظاهرة إسرائيل)، وعززت النظر غير العلمي، والسكون إلى الصيغ البسيطة في التحليل. ووقع المزج، الواعي أو غير الواعي، بين الرؤية التراثية الموروثة وبين الأساطير المستعارة، لتشكل معمار رؤية، هي السائدة وسط قطاع واسع من العرب والمسلمين؛ وهي : ( المؤامرة اليهودية) على المسلمين، و( حكومة اليهود الخفية) التي تحكم العالم، و( بروتوكول حكماء صهيون)، و( الحكومة السرية) ، و( الأيادي الخفية)…وغيرها من التعبيرات، والتسميات، التي تؤكد على أن ( إسرائيل) كائن أسطوري، بقوة غير محدودة! وقد سعى المسيري إلى نزع هذا الطابع الأسطوري عن ( إسرائيل)، عبر مقاربته المعرفية، مما سنعرضه، ولكن بعض عرض الرؤية التراثية الموروثة التي رسخت هذا الطابع، وحالت دون تفكير علمي موضوعي في الموضوع، وهو ماسعى المسيري إلى إنجازه.

    تتشكل رؤية المسلم المعاصر اليوم ل( إسرائيل)، في ظلال مصطلح اليهود ومصطلح بني إسرائيل كما وردا في القرٱن الكريم. فسورة المائدة تقدم اليهود باعتبارهم أهل ادعاء وكذب؛” وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم”المائدة/18، ” وقالت اليهود يد الله مغلولة”، المائدة/64. وأنهم أهل عصيان واعتداء؛” لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون” المائدة/78. ” واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت” الأعراف/163. وأن الله غاضب عليهم؛” قل أأنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل” المائدة/60. وتصفهم ٱل عمران بأنهم أهل ذلة؛” ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا” ٱل عمران/112. وأنهم أهل خيانة كما في معركة الأحزاب، ” وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتاسرون فريقا” الأحزاب/26. وأكثر الٱيات تداولا اليوم من لدن العقل المسلم المعاصر ٱية: ” لتجدن أشد الناس عداوة للذين ٱمنوا اليهود والذين أشركوا.” المائدة/82، وٱية: ” يا أيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض.” المائدة/51. وكذلك حديث: ” لاتقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر أو الشجر فيقول الحجر أو الشجر يامسلم ياعبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود”، (رواه مسلم2922). ولكن في مقابل هذه الٱيات والأحاديث، توجد أخرى خصوصا في سورة البقرة تقدم بني إسرائيل على أنهم ممن أنعم الله عليهم؛ ” يابني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوفي بعهدكم.” البقرة/40، وقوله تعالى: ” يابني إسرائيل أذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين.” البقرة/47. وأن منهم الصالحون؛ ” إن الذين ٱمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من ٱمن بالله واليوم الٱخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولاخوف عليهم ولاهم يحزنون.” البقرة/62. وأنهم ليسوا سواء منهم القائمون بتلاوة ٱيات الله؛ ” ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون ٱيات الله ٱناء الليل وهم يسجدون.” ٱل عمران/113. وجاء جزء من المدونة الحديثية داعيا إلى أخذ المعرفة من بني إسرائيل؛ ” بلغوا عني ولو ٱية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج.” ( رواه البخاري، وأخرجه مسلم، والنسائي، والإمام أحمد).

    إنه بالقدر الذي يقدم القرٱن الكريم نظرة واقعية وموضوعية ومتوازنة لليهود ولبني إسرائيل، في سياقات وأحداث متنوعة، بقدر ماسعت المدونة التفسيرية والروائية إلى تقديم رؤية أحادية ومتحيزة، لاتساعد اليوم على النظر المعرفي إلى ( الظاهرة الإسرائيلية)، بل تعمق الهزيمة الذاتية، وتضعف الإمكانات التفسيرية والتحليلية والنقدية للعقل العربي والمسلم.
(يتبع).

Abdeslam Hakkar

عبد السلام حكار مدير الموقع وصحفي منذ 1998 عضو مؤسس بالتنسيقية الوطنية للصحافة والإعلام الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى