الواجهةمجتمعمنوعات

مسيرة الكرامة بالرباط: الدلالات والتداعيات

 

ذ: هشام امساعدي

«ليس من رأى كَمَنْ سمع»؛ و«ليس من شارك في العيد كَمَنْ بارك من بعيد»…
كل من شهد مسيرة الكرامة بالعاصمة الرباط يوم  الثلاثاء 07 نونبر 2023، لا يمكنه إلا أن يفخر بانتمائه لأسرة التعليم وهو يشهد انتفاضة الوِزْرَةِ البيضاء ضد نظام (أساسي) جاء ليدوس هيبتها واعتبارها ويُبَقِّعَ بياضها بالسواد، ولم يُخِفْهَا المقص في يد الخيَّاط يهددها بقص كُمَّيْهَا الطويلين إلى الذراع أو إلى الكتف، مادام قد أضاف لها أزراراً جديدة إلى شريط الأزرار التقليدية التي تثقلها؛ فثارت أمام قبة البرلمان ولم تضعف، بل مشت في عين الخوف لأكثر من أربع ساعات عَلَّهَا تنفض عنها غبار العبودية والمهانة، وتُقدم درسا آخر في تعليم الكرامة لجميع المستويات التعليمية خارج أسوار المدرسة.
وكل من شهد مسيرة الكرامة كما شهدتُها، يُجمع على أنها الأكثر عددا في تاريخ النضال النقابي بالمغرب، والأقوى إرادة بين الشغيلة التعليمية وتصميما على نيل الكرامة وإعادة الاعتبار للأستاذ في أنظمة التعليم. طوفان بشري اجتاح شوارع الرباط من كل مدخل ومسلك، وجاؤوا من كل فج عميق: من تطوان، من وجدة، من طانطان… ليرفعوا الورقة الحمراء في وجه الوزير شكيب بنموسى، ويحتجوا على نظام المآسي الذي لم يستجيب للحد الأدنى من تطلعات رجال ونساء التعليم بعد عشرين سنة كاملة من عذاب الانتظار، بل إنه أعدم عددا من حقوق ومكتسبات الشغيلة التعليمية (التي ناضلت لأجلها منذ عقود من الزمن) رميا بالرصاص من بندقية مكاتب الدراسات والاستشارة القانونية، من خلال الزيادة في المهام وساعات العمل، وتكريس الفئوية، وتوسيع حوض العقوبات التأديبية… فإذا كان التدريس مهنة نبيلة كما تُصرِّح الدوائر الحكومية دائما، فأين النبل؟ وأين النبلاء؟ وإذا كان الأساتذة هم حراس العزة والكرامة، فكيف يعطي الأستاذ دروسا في الكرامةِ وهو مهان بسبب التراجعات الخطيرة التي جاء بها النظام الأساسي الجديد؟ يتساءل الأساتذة والأستاذات.
وتجسيدا للبرنامج النضالي التصعيدي الذي سطرته التنسيقيات والنقابات المسانِدة، فقد تجمَّع الأساتذة والأستاذات في وقفة حاشدة أمام مقر البرلمان لما يربو عن ساعة ونصف، قبل أن تنطلق الحشود في مسيرة بالوزرة البيضاء نحو مقر الوزارة المعنية حاملين لافتات بأهم المطالب، ومرددين شعارات رافضة للنظام الأساسي الجديد، ومنددة بالسياسة التعليمية الفاشلة للحكومة، كما طالبت الجماهير الحاضرة برحيل “شكيب بنموسى” وزير التربية الوطنية، و”عزيز أخنوش” رئيس الحكومة الحالية: ” allez dégage.. aller dégag.. حكومة الديبناج”. وقبل الخوض في رسائل المسيرة المشهودة المشفَّرة وغير المشفَّرة، لا بد من الإشارة إلى بضع ملاحظات لها دلالتها في فهم السياق العام لهذا الحراك الاجتماعي وتداعياته على الاستقرار والسلم الاجتماعي:
01 ـ اختفاء القبعات النقابية أثناء التظاهر، وكذا اللافتات المطلبية التي تحمل شعار (Logo) المنظمات النقابية التي انضمت للإضراب الذي دعت له التنسيقيات. وهذا يمكن قراءته من زاويتين مختلفتين:
أ ـ تجسيد النقابات التعليمية (المسانِدة والموقِّعة) للوحدة النضالية التي تُمْسِكُ بزمامها التنسيقيات، والظهور بمظهر الانتماء إلى “أسرة التعليم” بعيدا عن الحسابات النقابية الضيقة التي تُفرق وتُمزق أكثر مما تُجمِّع وتُؤلف. فالإطار هنا هو “الأستاذ” الذي يوحد الجميع؛
ب ـ تخوف القيادات الوطنية والمجالية للنقابات الموقِّعة مع الحكومة من ردة فعل الجماهير الغاضبة، وتحول الهتافات وصيحات الاستهجان ضدهم كما حصل مع بعض ممثلي النقابات في مسيرة 05 أكتوبر 2023 الماضية أمام وزارة التربية الوطنية؛
02 ـ خروج جميع الفئات المتضررة (مزاولين ومتقاعدين) في المسيرة بدون استثناء. وهذا التداعي النضالي أو التضامن الفئوي الذي عبر عنه رجال ونساء التعليم في المسيرة هو رسالة واضحة لخبراء الغرف المكيفة: لا وجود للفئوية داخل أسرة التعليم إلا في نظامكم الأساسي الجديد، وفي سياستكم التفتيتية الرامية إلى إحداث شروخ وانقسامات بين الأطراف المتماسكة، عن طريق تعويض فئات وحرمان فئات أخرى؛
03 ـ الحضور القوي لنساء التعليم وتصدرهن للمشهد النضالي في المسيرة، ومشاركتهن الوازنة في التنظيم وحمل اللافتات، وترديد الشعارات، وإلقاء الكلمات… وبكل تجرد وموضوعية، فإن مقاربة النوع في الفعل النضالي الميداني عنصر قوة جديد يُحسب للتنسيقيات. ولعل السر الكامن وراء نجاح كافة الأشكال الاحتجاجية هو الانخراط الكبير والواعي لـ”الأستاذة” في هذا الحراك الاجتماعي؛
04 ـ عدم رفع أي شعار يهم الزيادة في الأجور أو الرفع من التعويضات. وهذا المطلب وإن كان ضروريا ومشروعا، فإن تجاهل الأساتذة له يؤكد بوضوح أن رد الاعتبار للأستاذ في النظام الأساسي هو أولية الأولويات عندهم: “حرية، كرامة، عدالة اجتماعية”، ويفند مزاعم الحكومة التي لا تفكر إلا بمنطق مقاولاتي وتربط الاحتقان الاجتماعي بالزيادة في الأجور. فاليد التي تصفعك لن يُستساغ عطاؤها مهما عَظُمَ وغَزُرَ، فكيف بالفُتات وما تساقط من شعر الأقرع من تعويضات عن التصحيح؟!
05 ـ التغطية الإعلامية الموجَّهة للمسيرة؛ ولولا الصور الحية والفيديوهات التي وثَّقت الحدث من الكاميرات والهواتف الخاصة للمشاركين والمشاركات، لَطُمِسَتْ معالم جميع نجاحات المسيرة وأولها عدد المتطوعين الذي لم يسبق له مثيل، وفاق 120.000 متطوع ومتطوعة حسب بعض التقديرات. وهذا مفهوم في سياق تبخيس بعض المنابر الإعلامية (المدعومة بإسناد صحيح) لنضالات الأساتذة، وعدم الرغبة في تحويلها إلى قضية رأي عام حقيقية، لكن الواقع يعلو ولا يُعلى عليه؛
هذا وقد رفع الأساتذة المحتجون لافتات ذات محتوى مطلبي، ورددوا مجموعة من الشعارات، لا يتسع المقام لتقديم دراسة تحليلية وافية فيها، وهتفوا بأعلى أصواتهم استنكارا وإدانة أو تمجيدا وتأييدا، موجهين من خلالها عددا من الرسائل إلى من يهمهم الأمر، نجملها في خمس رسائل كبرى:
أولا ـ رسالة إلى الوزارة والحكومة
رمت الجماهيرُ الغفيرة الوزارةَ والحكومة معا بالفشل الذريع في تدبير قطاع التعليم، وحمَّلتها مسؤولية الاحتقان في الساحة التعليمية، داعية إياها إلى سحب النظام الأساسي الجائر بوصفه خطوة أولى نحو تسوية حقيقية للملف، وبادرة حسن النية من أجل التوصل إلى حلول مرضية للطرفين، كما دعتها إلى تفعيل آليات الحوار الاجتماعي البنَّاء والتفاوض الجماعي القائم على إشراك الفاعلين الأساسيين في أفق صياغة نظام أساسي عادل ومنصف وموحد؛ مستنكرين رهن السياسة التعليمية الوطنية بإملاءات الصناديق الخارجية، ومؤكدين في الوقت نفسه على مواصلة معركة الكرامة إلى حين إسقاط النظام الأساسي المشؤوم: “التصعيد التصعيد، هذا صوت القواعد ـــــ الأستاذ يريد إسقاط النظام الأساسي”…
ثانيا ـ رسالة إلى النقابات
بأسلوب يطبعه التصريح تارة، والتعريض والتلميح تارة أخرى، حمَّل رجال ونساء التعليم النقابات الموقِّعة مسؤولية التوتر في القطاع، بسبب ما تَوَلَّدَ عن حواراتها مكتومة الصوت من اتفاقات مغشوشة مع الحكومة، تُوِّجت بنظام أساسي فاقد لشرعية التفاوض، وذكَّرتها بدورها في الدفاع عن مصالح الشغيلة التعليمية ووجوب الاصطفاف إلى جانبها لا الارتماء في أحضان الحكومة، ثم الانقلاب عليها: “لا لا ثم لا، لحوارات المهزلة ـــــ تسقط الأقنعة حينما يهجوك اللسان الذي كنت تظن أنه لسانك”…
ثالثا ـ رسالة إلى الأستاذ (ة)
ثمنَّتِ الجماهير مجهودات الأساتذة المشاركين في المسيرة وتضحياتهم الجِسام، وشدَّدت على أهمية وحدة الصف الداخلي والتضامن النضالي بين جميع الفئات المتضررة لإسقاط النظام الأساسي الجديد، داعية عموم الشغيلة التعليمية إلى الاستمرار في معركة الحرية والكرامة إلى حين الاستجابة لمطالبهم المشروعة: “بالوحدة والتضامن.. اللي بغيناه يكون يكون ـــــــــــ واليد اليد اليد.. أيادي قوية؛ بها نهزم أعادي.. أعادي الحرية/ أعادي الكرامة ـــــــــــ هذا نظام العقوبات.. ماشي نظام التحفيزات ــــــــــــ الموت ولا المذلة ـــــــــــ كرامتي خط أحمر”…
رابعا ـ رسالة إلى التلميذ وأولياء الأمور
لم تغب مصلحة التلميذ عن أعين أساتذته المشاركين في المسيرة، نظرا للمكانة الكبيرة التي يحتلها التلميذ في منظومات الإصلاح التعليمي، فاعتذروا منه على مغادرة حجرات الدرس مكرهين، منبهين إلى أن خروجهم هذا هو شكل من أشكال الدفاع عن المدرسة العمومية: “عذرا عذرا يا تلميذ.. مجبرون على التصعيد ـــــــــــ المدرسة العمومية ضحية.. لسياسة تعليمية طبقية”…
خامسا ـ رسالة إلى فلسطين
رفرف العلم الوطني المغربي جنبا إلى جنب مع العلم الفلسطيني أمام قبة البرلمان، في إشارة إلى أن القضية الفلسطينية حاضرة في الوجدان المغربي، وهي ـ إلى جانب الوحدة الترابية ـ تعد أم القضايا الوطنية. والتفاتة الأساتذة إلى القضية الفلسطينية مردها إلى كون الاثنين يخوضان معركة الحرية ;الكرامة معا، مع اختلاف في السياق التاريخي وأطراف الصراع: “إدانة شعبية.. جرائم صهيونية ـــــــــ نتانياهو يا ملعون.. فلسطين في العيون ــــــــــ من المغرب لفلسطين.. شعب واحد مش شعبين”…
بكل أمانة، لقد نجحت التنسيقيات التعليمية والنقابات المسانِدة في التعبئة لمسيرة الكرامة بالرباط، ونجحت في التنظيم؛ ونجحت في أسلوب الاحتجاج وأشكال الاحتجاج، وفي توضيح المطالب وترتيبها وفق أولوياتها الصحيحة، فهل ستنجح الحكومة في التقاط رسائلها؟ وهل ستستفيد النقابات الموقِّعة من الدرس بعد سقوط الأقنعة عنها؟.
إن خروج الأساتذة اليوم بهذه الحشود الكبيرة للتظاهر السلمي والاحتجاج من مسافة الصفر بمقر البرلمان، يسائل الوزارة والحكومة معا بأسلوب القرآن اللطيف: {أليس فيكم رجل رشيد؟}، ويدعوها إلى التعقل والتبصر في التعامل مع الحراك التعليمي وتجاوز أسباب الاحتقان، لا التعنت والعمل بعادة عمروٍ بن كلثوم في الجاهلية:
أَلَا لَا يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا ** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الْجَاهِلِينَا
فالأساتذة ليسوا عدوا للحكومة، ولكنهم غير مجبرين على حمل أوزارها وأوزار خبراء المكاتب المكيفة لعشرين سنة قادمة. فما يعيشونه اليوم هو نتيجة لإفراطهم في السكوت وإبداء حسن النية المبالغ فيه مع الحكومات المتعاقبة. فكفى من العبث بالسياسة التعليمية، وكفى من المغامرة بالسلم الاجتماعي إرضاءً لإملاءات صندوق البنك الدولي.

تيط مليل، في: 08/11/2023

Abdeslam Hakkar

عبد السلام حكار مدير الموقع وصحفي منذ 1998 عضو مؤسس بالتنسيقية الوطنية للصحافة والإعلام الإلكتروني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى