الدكتور محمد فخرالدين يكتب : ”
“في التعارض الثقافي بين ثقافة التكافل وثقافة الهمزة والوجبة أو استغلال الأزمات في الربح”
تقديم:
تتسع الأنثروبولوجيا لتشمل مختلف المظاهر الثقافية التي تتحكم في سلوكات الإنسان في مختلف الأحوال في حلات الحزن والألم ولحظات الفرح ..
لقد ظهر تضامن واسع بين الناس في هذه الظروف الصعبة ، وشمل التضامن كل أرجاء الوطن وساهم الموطنون خارج الوطن وحتى الأجانب في مد إخوانهم بالعون …وهي ظاهرة ايجابية أظهرت المعدن الأصيل للمغاربة ..
ومع ذلك فهذه الظاهرة ليس متيسرة للفهم الظاهر والبسيط ، بل يلزمها التعمق في فهم طبيعة هذه الروح المواطنة ـ التي تنبجس في هذه الأحوال ووقت الحاجة ـ وقيم التنشئة الاجتماعية المنتجة لها والضاربة في التاريخ الجمعي ..
ففي الوقت الذي لاحظنا حتى زمن قريب تراجع قيم التضامن في الأحوال العادية لأسباب متعددة منها الأزمات الاقتصادية وتراجع قيم القرابة وظهور الأسر النووية ، حيث أصبح عاديا ملاحظة الكثير من الظواهر اللامدنية التي يغذيها الجشع والطمع ..كالعنف ومظاهر التسول والاعتداء على الغير بالعنف..
بل نحن نلاحظ بعض الظواهر السلبية المحدودة حمدا لله ، حتى داخل الازمة تغذيها ثقافة موجودة للأسف تبنى على استغلال الحاجة وتسمى اجتماعيا بعدة مصطلحات كالهوتة والوجبة والهمزة ، الدجاحة وكامونها ، وقرصة في الفكرون و ما يفلتش ، والسائدة على شكل انتهاز الفرص واستغلال ماسي الغير ..مصائب قوم عند قوم فوائد ، التي يروج لها بعض الأفراد الذين يفكرون في الاغتناء والربح السريع وينقصهم الوعي الوطني والإنساني …
إن تواجد ثقافة التضامن وتأججها في هذه الظروف حيث عانق سكان السهول سكان الجبال في تضامن مطلق ، جنبا لجنب مع ثقافة استغلال الظروف وانتهازها للحصول على منافع على حساب الغير كما في حالة زيادة في أسعار الخيام .. يجعلنا نستنتج أن هناك ثقافتين في نفس الوقت تتعارضان وتتواجهان على مستوى السلوك والواقع .. ثقافة غيرية تضامنية وثقافة شخصية أنانية تريد أن تستفيد من اللحظة ومن الأزمة ..
ثقافة ايجابية وثقافة سلبية :
ثقافة التضامن والتكافل الموروثة من تراثنا والتي تتمظهر حديثا من خلال مختلف الجهات الرسمية والغير رسمية ، الجمعيات ذات الطابع الإنساني والأفراد المتشبعين بروح الوطنية والتي من شانها أن تخفف عن الضحايا وتساعدهم ، تقابلها ثقافة انتهازية أنانية تفكر في استغلال الأزمة والمآسي لأغراض متعددة شخصية انتخابوية وسياسية ربحية وسبق إعلامي ، وهي بذلك تعزز عدم الثقة داخل المجتمع ونوعا من الفصام الاجتماعي ، لأن التضامن لا يجزأ بل ينبغي أن يشمل المتضررين من الفقر والحاجة في كل مكان ، وكثير من الأخبار الواردة من منطقة الكارثة والتي نقلتها وسائل التواصل الاجتماعي تؤكد ذلك …
لذلك ينبغي أن نحذر من هذه الثقافة المستترة التي تغذيها ثقافة الأنانية وتراجع القيم والتضامن وثقافة الاستهلاك والأنانية المفرطة واستغلال حاجة الناس في بيع الخدمة واحتكارها …..
ثقافة الوجبة هي استغلال الشخص الخدمة التي يقدمها وظروف الناس من أجل أن يربح أكثر ماديا أو بأي شكل يحصل من خلاله منفعة غير مشروعة ، كلما كانت الحاجة والطلب أكثر بتبريرات متعددة…
فهناك من يستغل الوباء في تحقيق إرباح طائلة ـ ومن يستغل حوادث السير للاغتناء بطريقة غير مشروعة ، ومن يستغل حتى الأعياد والمناسبات … كمقدمي خدمة النقل الذين يضاعفون السعر في الأعياد مستغلين حاجة المواطنين ..
لا يمكن أن نغمض الجفن عن هذه الممارسات وقد اختلط فيها الحابل بالنابل .. وفي انتظار تقنين صارم وتدخل لحماية جيوب المواطنين وبناء مجتمع متكافل …
تمر الحوادث وتنسى مع الزمن ، لكن تتكرر نفس الأخطاء بتكريس ثقافة الأزمة واستغلال ثقافة الجموع .. وعدم دراسة مختلف هذه الظواهر دراسة علمية وموضوعية بعيدا عن العاطفة .. من خلال التأمل ومحاولة الفهم ..
ففي حوادث السير قد يستغل بعض المنحرفين الفرصة للاستيلاء على أملاك الضحايا ومنقولاتهم حسب شهادة البعض، ونسمع عن سرقة بعض الإعانات في حملات التضامن، وعن تحويل اتجاهات بعض المساعدات العينية واحتكارها لبيعها من جديد ، وخلق حسابات وهمية لجمع الإعانات وهو ماتم التصدي له في حينه، والتسابق على أخذ صور مع الضحايا لأسباب استشهارية، والتباهي في بعض الحالات بتقديم المساعدات والصدقات ، وما قد يفهم من تعزيز السير الذاتية انتخابيا وسياسيا بزيارة المناطق المنكوبة ..
واذا كانت حملات التضامن والتآزر قوية ومتميزة ولها بعد وطني وإنساني ، فان بعض هذه السلوكات التي وصلت إلى حد غير مقبول حسب بعض الشائعات الغير المتأكد من صحتها كالاتجار في البشر واستغلال الأطفال، تظهر الوجه الآخر السلبي للثقافة الأخرى المسكوت عنها ، الربحية والانتهازية التي لا تسير على خط واحد مع سابقتها ، وتبقى قناعات الأشخاص، والنية الصادقة التي أبان عنها معظم الناس هي الأساس في تأسيس حقيقة التضامن والتعاون وترجمته ميدانيا إلى فعل إيجابي ملموس ممتد في الزمان والمكان ، وهو ما ظهر جليا على مستوى الواقع من خلال كل الشجعان من مختلف الجهات الذين غامروا بأنفسهم في إنقاذ الناس أو في المساهمة المادية المتعددة الأشكال ..
وفي المقابل نجد الحديث عن أشكال سلبية تجسد ثقافة الهمزة والهوتة والوجبة التي يؤمن بها البعض من خلال بعض الأخبار المتداولة التي تذكر أنه “رغم الجهود الوطنية الكبيرة التي يبذلها الشعب المغربي لمساعدة ضحايا الزلزال الذي ضرب عددًا من المناطق في البلاد، كشفت معطيات مثيرة عن وجود مضاربة في أسعار السلع والمواد الأساسية التي تُستخدم بكثرة خلال حملات التضامن”.
“تجار المآسي” يستغلون حملات التضامن مع ضحايا زلزال الحوز يتأكد وجود هذه الثقافة السلبية وتناميها في سلوك البعض الذين لا يميزون بين أوقات الكوارث أو غيرها .. بل ما يهمهم هو استغلال الغير والحصول على الربح باستغلال الأزمات ..”.
“إن حملات التضامن الواسعة التي يقودها المغاربة لدعم إخوانهم ضحايا الزلزال المدمر الذي ضرب مجموعة من المناطق في البلاد تعرف نوعا من المضاربة في أسعار السلع والمواد التي يتم الإقبال عليها بكثرة، حيث استغل بعض المضاربين هذه الظرفية من أجل القيام بزيادات غير معلنة لجني المزيد من الأرباح على حساب جيوب المحسنين”.
ودعت مجموعة من المصادر ” إلى التدخل العاجل من طرف السلطات المعنية للحد مما وصفته بالتجاوزات التي تعرفها عمليات بيع مختلف السلع والمواد التي يتم الإقبال عليها بكثرة من طرف بعض المحسنين في إطار حملات التضامن”.
وهو ما تم فعلا في عدد من الحالات ، كما “عت الجهات المعنية بمراقبة أسعار السلع والمواد الأساسية بعناية وضمان توافرها بأسعار معقولة ومناسبة للجميع خلال هذه الفترة الحساسة، وعليها أيضًا التعاون مع المنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني لضمان أن المساهمات والتبرعات تصل بفعالية إلى من يحتاجون إليها دون تجاوزات”.
“ويقود المغاربة جهودًا واسعة النطاق لدعم إخوانهم المتضررين، لكنهم يواجهون تحديًا جديدًا يتعلق بارتفاع أسعار بعض السلع بشكل غير مبرر “.
وحذرت ذات الجهات من “فوضى حملة جمع المساعدات من طرف كل من هب ودب، داعية إلى تدخل السلطات المعنية بحزم من أجل تتبع هذه العمليات بشكل دقيق وإخضاعها إلى مراقبة خاصة للتأكد من هوية الجهات التي تقوم بها، ومعرفة الوجهة الحقيقية التي توجه إليها تلك الأطنان من المساعدات التي يتم جمعها”.
“وتشير الأخبار الواردة إلى ضرورة الإسراع بالتدخل من أجل سد الطريق أمام بعض المتلاعبين المحتملين الذين قد ينتهزون هذه المناسبة من أجل تحقيق المآرب وجمع الأموال على حساب ضحايا الزلزال، مستغلين الانخراط الواسع في حملة التضامن والتآزر التي يشارك فيها العديد من فاعلي الخير والمحسنين من أفراد الشعب المغربي”.
“وبحسب المعلومات المتاحة، استغل بعض التجار هذه الفرصة الإنسانية النبيلة لزيادة أرباحهم على حساب المحسنين الذين يسعون جاهدين لمساعدة المتضررين، حيث قام بعض المضاربين برفع أسعار السلع والمواد التي تشهد إقبالًا كبيرًا من قبل المتبرعين، وهذا يشمل الغذاء الأساسي والأدوات الضرورية للحياة اليومية، بالإضافة الى الأغطية والأفرشة”.
خاتمة:
إن فهم هذا التضارب الثقافي مهم جدا في تخطيط السياسات العمومية مستقبلا ، لأن شيوع ثقافة الهمزة والوجبة والهوتة .. قد يعيق نجاح بعض البرامج التنموية ، فيستفيد من ليس له حق الاستفادة وتضيع الكثير من الموارد دون أن تصل إلى مستحقيها ..
إن هذه التجاوزات ـ التي قد تشوش على حملات التضامن الصادقة ، التي يقدم فيها المغاربة الدعم والمساعدة لإخوانهم المتضررين من الزلزال، و“تعتبر جزءًا من الروح الوطنية والتكافل التي تميز الشعب المغربي” ـ ، تعبر فعلا عن ثقافة سلبية متمكنة من بعض النفوس ..
ويظهر للمتأمل في الأحداث يقينا هذه المواجهة الاجتماعية والثقافية بين ثقافتين متعارضتين تمتحان من مرجعيتين مختلفتين تماما : ثقافة التضامن التي تمتح من الأصالة المغربية والتراث الإنساني، وثقافة الأنانية والانتهازية التي تمتح من الفردانية والأنانية المفرطة والرغبة في تحقيق الربح السريع والمتاجرة في المآسي .
ولا يفوتنا في هذا الخصوص تقديم الشكر لكل الجهات التي جسدت ُثقافة التضامن في أبهى صورها ، وطلب الرحمة والمغفرة لكل الشهداء .. وتبقى القراءة الانثروبولوجية التي تكشف حقيقة الظواهر والسلوكات الاجتماعية وطبيعة الثقافة التي تتحكم فيها وتوجهها في مختلف الأحوال ، إلى جانب قراءات أخرى طبعا ، مجالا خصبا لإضاءة طريق السياسات العمومية لمواجهة مختلف الصعوبات والأزمات والحاجات الحقيقية ، واستحضار مختلف الاحتمالات من أجل إنجاح أي مشروع تنمويو ضمان استمراريته ..
بالفعل استغلال الظرفية.تحياتي لك صديقي العزيز