أخبارالواجهة

لماذا تضخمت العوامل الموضوعية وتخفت أخطاء الذات؟ في مناقشة محمد يتيم.

 

د. بلال التليدي 
عن موقع الجزيرة.
تعودت إسلاميو المغرب أن يلجؤوا إلى قواعدهم للتفكير في أطروحة جديدة تجيب عن أية عوامل جديدة لكن هذا لم يحصل في 2021 م.
كتب الأستاذ محمد يتيم مقالا مهما -نشره موقع الجزيرة نت– قدم فيه وجهة نظره من “مقولة فشل الإسلاميين ونهاية الإسلام السياسي”، وحاول الانتصار لفكرة تجدد دورة التنظيمات الإصلاحية التي تتأسس على العقائد، ونبه إلى ضرورة الوعي بالشروط الموضوعية التي أسهمت في التراجع الانتخابي للإسلاميين بالمغرب، وأن التراجع الانتخابي، لا يمكن أن يعد حجة في إثبات مقولة فشل مشروع الإسلام السياسي.
لم يأخذ المقال أي طبيعة نظرية تجادل الأطروحات التي تبنت فشل الإسلام السياسي، كما هي عند أطروحة جيل كيبل، أو أطروحة أوليفي روا، أو فكرة ما بعد الإسلاميين عند آصف بيات، بل انطبع المقال بطابع سجالي، يغلب عليه تصنيف حاملي أطروحة فشل الإسلاميين وترتيب حججهم، ومحاولة مدافعتها بحجج متفاوتة، تنطلق تارة من طبيعة الإسلاميين العقائدية، وتنحو تارة أخرى منحى التماس المشكلة في طبيعة الفهم للنسق السياسي، أو لطبيعة التجربة الديمقراطية ومواصفاتها، أو لقواعد الديمقراطية ذاتها، التي تتأسس على فكرة التداول، وفكرة الفوز والخسارة الانتخابية.
وقد تابعت مقال الدكتور هشام بن جعفر النقدي، وكنت أتوقع أن يلامس رده الجوانب المركزية في مقال الأستاذ محمد يتيم، لكنه لم يمس البنية النسقية للمقال، إلا ما كان من تنبيه إلى ضرورة التمييز بين الإسلام وتمثلاته وتطبيقاته، والتأويل الذي تحمله الحركات الإصلاحية عن رسالة الإسلام في الحياة، فهذا التنبيه مهم، وأتصور أن جزءا من موطن الخلل في مقال محمد يتيم يأتي من قِبله، بحكم أنه قام بعملية تشبيه غير مستساغة بين كسب الأنبياء ونتائج دعوتهم كما يقررها القرآن، وبين كسب المصلحين والحركات الإسلامية والإعراض الذي يمكن أن تلاقيه من المجتمع، بحجة الاشتراك في الانطلاق من العقيدة والمبادئ.
يقدم محمد يتيم مرافعة فكرية وسياسية عن تجربة انتهت إلى فشل انتخابي كبير، باحثا عن الخلل خارج الذات، فالأمر ربما لا يكون سقوطا، بل إسقاطا، وقد يكون نتيجة تدخل سلطوي أخل بنزاهة الانتخابات، أو لهشاشة في التجربة الديمقراطية، أو لانسدادات سياسية، ضيقت خيارات الإسلاميين، وهذا كله أنسب عنده من الخروج بنتيجة عنوانها “فشل الإسلاميين ونهاية مشروعهم السياسي”.
لا أريد التوقف طويلا عند هذه النقطة، لأنها لا تحمل فقط محذور التطابق بين الإسلام وبين مشروع الإسلاميين، بل لأنها تخلق أيضا القناعة بأن المشكلة في العوامل الموضوعية، وأنها لا ترتبط بمشكلة في الذات الحركية، وقصور في استيعابها لطبيعة النسق السياسي، وطبيعة الدور الذي يفترض أن تقوم به، والخيارات المتاحة أمامها، والتقدير السياسي الصحيح والدقيق الذي ينبغي أن تعتمده في حال حدوث متغيرات جوهرية في السياسة أو في التجربة الديمقراطية.
تشخيص الخلل خارج الذات
النقطة الثانية التي تحتاج إلى مناقشة في فكرة تشبيه الحركات الإصلاحية بالأنبياء في قضية عدم الاستجابة المجتمعية لدعواتهم تتمثل في عدم الربط بين الهزيمة الانتخابية وهزيمة المشروع السياسي للحركات الإصلاحية، وأن هذا المشروع ما دام يستند إلى العقيدة، فإن الهزيمة الانتخابية، في ظل نظام التداول الديمقراطي، لا تعني أكثر من عدم توفر الشروط الموضوعية، أو وجود مشكلة ما في التجربة الديمقراطية، أو وجود هشاشة في التجربة السياسية، تحكم على الإسلاميين بضيق مساحات المناورة.
واضح أن السيد محمد يتيم يتحدث من موقع تجربة سياسية انتهت إلى فشل انتخابي كبير، واضطرته إلى تقديم استقالته كجزء من قيادات الأمانة العامة لحزبه بعد صدور نتائج 2021، وهو يقدم مرافعة فكرية وسياسية عنها، ويبحث عن تشخيص الخلل خارج الذات، فالأمر -حسب يتيم- ربما لا يكون سقوطا، بل إسقاطا، وقد لا يكون فشلا بل إفشالا، وقد يكون الأمر ناتجا عن تدخل سلطوي بانتهاك لقواعد الديمقراطية أخل بنزاهة العملية الانتخابية، وقد يكون بسبب هشاشة في التجربة الديمقراطية، وقد يرجع إلى حدوث انسدادات في بنية السياسة، بالنحو الذي ضاقت فيه خيارات الإسلاميين بشكل كبير، وأن الأنسب -وفقا ليتيم- هو استيعاب هذه العوامل الموضوعية، بدل الخروج بنتيجة كبيرة عنوانها فشل الإسلاميين ونهاية مشروعهم السياسي.
واضح أن هذه الاعتبارات الموضوعية ممكنة الحدوث، وقد تؤثر بشكل جدي على سلوك الفاعل السياسي الحركي، خاصة منه الذي تعوّد على تلافي الصدام مع السلطة كما هي الحالة المغربية، لكن مهما يكن الأمر، ففي مثل هذه الحالات، تعودت الحركة الإسلامية المغربية أن تلجأ إلى قواعدها من أجل التفكير في أطروحة جديدة، تجيب عن هذه العوامل الموضوعية بشكل جماعي ومؤسسي، وتحدد الأولويات التي ينبغي اعتمادها، بما في ذلك إعادة ترتيب أولويات المشروع الإسلامي، وضبط حجم السياسي فيه. ففي ظل وجود مؤشرات مقلقة للتراجع الديمقراطي، وتبلور قناعة داخل القيادة بمستوياتها المختلفة، بإمكان تعرض العملية الانتخابية للمس بنزاهتها، فالأنسب عندها التفكير في أفق المشاركة، وهل تتم المشاركة بمنطق الخسارة -حسب تعبير السياسي والأكاديمي المصري عمرو حمزاوي- أم يتم الاشتغال على تقدير سياسي مختلف يراعي طبيعة المرحلة، بالنحو الذي يجنب المشروع السياسي للإسلاميين النكسة الانتخابية المذلة؟
توقف التكيف عند نقطة محددة
عام 2008، تداعى إسلاميو المغرب لحوار داخلي، انطلق على إيقاع بروز مؤشرات للتراجع الديمقراطي، وبوادر تأسيس حزب أغلبية برعاية السلطة (حركة لكل الديمقراطيين التي ستفرز فيما بعد حزب الأصالة والمعاصرة)، وتبنى الإسلاميون وقتها وبشكل جماعي جوابا سياسيا يرى أن الأنسب للمرحلة هو النضال الديمقراطي. وفي سنة 2012، حدثت تعديلات مهمة على أطروحة الإسلاميين، ووقع التكيف مع المرحلة الجديدة (مرحلة المشاركة في السلطة من موقع قيادة الحكومة)، وشارك الأستاذ محمد يتيم بقوة في صياغة مفردات هذه الأطروحة الجديدة، التي عدّلت مفهوم “النضال الديمقراطي” إلى مفهوم “الشراكة في البناء الديمقراطي”، وكان يحاجج بكل قوة، ويرى أن أطروحة “البناء الديمقراطي” لا تعني القطيعة مع أطروحة “النضال الديمقراطي”، بل تعني استكمال هذا النضال من موقع جديد.
المعطيات الموضوعية التي جاء مقال محمد يتيم يعلق عليها الفشل لم تكن في الواقع جديدة ولا طارئة، ولا هي حتى خلاصات عملية تداولية تقييمية أجراها تنظيمه الحزبي بعد النكسة الانتخابية، بل لقد شكلت جزءا من المعطيات الصادمة التي ظل عدد مهم من قيادات حزبه ينبهون إليها، من دون أن تشكل أرضية للتداعي لحوار داخلي جاد يرسم معالم المرحلة وطبيعة الأدوار التي يفترض أن تناط بالعمل السياسي. بل إن الحوار الداخلي، الذي تم فتحه عقب تولي الدكتور سعد الدين العثماني للأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية توجه إلى فرض قناعات القيادة الجديدة، وكانت كلها تؤكد عدم حدوث أي متغيرات تؤثر على التجربة، وأن تجربة العثماني تسير على نفس نسق تجربة عبد الإله بن كيران، وأنه لا وجود لأي مؤشر على أن التجربة الديمقراطية ستضيق بالإسلاميين، وتضيق خياراتهم.
” التنظيمات الإصلاحية الحية تعدّل خياراتها في اللحظة التي تلاحظ حدوث تغير في البيئة السياسية، ولا تحتاج إلى أن تساير الخيارات التقليدية، ثم تأتي بعد النكسة لتعلقها على العوامل الموضوعية، وتبرئ الذات، وتشبه واقع الفشل الانتخابي بعدم استجابة المجتمعات لدعوات الأنبياء”.
بل حتى الصياغات التي قدمها السيد محمد يتيم في مخرجات الحوار الداخلي كانت تميل إلى التعميم والتبرير، فالتراجع الديمقراطي ليس سمة التجربة المغربية، وإنما هي حالة عامة في الوطن العربي، وأن السياسات الدولية والإقليمية تسير في ترسيم هذا الاتجاه. المفارقة أنه غداة العملية الانتخابية نفسها، لم يشعر السيد محمد يتيم والقيادة معه بأن النسق السياسي بصدد توديع زمن الإسلاميين بشكل دراماتيكي.
الحاجة لأطروحة فكرية جديدة
يصعب أن نقرأ مقال الأستاذ محمد يتيم من غير استحضار هذه المعطيات الداخلية، التي ترتبط كلها بفكرة أطروحة الحزب الجديدة. فثمة فرق كبير بين الوعي المسبق بشروط المرحلة، وبروز مؤشرات مقلقة تخص هشاشة التجربة الديمقراطية، ووجود مزاج عالمي وإقليمي أو حتى محلي يسير في اتجاه معاكس لإرادة الإسلاميين، وما يستلزمه ذلك من بناء أطروحة فكرية تحدد خيارات العمل، بما في ذلك طرح إمكانية مراجعة أولويات العمل برمتها، وبين المضي في خيارات ومسالك سياسية غير متوافق حولها، ثم الإتيان بعد النكسة باجتراح معاملات موضوعية، لم تكن أبدا موضوع مدارسة، ولا استفزازا داخليا للتداعي للتفكير الجماعي في أفق العمل.
لقد كان من الممكن الوصول إلى الخلاصة التي انتهى إليها محمد يتيم حين قال بأنه في ظل الهشاشة الديمقراطية، يكون الأفضل توجيه فعل المشاركة السياسية لإبراز عيوب الأوضاع، والنضال من أجل دمقرطة الحياة السياسية، وذلك قبل حدوث النكسة الانتخابية، فالتنظيمات الإصلاحية الحية تعدّل خياراتها في اللحظة التي تلاحظ حدوث تغير في البيئة السياسية، ولا تحتاج إلى أن تساير الخيارات التقليدية، وتستبعد “قسرا” كل المؤشرات المقلقة الدالة على التهديد الذي يمس التجربة الديمقراطية، ثم تأتي بعد النكسة لتعلقها على العوامل الموضوعية، وتبرئ الذات، وتشبه واقع الفشل الانتخابي بعدم استجابة المجتمعات لدعوات الأنبياء، فالأنبياء لم يعهد عليهم أنهم تركوا مبادئهم الإصلاحية، وتبنوا مواقف وقرارات أودت بهم إلى نسف جزء كبير من مصداقيتهم.
* د. بلال التليدي
باحث مغربي متخصص في دراسة الحركات الإسلامية.

Abdeslam Hakkar

عبد السلام حكار مدير الموقع وصحفي منذ 1998 عضو مؤسس بالتنسيقية الوطنية للصحافة والإعلام الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى