النقابات والتنسيقيات بين شرعية التفاوض وشرعية النضال
ذ: هشام امساعدي
الأفراد مثل الجماعات مثل الهيئات والتنظيمات المكونة للمجتمع المدني تخضع لِسُنَّةِ الاستبدال؛ أي أن يستبدل الله هيئة سياسية أو منظمة نقابية أو جمعية مدنية بغيرها لأسباب ذاتية وموضوعية. فالاستبدال آية من آيات الله التي تحصل في الكون، وعلى المناضل أن يتعرف عليها لأنها تساعده في فهم أحداث التاريخ وأسباب التغيير في المجتمع، كما تساعده في استشراف المستقبل انطلاقا من إدراك الواقع الحاضر وأخذ العبرة/العبر من الماضي. فالاستبدال بهذا المعنى هو نتيجة طبيعية لسبب أو لمجموعة أسباب منطقية، اجتمعت كلها لتفسر لماذا وكيف حصلت التغييرات والتطورات الاجتماعية. ولا شك أنه يترتب عن هذه النتيجة الطبيعية نصرٌ وقوةٌ وتمكينٌ لإطار نقابي أو حزبي معين، توازيه هزيمةٌ وضعفٌ وذِلَّةٌ لإطار آخر.
ويرتبط الاستبدال في وجوده بالتَّوَلِّي. والتَّوَلِّي هو الإعراض والإدبار والتخلي عن الجماعة وقت الحاجة. قال تعالى: {هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ، وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ، وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ؛ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم} سورة محمد ـ الآية 38. نهتم هنا بِسُنَّةِ الاستبدال في علاقتها بالفعل النضالي. فالله عز وجل يحذر جماعة المرتدِّين ـ من النقابيين والسياسيين والجمعويين وغيرهم من المناضلين ـ من التَّوَلِّي عن الإنفاق بمختلف أوجهه وأشكاله، لأنه قادر على أن يأتي بِمَنْ هم خيرٌ منهم، ولا يكونوا أمثالهم في التضحية بالمال والوقت والجهد في سبيل الله، وفي رفع الظلم عن المستضعفين من عامة الناس أو الحيلولة دونه إن كان متوقعا، وفي جلب المصالح للأفراد والجماعات.
والمتتبع للحركة النقابية بالمغرب يجد أن معظم النقابات المتصدرة لنتائج الانتخابات المهنية، تولَّت منذ زمن بعيد عن مطالب العمال والموظفين عامة، والشغيلة التعليمية خاصة؛ وَوَلَّتْ وجهها شطر المَسْنَدِ الحرام، شطر رئيس الحكومة و”الباطرونا”، في انحراف تام عن الغايات النبيلة التي قامت من أجلها وضحى المناضلون المخلصون في سبيلها. فهي وإن زعمت أنها تمثل شرائح كبيرة من رجال ونساء التعليم، وأعطت لنفسها الحق في الدفاع عن مصالحهم والمطالبة بحقوقهم في بياناتها الصفراء وأمام وسائل الإعلام؛ فإن مواقفها المتخفية (حيث تظهر في السر ما لا تستطع التصريح به في العلن) التي أضرت بمصالح هيئة التدريس، والتبرؤ من عدد من القرارات الحكومية التي سبق لها أن وافقت عليها بعد رفض القواعد لها، كرَّست ازدواجيةَ الخطاب لدى هذه النقابات وأكدت تراجعَ نضالها الوطني والمطلبي؛ مما أفقدها قوتها التنظيمية وصلابة مواقفها تجاه قضايا الشغيلة التعليمية الأساسية. فما كانت حكومة “الباطرونا” لتتجرأ على الهجوم على مكاسب هيئة التدريس في النظام الأساسي الجديد، لولا استغلالها الخبيث لأمرين:
ـ أولهما: الظروف الدولية والإقليمية وتحميلها مسؤوليةَ تراجع النمو الاقتصادي الداخلي، مع محاولة سد أفق الانفراج أمام الشغيلة، والتحذير من المستقبل القاتم الذي ينتظرها في حالة استمرار الحرب وأزمة الطاقة والتضخم وغيرها من الظروف؛
ـ وثانيهما: نجاح السلطة ـ انطلاقا من مدخل ضمان التوازن الوطني النقابي ـ في احتواء النقابات وتحنيطها داخل صناديق مستطيلة، مع تحجيم دورها في نضالات صورية طعمها طيب ولا ريح لها ولا وزن، من خلال بيانات التعبير عن القلق المتزايد من أوضاع المعيشة وارتفاع الأسعار، ووقفات المساندة والدعم للفئات المتضررة داخل القطاع، والتي لا يقرأها حتى مناضلوها.
هذه الازدواجية في المواقف لدى معظم النقابات الأكثر تمثيلية، حوَّلت خطها التحريري من خط نضالي يُغلِّب مصلحة الشغيلة ويصطف إلى جانبها، إلى خط انتهازي يُغلِّب مصلحة القيادات النقابية ويُوغِلُ في مغازلة وزراء الحكومة ورئيسها على الخصوص حفاظا على مواقعها، أو بحثا عن تموقع أفضل لها داخل المشهد السياسي/النقابي البئيس. ما عمَّق الفجوة بين القيادات الخاذلة والقواعد المخذولة، ودفع القواعد إلى تأسيس تنسيقيات لا تربطها علاقة ـ ليس نفيا مطلقا ـ بالنقابات الموقِّعة، لتتولى مهمة الدفاع عن أوضاع الفئات التي تنتمي إليها بنفسها، وتتجاوز النقابات في إخراج مطالب هيئة التدريس إلى الشارع عوض مناقشتها في جلسات “الانتظار الاجتماعي” التي لا طائل منها، وحتى لو كانت هناك بعض المكاسب فغالبا ما تكون مكاسب عابرة للاستهلاك الإعلامي فقط، يصدق فيها المثل السائر: “الرمح غالٍ والفريسة ذُبابة”.
ولعل هذا الشعور من قِبَلِ رجال ونساء التعليم بخذلان النقابات العتيدة لهم، وعدم الانتصار لقضاياهم المشروعة وفي محطات مفصلية، هو الذي أدى إلى فقدان الثقة في الحركة النقابية داخل الساحة التعليمية، وهو الذي يفسر كيف بات مصطلح “نقابي” في المِخْيَال الاجتماعي (على الأقل في المحيط المدرسي) رديفا لمصطلح “انتهازي” حتى ولو كان ذلك النقابي وليا من أولياء الله في النضال والوفاء للجماهير؛ وكيف باتت عبارة “النقابات الأكثر تمثيلية للشغيلة” رديفا لعبارة “النقابات الأكثر تمثيلا على الشغيلة”؛ وبين التمثيلية المزيفة والتمثيل الحقيقي ياء نسب إلى هيئة التدريس باتت غير شرعية في نظر القواعد المناضلة، وتاء مربوطة بخيوط التَّوَلِّي والاستهتار من قِبَلِ النقابات، وليس بحبال المؤازرة والابتدار.
على النقابات الأكثر تمثيلية التي ما فتئت تشتكي من قلة المنخرطين، ومن عزوف الأساتذة والأستاذات عن الشأن النقابي وعن النضال المجالي، أن تعي الدرس جيدا من التنسيقيات في انسجامها مع ذاتها وإنتاج القرار انطلاقا من القواعد، وأن تعلم أنَّ تزايد النفور من النقابات له ما يبرره في الساحة التعليمية، وأول مبرراته غياب الوضوح المطلوب مع الشغيلة، وما نجم عنه من اتفاقات سرية مع الحكومة أجهزت على ما تبقى من الحقوق والمكتسبات. وعندما تعجز التنظيمات النقابية العتيدة عن الالتحام بهموم الشغيلة وتقديم الحلول لمشاكلها، والدفاع عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية والمهنية الخاصة بالمنخرطين، من الطبيعي أن تَبْرُقَ تنظيماتٌ أخرى من تحت الجلباب، ولا غرابة في أن يرفع أبناؤها شعار: “لن أعيش في جلباب أبي”، فالقضية عادلة، والمحامي فاشل، والقاضي تحت الطلب.
لقد أصبحت التنسيقيات ملاذا لفئات عريضة من رجال ونساء التعليم ظلت لسنوات عديدة بعيدة عن الانتماء النقابي، وظلت لعقود من الزمن عازفة عن الفعل النضالي الميداني، وخاصة في صفوف نساء التعليم. ثم صارت بقدرة قادر تختار منسقيها ومنسقاتها بديمقراطية سَلِسَة ليس على صعيد المحليات، بل على صعيد كل مؤسسة وفي جميع الأسلاك التعليمية الثلاثة؛ وصارت تُشكِّل هيئاتِها المجالية ومجالسَها الوطنية بشكل متدرج ودون تعقيدات تذكر. سهولة في الولوج، وقوة في الطرح، واندفاع نحو الإضراب والتصعيد إلى أبعد الحدود. فهل وصلت التنسيقيات إلى أن تكون البديل النقابي الحقيقي؟
إن فترة التنسيقيات فترة حماس أرهق النقابات الموقِّعة، وأرغمها على محاولة إيجاد موطئ قدم لها داخل هذا الشكل الجديد من النضال الميداني الذي أبدعته تفريخات التنسيقيات. أصبح مناضلو التنظيمات النقابية العتيدة مجرورين إلى نضال هم له كارهون، ولا يملكون سوى الاستجابة له، وليس أمامهم حل إلا تجسيده بكافة أشكاله حتى لا يُسَجَّل ضدهم موقف من تنسيقية معينة، فتزداد الجماهير بُعدا منهم. حال النقابات مع التنسيقيات اليوم هو أشبه بقصة أربعة أطفال ـ مع التحفظ الشديد على ضرب المثل بالأطفال حتى لا يُساء الفهم ـ أبناء عمومة «استطاعوا أن يفرضوا على باقي رفقاء الدرب قانونا يُفضي بحرمانهم من لعب أية مقابلة إلا بإذنهم وفي حضورهم، بحجة أن الملعب خاص بهم لأنه في الأصل هو عبارة عن ساحة عارية تعود ملكيتها لجدهم الراحل. لم يكن هذا الامتياز هو الوحيد الذي قوَّى شوكة الأطفال الأربعة على رفقائهم بالحي، بل هناك امتياز آخر يرتبط بامتلاكهم لكرة من النوع الرفيع، مما منحهم قوة في التفاوض واختيار اللاعبين بناء على درجة القرب أو البعد منهم.
أحس رفقاء الدرب بعجزهم أمام مُلَّاك الملعب لبعض الوقت، وحَزَّ في صدورهم أنهم ضيعوا عليهم حقهم في اللعب وحرية التحرك متى شاؤوا، خاصة وأنه الملعب الترابي الوحيد بالحي. لكن حيرة الأطفال لم تدم طويلا أمام هذا التحكم، إذ سرعان ما فتحوا باب المساهمة المادية فيما بينهم لشراء كرة من الجلد الصناعي، واتخذوا من بقعة كبيرة غير مبنية في طرف الحي ملعبا جديدا لهم، بعد أن نَقَّوا المكان وتخلصوا من الأحجار وبقايا البناء، وحاكَوا دور الجرافات في اقتلاع الأشواك وتسوية الأرض. وهكذا رَمَوْا خصومهم عن قوس واحدة باتفاقهم، وأجبروا الأطفال الأربعة على اللحاق بهم بعد أن هُجِرَ ملعبهم، ولسان حالهم يقول: {انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} سورة الحديد ـ الآية 13».
إن تغيير الجماهير الأستاذية لقواعد معادلة الإمام والمأموم أو معادلة الجار والمجرور في الساحة النقابية، يجعلنا نسائل النقابات الموقِّعة حول مدى أحقيتها في التكلم باسم الشغيلة التعليمية أمام الحكومة وأمام الرأي العام. وبتدقيق أكثر: هل مازالت هذه النقابات فعلا تمثل أكثرية الشغيلة التعليمية كما تدعي؟
كل الوقائع على الأرض تكذب هذا الادعاء، انطلاقا من المؤشرات الآتية:
أولا ـ التقهقر من الزعامة إلى الدعامة: إن هذه النقابات التي تفخر بكونها عتيدة لم تعد قادرة اليوم على تعبئة الشارع، وتبدو وقفاتها أمام المديريات والأكاديميات باهتة ومكشوفة الصدر. كما لم تعد قادرة على خوض إضراباتها في استقلال عن التنسيقيات، ولذلك نراها تفتح مقراتها مركزيا وجهويا في وجهها وتستقبلها بالأحضان والورود عسى أن تخفي وراءها عجزها، بل بلغ بها المقام أنها أصبحت تترقب بيانات التنسيقيات الداعية إلى الإضرابات والوقفات الاحتجاجية والاعتصامات الإنذارية، لتعلن في أوقات متأخرة من الليل دعوتها إلى خوض أشكال الاحتجاج ذاتها المسطرة في البرنامج النضالي للتنسيقيات. النقابة الوازنة تتزعم وتقود النضال ولا تكتفي بالدعم والمساندة؛
ثانيا ـ الموقف الملتبس من البديل النقابي: لا يخفى على أحد أن الموقف الرسمي من التنسيقيات والمعبَّر عنه سرا في اجتماعات المكاتب المجالية لأغلب النقابات هو العداء والكره، إذ يلعنونها في أنفسهم أكثر من زوجة الأب إيمانا منهم بأنها جاءت لإحداث تجويف أنفي ثالث في الجسد النقابي. ولكن لا أحد يتجرأ على إبداء هذا الموقف في العلن سواء في البيانات الرسمية أم في الندوات الصحفية. فالنقابات بإبداء حبها في العلن للتنسيقيات إنما تريد ازدياد قيمتها عند غيرها، وبإبداء كرهها للتنسيقيات في السر إنما تريد ازدياد قيمتها عند نفسها. وعدو محبوب خير من حبيب مبغوض. النقابة الوازنة يكون موقفها واضحا وصريحا، وتمتلك الشجاعة في التعبير عنه؛
ثالثا ـ زرع المناضلين داخل التنسيقيات: تتهافت النقابات العتيدة اليوم على دَسِّ ما تبقى من مخزون مناضليها ضمن التنسيقيات الممثِّلة لجميع الفئات المتضررة في قطاع التعليم، من أجل التنصت عليها وتوجيه النضال لصالحها أو على الأقل توجيه النضال وفق رؤيتها وتصورها، حتى صار الاختراق مقياسا من مقاييس النجاح في قاموسها. النقابة الوازنة تفرض تصورها بمواقفها لا بالتحايل على تصورات غيرها؛
رابعا ـ النزيف الداخلي: في الوقت الذي تشتكي فيه المنظمات النقابية المنتخبة من تراجع الفعل النضالي في الساحات والميادين، ومن قلة المنخرطين، نجد رجال ونساء التعليم يلتفتون بكثافة وحرارة شديدتين حول تنسيقات عمرها 48 ساعة. زد على ذلك الاستقالات الجماعية للمكاتب المجالية لهذه النقابات والتي فجرها التوقيع على اتفاق 14 أبريل 2023، بل استقالة أعضاء في اللجان الإدارية متساوية الأعضاء، وهو ما وُصف بالزلزال القوي الذي هز بيوت التنظيمات. النقابة الوازنة يلتف المناضلون حولها ولا ينفضون…
وإذا كانت مياه النضال الشريف قد انحسرت عن أنهار أغلب المنظمات النقابية الأكثر تمثيلية، فإنه من السابق لأوانه الحكم بأن التنسيقيات هي البديل النقابي لتلك المنظمات لأربعة اعتبارات على الأقل:
01 ـ أن فكرة التأسيس لم يكن الباعث عليها الإيمان بأهمية التدافع النقابي في قطاع التعليم؛ أي أن تأسيس التنسيقيات لم ينشأ عن فكرة آمن بها أصحابها “التنسيقيون”، ثم طرحوها للتداول بشكل جماعي في مجالسهم، قبل أن يحصل لهم اقتناع بفائدة الفعل النقابي في جلب المصالح وصون الحقوق في إطار التدافع المجتمعي والمشاركة في الحياة الاجتماعية، بل جاء بناء على ردة فعل غاضبة لجماهير فقدت الثقة في المؤسسات النقابية وفي قياداتها، بسبب تراجع تمثيليتها وعدم انسجامها مع قضاياها ومطالبها المشروعة. ومعلوم أن الهيئات والمؤسسات التي أُنشِئت بناء على أساس مطلبي مكسبي، تنتهي بتحقيق هذه المطالب والمكاسب أو تحقيق الجزء الأكبر منها، ثم تصير أثرا بعد عين؛
02 ـ أن القيادات الوطنية للتنسيقيات مازالت لم تُختبر بعد في الترافع عن الملف المطلبي مع الحكومات. ومعلوم أن النضالات الجماهيرية في المجال والمجسِّدة لمطالب الشغيلة التعليمية، إذا لم تواكبها استراتيجية قوية في التفاوض والحوار الاجتماعي من أجل تحقيقها، مع التجرد والصمود ضد الإغراءات المادية والامتيازات النقابية، فإن ما حرثه الجمل سوف يدكه بأرجله؛ ذلك أن التفاوض ينطلق من أطروحات متناقضة في العموم، وبعد المناقشة يحصل التنازل من الطرفين وفق ما يخدم المصلحة العامة للشغيلة، وليس مصلحة القيادات الخاصة، ومن هنا يبدأ السقوط الأخلاقي للزعماء والقيادات؛
03 ـ أن القوة التنظيمية التي أظهرتها التنسيقيات في هيكلة مكاتبها الوطنية والجهوية والإقليمية، لم تمنع من اختراق مكاتبها المجالية بسبب الاستقطاب المفتوح، وإغراقها أحيانا كثيرة بقيادات تحمل قبعة مزدوجة (تنسيقي ـ نقابي)، وتحكمها إيديولوجيا النقابات التي انقلبت عليها التنسيقيات، أو بإيديولوجيا سياسية، وهو ما يهدد بنسفها من الداخل في حالة التعارض في المفاهيم والتصورات؛
04 ـ أن تفريخ عدد كبير من التنسقيات تبعا لعدد الفئات المتضررة في قطاع التعليم، يُصعِّب توحيد فعلها النضالي في إطار نقابي واحد. ناهيك عن نزوع قواعدها نحو التصعيد غير المحسوب في بعض القضايا (عدم تسليم النقط نموذجا)، كما لو أن التصعيد بات عندهم هواية. وهو ما يرى فيه البعض نوعا من النضال الاستعراضي، ومَيْلًا فطريا نحو المواجهة مع الدولة. ما يعزز الطرح القائل بأن التنسيقيات لن تذهب بعيدا بسقف مطالبها العالي جدا…
في الأخير، دعونا نعترف ـ من باب الفضيلة ـ أن التنسيقيات رغم اختلالاتها الكثيرة منهجيا وتنظيميا وتدبيريا، إلا أنها استطاعت أن تعيد الهيبة للإطار الأستاذي والنقابي معا، ومدت الفعل النضالي بالقوة اللازمة للتأثير في صناعة القرار السياسي الاقتصادي. وبذلك استحقت أن تكون بديلا في النضال لمنظمات نقابية تعيش احتباسا قراريا واحتباسا تفاعليا في خِضَمِّ دينامية نضالية متجددة، واستحقت أن تكون قياداتها المجالية خَلَفًا لقيادات نقابية ترقص في أفراح الشغيلة طربا، ولا تحزن في أحزانها. ودعونا نعترف ـ من باب الإنصاف هذه المرة ـ أن هناك نقابات أخطأت التقدير في معالجة بعض الملفات، لكنها أبدا لم تغير جلدها، وظلت صامدة في وجه تيارات الإغراء السطحية، وفي وجه السحب المحملة بالأمطار التي تشكل المناخ اللطيف خلال قادم الانتخابات المهنية. كما أننا لا نعدم وجود مناضلين شرفاء في كل زمان ومكان، حتى من داخل النقابات الموقِّعة، ظلوا أوفياء لمرجعيتهم في النضال وما بدلوا تبديلا.
إن الملف المطلبي للشغيلة التعليمية يتأرجح اليوم بين نقابات لم تعد تملك قاعدة جماهيرية، لكنها تملك شرعية التفاوض والحوار؛ وبين تنسيقيات فاقدة لشرعية التفاوض والحوار، لكنها اللاعب الأثقل في الميزان والأول في الميدان. لقد نجحت التنسيقيات في تجديد النضال في المجال، ووضعت النقابات أمام مسؤولياتها الاجتماعية تجاه الشغيلة التعليمية، وعلى النقابات أن تعيد النظر في أدائها النقابي والتنظيمي، وتعمل على محو الصورة البئيسة في التعاطي مع الملف الاجتماعي (التمثيلية المغشوشة)، وعلى تجديد الوعي بدور النقابات في تأمين الاستقرار المجتمعي، من خلال الوضوح مع الشغيلة والتجرد والإخلاص، والعمل الجاد والمسؤول الذي يحافظ على المكتسبات، ويطالب بمزيد من الحقوق والحريات.
تيط مليل، في 16/11/2023