الغرب يرصّ صفوفه: ضوء أخضر لـ«إسرائيل»
منقول عن موقع : حبر.
منذ أن استوعبت حكومة الاحتلال، متأخرةً، ما جرى نهار السبت الماضي، وخرج رئيسها معلنًا الحرب، تداعى ممثلو الحكومات الغربية واحدًا تلو الآخر لإعلان تأييد بلادهم غير المشروط لـ«إسرائيل» في وجه هجمات المقاومة في غزة، مقدمين ضوءًا أخضر لإطلاق اليد الإسرائيلية في القطاع.
كانت الإدارة الأمريكية بطبيعة الحال أول هؤلاء «المتضامنين» وأشدهم لهجة. فبُعيد خطاب نتنياهو الأول في «اليوم الأسود»، خرج الرئيس الأمريكي جو بايدن في كلمة قال فيها إنه أكد لنتنياهو في مكالمة هاتفية وقوف بلاده إلى جانب «إسرائيل»، كما وقفت معها «منذ اللحظة التي أصبحت فيها الولايات المتحدة أول أمة تعترف بإسرائيل، بعد 11 دقيقة من تأسيسها، قبل 75 عامًا». ولم يفُت بايدن أن يكرر لازمة أن «لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها وعن شعبها. نقطة».
أشار بايدن في كلمته أيضًا إلى أنه حثّ فريق الأمن القومي الأمريكي على التواصل مع نظرائهم الإسرائيليين «لضمان أن لدى إسرائيل ما تحتاجه»، ودعا موظفيه لتكثيف الاتصالات الأمريكية في المنطقة، بعدما اتصل هو بالملك عبد الله الثاني.
ففي أعقاب الكلمة، صرّح وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن بأنه اتصل برئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس قائلًا إن «على جميع قادة المنطقة إدانة» هجمات المقاومة. كما تواصل بلينكن مع نظيره السعودي فيصل بن فرحان داعيًا «لتنسيق الجهود من أجل وقف فوري» للهجمات، ومع نظيره المصري سامح شكري، معبرًا عن تقديره لما أسماه «جهود مصر المتواصلة» من أجل إيقاف هجمات المقاومة. وفي الإطار نفسه، اتصل بلينكن بوزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي، ورئيس الوزراء القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ووزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد. وشملت اتصالات بلينكن أيضًا نظراءه في كل من تركيا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا، إضافة لممثل الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، جوزيب بوريل.
عسكريًا، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أنها ستمد «إسرائيل» بكل ما يلزمها من معدات وذخائر لمواجهة حماس. وقال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إنه وجّه حاملة الطائرات «يو إس إس جيرالد آر فورد» والسفن الحربية المرافقة لها إلى شرق البحر الأبيض المتوسط لدعم «إسرائيل» وتعزيز قدراتها العسكرية. وأضاف أوستن أن الولايات المتحدة تعمل على تعزيز جهوزية «أسراب الطائرات المقاتلة التابعة للقوات الجوية الأميركية من طراز F-35 وF-15 وF-16 وA-10 في المنطقة».
ليس هذا الدعم جديدًا بأي حال. إذ تتلقى «إسرائيل» من الولايات المتحدة 3.3 مليار دولار سنويًا من برامج الدعم العسكري، من أجل ضمان وتثبيت «تفوقها العسكري النوعي» على دول المنطقة. وفي عام 2021 بلغت نسبة المساعدات المقدمة لـ«إسرائيل» قرابة 60% من إجمالي ما تقدمه الولايات المتحدة من مساعدات عسكرية في العالم.
في كلمته الأخيرة، جدد نتنياهو شكره للرئيس بايدن على «التزام الولايات المتحدة قولًا وفعلًا» مع بلاده وعلى إرسالها حاملة طائرات «من الأكبر في العالم» لردع «الأعداء المشتركين». ونقلت صحيفة يديعوت أحرونوت أن «إسرائيل» بعثت رسائل تحذير لحزب الله عبر مسؤولين من الحكومة الفرنسية، من أنه في حال تدخل في الحرب فسيواجَه «بالقوة الكاملة للجيش الإسرائيلي، بمساعدة القوة البحرية الأمريكية التي تشق طريقها إلى شرق البحر الأبيض المتوسط».
يأتي الاحتفاء الإسرائيلي بالدعم العسكري الأمريكي على النقيض من التصريحات الإسرائيلية السابقة الممتعضة مما اعتُبر تدخلًا أمريكيًا في شؤون «إسرائيل»، وذلك حين دعا بايدن لتعليق «الإصلاحات» القضائية التي أججت الصراع السياسي الإسرائيلي الداخلي قبل أشهر، ودفعت بمئات آلاف الإسرائيليين إلى الشوارع مطالبين برحيل نتنياهو. ففي أيار الماضي، صرح وزير «الأمن القومي» الإسرائيلي إيتمار بن غفير بأن «على الولايات المتحدة أن تفهم أن إسرائيل دولة مستقلة وليست نجمة أخرى على العلم الأمريكي». بينما صرّحت وزيرة الاستيطان في حكومة نتنياهو أوريت ستروك مطلع العام بأن «على بلينكن أن يحترم سيادة إسرائيل. نحن لسنا الولاية الأميركية الحادية والخمسين»، وذلك إثر تصريح الأخير بأن بلاده تعارض «كل ما من شأنه تقويض حل الدولتين».
أوروبيًا، لم يألُ الرؤساء والوزراء جهدًا في التأكيد على اصطفافهم مع «إسرائيل». إذ قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إن «الاتحاد الأوروبي يقف إلى جانب إسرائيل»، وأن لها الحق في «الدفاع عن نفسها، اليوم وفي الأيام الآتية». واتصل المستشار الألماني أولاف شولتز بنتنياهو قائلًا «إن أمن إسرائيل مصلحة وطنية ألمانية». بينما عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن «تضامن» بلاده مع «إسرائيل»، قائلًا إن ما أسماه «محاربة الإرهاب قضية مشتركة سنستمر في متابعتها مع إسرائيل وجميع حلفائنا». أما رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، فاختار إلقاء كلمته من قلب كنيس في لندن، قائلًا إن «من يدعمون حماس مسؤولون بالكامل عن هذا الهجوم المروع»، مضيفًا أن «الأيام والأسابيع ستكون صعبة للغاية، لكن حين نقول إننا ندعم إسرائيل، فنحن لا نقصد اليوم أو غدًا فحسب، بل دومًا». ولم يفوّت الرئيس الأوكراني فلودومير زيلينسكي الفرصة عقد المقارنة مع بلاده، إذ قال «إننا في أوكرانيا نشعر بشكل خاص بما جرى»، مضيفًا أن «كل من يقدّر قيمة الحياة عليه أن يقف متضامنًا [مع إسرائيل]».
كانت النتيجة العملية للدعم الغربي غير المشروط، هي الراحة التي تنفذ بها «إسرائيل» عملياتها في غزة، راحةٌ لا يعكّر صفوها سوى العوائق العسكرية العملية التي فرضتها المقاومة باستمرار الاشتباكات في غلاف غزة وتواصل قصفها له.
إلى جانب التصريحات المنفردة، أصدرت كل من فرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة بيانًا مشتركًا اجترّ ما سبق من تعبيرات عن «التضامن»، مضيفًا أن هجمات المقاومة «يجب أن تُدان بشكل شامل»، وأن الدول الخمس ستعمل على «ضمان أن إسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها». وفي ما يبدو أنه تهديد موجه لحزب الله وإيران، حذر البيان الخماسي من «استغلال أي طرف معادٍ لإسرائيل لهذه الهجمات لتحقيق مكاسب». وعلى سبيل إرضاء بعض الأصوات الأوروبية الناقدة لـ«إسرائيل»، أشار البيان إلى «الاعتراف بتطلعات الشعب الفلسطيني المشروعة»، معتبرًا -بالنيابة عن الفلسطينيين- أن «حماس لا تمثل هذه التطلعات، ولا تقدم شيئًا للشعب الفلسطيني سوى الرعب وسفك الدماء».
وفي خطوة ملتبسة، أعلن الاتحاد الأوروبي، على لسان مفوضه لشؤون التوسع والجوار، أوليفر فارهيلي، إيقافه لجميع المساعدات التنموية التي تقدمها في الضفة الغربية وغزة، والمقدرة بـ691 مليون يورو، مضيفًا أن «التحريض على الكراهية والعنف وتبجيل الإرهاب قد سمّما عقول الكثيرين». إلا أن الاتحاد الأوروبي عاد وصرح أنه لن يوقف المساعدات، وإنما سيخضعها «للمراجعة لضمان ألا يساء استخدامها». ويبدو أن إعلان المفوضية الأوروبية الأول لم يكن منسقًا، إذ عبّرت كل من وفرنسا إسبانيا وإيرلندا ولكسمبورغ عن معارضتها للقرار. إلا أن دولًا أوروبية أخرى، كألمانيا والنمسا والدنمارك علّقت بدورها مساعداتها الثنائية للفلسطينيين.
رغم هذا السيل من التصريحات المناصرة، إلا أن «إسرائيل» لم تتوانَ عن توبيخ وزارات أوروبية لم ترض بياناتها الذائقة الإسرائيلية. إذ صرح مصدر إسرائيلي دبلوماسي بأن «الاتحاد الأوروبي أراد إصدار بيان أشد قساوة، إلا أن لكسمبورغ وإيرلندا والدنمارك رفضت وصف حماس بالمنظمة الإرهابية»، وهو ما سارعت الدول الثلاث لنفيه، إذ أكدت وزارتا خارجية الدنمارك وإيرلندا أن حماس على قائمة الاتحاد الأوروبي للمنظمات الإرهابية وإنهما ملتزمتان بها، بينما قالت وزارة خارجية لكسمبورغ إن التعديل الوحيد الذي طلبته على البيان هو «الدعوة لوقف التصعيد».
لم يكن هذا السبب الوحيد لامتعاض «إسرائيل» وحلفائها. إذ أثارت المظاهرات المناصرة لفلسطين التي أقيمت في اليومين الماضيين في مدن أوروبية مختلفة سخطَها. فقد قالت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» إنه بينما أضيء قصر وستمنستر، مقر البرلمان البريطاني، بألوان العلم الإسرائيلي، فقد أقيمت أمام السفارة الإسرائيلية في لندن مظاهرة داعمة لفلسطين، هتفت بتحريرها «من البحر إلى النهر»، زاعمة أن المظاهرة شهدت «أحداثًا معادية للسامية»، كتحطيم زجاج مطعم يقدم مأكولات موافقة للشريعة اليهودية، وهو ما كرره عمدة لندن، صدّيق خان. إلا أن مراسل بي بي سي، دانييل سانفورد، نقل أن الحدث كان عبارة عن اقتحام وسرقة، وأن الشرطة لا تتعامل معه بوصفه جريمة كراهية. وفي برلين، قمعت الشرطة مظاهرة مؤيدة لفلسطين ضمت العشرات، في بلد يحظر إقامة فعاليات في ذكرى النكبة ويعتبرها فعلًا معاديًا للسامية. وفي نيويورك، أثارت مسيرة داعمة لفلسطين حفيظة الإسرائيليين، وشهدت مشاحنات بين المتظاهرين ومشاركين في مظاهرة أخرى داعمة لـ«إسرائيل». أما في أستراليا، فتولى مسؤولون رسميون مهمة الاعتراض، إذ أدانت وزيرة الخارجية بيني وونغ ما أسمته «الشعارات البغيضة» التي رفعت في مظاهرة مناصرة لفلسطين في سيدني، متهمةً إياها بمعاداة السامية.
وسعيًا لتوحيد الصف الغربي إلى جانب «إسرائيل»، استُهلكت على مدار اليومين الماضيين تشبيهات الحدث بهجمات سابقة، إذ صرح عضو الكونغرس الأمريكي الديمقراطي آدم شيف بأن «إسرائيل تعيش لحظة 9/11 الخاصة بها»، وهو تشبيه تكرر كثيرًا على ألسنة الإسرائيليين والغربيين على حد سواء. كما جرى تداول مقارنة هجمات المقاومة بالهجوم الياباني على بيرل هاربر، وهو الهجوم الذي دخلت على إثره الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية، واستخدم كتبرير لضرب هيروشيما وناغازاكي بالقنابل الذرية. فيما سيقت اتهامات أخرى بأن «هجوم حماس سبب أكبر عدد من القتلى اليهود منذ الهولوكوست»، كما جاء على لسان مارينا روزنبرغ، نائبة رئيس هيئة مناهضة التشهير، وهي منظمة يهودية أمريكية نافذة في واشنطن.
كانت النتيجة العملية لكل هذا الدعم غير المشروط هي الراحة التي تنفذ بها «إسرائيل» عملياتها في غزة، راحةٌ لا يعكّر صفوها سوى العوائق العسكرية العملية التي فرضتها المقاومة باستمرار الاشتباكات في غلاف غزة وتواصل قصفها له. لم تبدِ أي حكومة غربية تقريبًا أي معارضة لقرار الحكومة الإسرائيلية بفرض «حصار كامل» على مليوني شخص، نصفهم من الأطفال، الذي عبّر عنه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بالقول: «لا كهرباء، لا طعام، لا وقود، لا ماء، كل شيء مغلق. نحن نقاتل حيوانات بشرية، وسنتعامل معهم على هذا الأساس». إلا أن هذا كله لا يبدو غريبًا حين نسمع الأصوات الغربية التي ترتفع لتقول «كلنا إسرائيليون»، بعد عقود من ممارسة «إسرائيل» الفعلية للوجه الآخر لهذا الشعار: «كلنا غربيون».