أغاني فلسطين… اليوم موعدنا
بقلم: هيثم أبوزيد
موقع العربي الجديد
مع نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948، أصدر عبد الوهاب أغنيته الشهيرة “أخي جاوز الظالمون المدى”، لتصبح أول عمل غنائي يؤديه فنان له مكانة كبيرة مناصرة للقضية الفلسطينية.
اختار عبد الوهاب كلمات من قصيدة “فلسطين” للشاعر علي محمود طه، التي تحث على النضال والفداء، وتحث العرب على مواجهة الغاصب الذي يريد أن يسلبهم ما كان لهم من مجد وسؤدد، وتؤكد أن أحداً لن يلتفت إلى قضية العروبة إلا بـ”صليل السيوف”.
حثت الكلمات العرب على الإسراع بمواجهة المحتل: “أرى اليوم موعدنا لا الغدا”، وبأن الاستشهاد هو سبيل التحرير، و”قبل شهيدا على أرضها.. دعا باسمها الله واستشهدا”. ومنذ ذلك التاريخ، صار الغناء لفلسطين وشعبها واجباً فنياً محتماً، يؤديه كل مطرب ومطربة، تجاه قضية العرب الأولى، وتضامنا مع شعب لم يستسلم أو يخضع أو يفرط في أرضه، رغم توالي السنوات والعقود.
والغناء لفلسطين وقضيتها طويل وعريض، لا يمكن أن يحيط به بحث أو مقال، إذ هو ممتد في الزمان منذ قيام دولة الاحتلال وإلى اليوم، أي إنه قطع نحو 75 عاماً، كما أنه غزير جداً، لحرص كل مطرب عربي على أن تكون له مشاركة غنائية واحدة على الأقل مناصرة للشعب الفلسطيني. لكن من المؤكد أن هذه الأغاني تفاوتت في جودتها وبقائها ومدى تأثيرها، ومستوى استدعاء الجماهير لها. ولا ريب أن بعض هذه الأغاني مثلت محطات مهمة، لا يمكن تجاوزها عند أي رصد فني.
ربما كانت قصيدة “زهرة المدائن” التي شدت بها فيروز عام 1967، من أهم أغنيات القضية الفلسطينية، وهي بلا شك أهم عمل غنائي يخص مدينة القدس المحتلة، وهي إحدى ذرى الأخوين رحباني، ومثال واضح لنزوعهم التجديدي الجريء. ومن الأغاني التي طبعت الذاكرة والروح العربية، وربطتها أكثر بالقدس وتاريخها ومقدساتها، أغنية “زهرة المدائن”، والتي ألفها ولحنها الأخوان رحباني، مباشرة بعد نكسة 1967.
تذكر عدة صحف فلسطينية أن فكرة الأغنية تبلورت عام 1964، عندما زارت فيروز القدس بالتزامن مع زيارة بابا الفاتيكان بولس السادس. وقد أدت فيروز الترانيم أمام البابا، في كنيسة القيامة، وفي كنيسة المهد في بيت لحم. تأخذ كلمات الأغنية ولحنها المستمع إلى مشاعر تختلف مع كل مقطع. شعور النداء من بعيد: “يا قدسُ.. يا قدسُ”. شعور الأسى والحزن: “الطفل في المغارة.. وأمه مريم.. وجهان يبكيان”. الصراخ في وجه العالم الصامت: “لأجل من تشردوا.. لأجل أطفال بلا منازل”. ثم انفجار الشعب المقهور لينتزع حقوقه: “الغضب الساطع آت.. وأنا كلي إيمان.. من كل طريق آت.. بجياد الرهبة آت”.
غنت فيروز كثيرا لفلسطين: “سنرجع يوما”، و”سيف فليشهر”، و”مريت بالشوارع”، و”بيسان”، و”يافا”، و”جسر العودة”، و”راجعون”، و”القدس في البال”، وغيرها. لم يغن مطرب ولا مطربة لفلسطين قدر ما غنت فيروز، لكن بقيت أغنية “زهرة المدائن” في مكانة أيقونية لا تعرف المنازعة.
في عام 1969، شدت أم كلثوم بواحدة من أخلد ما عرفه تاريخ الغناء لفلسطين. قدمت قصيدة نزار قباني “طريق واحد” إلى محمد عبد الوهاب ليصوغها موسيقيا، وليستمع العرب من إذاعة القاهرة إلى صوت أم كلثوم العريض: “أصبح عندي الآن بندقية.. إلى فلسطين خذوني معكم.. إلى ربى حزينة كوجه المجدلية.. إلى القباب الخضر والحجارة النبية”. يصف فيكتور سحاب هذه الأغنية بأنها “أعظم الأغنيات التي ظهرت في العالم العربي للمقاومة الفلسطينية والعمل الفدائي”.
عند أداء هذه القصيدة، كانت أم كلثوم قد بلغت السبعين، لكن صوتها كان يفيض بالحماس والتحريض على الثورة: “أنا من الثوار.. أنا مع الثوار.. من يوم أن حملت بندقيتي.. صارت فلسطين على أمتار”، ثم يمتلئ صوتها جلالا وهي تخاطب شعب فلسطين: “يا أيها الثوار.. في القدس.. في الخليل.. في بيسان.. في الأغوار.. في بيت لحم.. حيث كنتم أيها الأحرار.. تقدموا.. إلى فلسطين طريق واحد.. يمر من فوهة بندقية”. هذا عمل غنائي، صنع ليبقى، وليستدعى، مع كل مواجهة بين الشعب الصامد وقوة الاحتلال الباطش. وأيضا تستدعى، عند كل حديث يوهن عزم المقاومة، أو يسخر من جدوى الفعل المقاوم.
وكان للشيخ إمام عيسى اهتمام كبير جدا بالقضية الفلسطينية، فقدم لها عددا من الأغنيات، التي حقق بعضها انتشارا واسعا داخل الأرض المحتلة وفي مخيمات اللاجئين. اتسمت أعمال إمام لفلسطين بثورية قاطعة، مع سهولة اللحن ليسهل حفظه وترديده. ومن أشهر هذه الأغنيات “يا فلسطينية”، التي صاغها أحمد فؤاد نجم، و”أناديكم”، للشاعر الفلسطيني توفيق زياد.
وبالرغم من أن معظم أغنيات إمام تنتمي إلى اللهجة المحكية، إلا أنه لحن وغنى للقضية الفلسطينية أكثر من قصيدة فصيحة، ومنها قصيدة الشاعر فرغلي مهران، التي صارت بعد ذلك من أشهر أغنيات الشيخ ويقول مطلعها: “فلسطين دولة بناها الكفاح.. بدم الشهيد بنار السلاح.. تعيد النبات إلى أرضه.. تعيد الغريب إلى داره.. ترد السليب إلى أهله.. فعرض العروبة لا يُستباح”. وأيضا قصيدة “في ذكرى الميلاد العشرين” لشاعرة فلسطين فدوى طوقان، كتبتها بمناسبة استشهاد الفدائية دلال المغربي في مارس/أذار عام 1978: “في ذكرى الميلاد العشرين.. لفتاة من أرض فلسطين.. وقفت تتأمل حاضرها.. في أرض يكسوها الطين.. خلف الأشواك السلكية.. عاشت أياما وسنين.. ما بين الماضي وظلامه.. وحنين في القلب دفين”. يرى كثير من المهتمين بتاريخ الأغنية الثورية، أن الشيخ إمام عيسى هو مغني القضية الفلسطينية الأول.
تفرض القضية الفلسطينية نفسها على المشهد الغنائي، ولا نكاد نجد مطرباً معاصراً شهيراً لم يقدم عملاً أو أكثر لنصرة الشعب الفلسطيني أو التذكير باحتلال مدينة القدس. غنى محمد منير “القدس”، وعمرو دياب “القدس دي أرضنا” وعلي الحجار “فلسطيني”، وهاني شاكر “على باب القدس”، وإيمان البحر درويش “أذن يا بلال فوق الأقصى”. يدرك كل فنان عربي مدى التقدير الجماهيري لمساندة القضية الفلسطينية، وأن الغناء لفلسطين أو القدس يمثل واجبا عربيا لا يمكن تجاوزه.
لكن، ومنذ أن تصاعد الغناء للقضية الفلسطينية في الخمسينيات والستينيات وإلى اليوم، تعرض هذا اللون من الغناء إلى انتقاد كثير من أصحاب الأقلام والمنابر، باعتباره مجرد كلام، لا يقدم شيئاً حقيقياً على الأرض، أو أنه بحماسته النصية والتلحينية يفرغ طاقة الغضب والثورة، فيحرفها عن مسارها الصحيح والطبيعي. والحقيقة أن هذا نمط من التفكير بالغ الضيق، يضع الفن -على خلاف الحقيقة- في مواجهة مع الفعل المقاوم، وكأنهما ضدان لا يجتمعان.
كان الفن عموما، والغناء والموسيقى على وجه الخصوص، دائما في خدمة النضال والمقاومة. ومن قديم، عرفت الشعوب البدائية “طبول الحرب” التي تدق لتحفيز المقاتلين، أو لترهيب الأعداء، والجندي المقاتل، أو الثائر المقاوم، يظل بحاجة دائمة إلى شتى أنواع التحفيز: عقائديا وسياسيا وأخلاقيا، وأيضا فنيا، بالأغنيات الثورية والألحان الحماسية، ولم يعرف تاريخ المقاومة أن ثائرا ترك سلاحه وتخلف مع القاعدين لأنه استمع إلى أغنية.
فتح عبد الوهاب باب الغناء لفلسطين وثوارها أواخر الأربعينيات، كأنه خط صفحة أولى في كتاب ضخم، توالت صفحاته ثم أجزاؤه جيلا بعد جيل، ولم يغلق حتى هذه اللحظة التي لم يعش الشعب الفلسطيني ولا الاحتلال الإسرائيلي مثيلا لها منذ قيام الكيان الغاصب. وكأن كل مطرب أو مطربة، يسجل اسمه في سجلات الشرف الفني حين يقدم عملا يتغنى فيه بفلسطين ويتعاطف مع شعبها.
لكن على كثرة هذه الأغنيات، بقي صوت عبد الوهاب، في صفحته الأولى، له مذاق خاص، ووقع فريد: “وقبِّل شهيدًا على أرضهـــا.. دعا باسمها الله واستشهـدا.. فلسطينُ يفدي حِماكِ الشبابُ.. وجلّ الفدائي والمُفتــدى.. فلسطين تحميكِ منا الصـدورُ.. فإمًا الحياة وإمــا الرَّدى”. ثم جاءت “النكسة”، وضاعت فلسطين كلها، وكلما ظن العالم أن هذه القضية ماتت وطواها النسيان، استيقظ شعب ثائر، ليذكر الدنيا بأن “الغضب الساطع آت”.