أين اختفى مليون يهودي مغربي؟
* نزار بولحية
هل لازموا بيوتهم أم تطوعوا في جيش الاحتلال؟ أم أن مجموعات منهم بدأت بالفعل مغادرة الكيان الاسرائيلي؟ كثيرة هي الأسئلة التي تحوم اليوم حول الإسرائيليين المنحدرين من أصول مغربية، لكن السؤال الأهم من بينها هو لماذا فضل معظمهم الصمت؟ ولماذا لم ترتفع أصواتهم عاليا، لا فقط للتنديد، بل حتى للتبرؤ من المجازر والفظاعات التي ارتكبت وما زالت ترتكب في غزة؟ هل لأن صهيونيتهم غلبت على مغربيتهم؟
إن ثبت ذلك فسيكون من غير الوارد في تلك الحالة إذن أن يكونوا جديرين بأن يصيروا بالفعل سفراء للمغرب مثلما تمنى العاهل الراحل الحسن الثاني ذات مرة؟ لقد فوتوا على أنفسهم فرصة نادرة وثمينة ليثبتوا انتسابهم إلى بلد عريق لطالما أشادوا بانفتاحه وتسامحه، وفشلوا في واحد من أدق الاختبارات الحديثة التي واجهوها. وهذا ما جعلهم بعيدين وبأشواط عن تمثيل الوطن الذي انحدروا منه.
“الغشاوة التي غلفت تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين من أصول مغربية قبل السابع من أكتوبر، جعلت البعض يرى أنهم يمكن أن يكونوا دعاة تحقيق السلام زالت تماما”
وما أقدم عليه واحد من رموزهم هو سيمون أحيون يؤكد ذلك، إذ أنه لم يتورع عن ارتكاب خطأ مضاعف حين بعث قبل أيام، ووفقا لما ذكرته بعض المصادر رسالة إلى العاهل المغربي يطلب فيها منه أن يساند الإسرائيليين في حرب الإبادة التي يشنونها في غزة، ناسيا، أو متناسيا على الأصح، وكما كتب وزير الثقافة المغربي الأسبق محمد الأشعري في رسالة مفتوحة وجهها إلى اليهود المغاربة، «أن أمير المؤمنين الملك محمد السادس رئيس لجنة القدس» وأن» الدولة تلتزم بالدفاع عن الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني» وأن «فلسطين والقضية الفلسطينية جزء من الهوية الوطنية للمغاربة من مختلف الخلفيات الدينية والتوجهات». وطبعا فهو لم يفعل ذلك بشكل اعتباطي أو عرضي، لقد أرسل مثل ذلك الخطاب الغريب الذي حمل في طياته دعوة أكثر غرابة بصفته رئيسا لمنظمة الإسرائيليين من أصل مغربي، أي أنه تصرف بالنيابة عن كل المنتسبين لتلك المنظمة. والسؤال الذي يطرحه ذلك وبقوة هو، في أي صف يقف الآن أكثر من مليون يهودي من أصول مغربية، يعيشون في الكيان الصهيوني؟ لقد طلب منهم محمد الأشعري في رسالته المفتوحة، أن يحددوا إلى أي جهة ينحازون بالضبط حين قال لهم في مكتوبه: «هل تؤيدون إذن هذه المواقف الملكية الرافضة لتقتيل الشعب الفلسطيني والداعية إلى سلام عادل في المنطقة؟ وهي مواقف متناغمة مع مشاعر الشعب المغربي ومبادئه الثابتة. هل تستنكرون مذابح غزة؟ هل تدينون الحكومة الإسرائيلية المتطرفة بقيادة مجرم الحرب بنيامين نتنياهو؟ هل تساندون الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني؟ قبل أن يمضي ويضيف «إن كان واضحا اصطفاف الإسرائيليين من أصل مغربي في أغلبهم خلف الليكود، وخلف سياسة الميز العنصري، التي يمارسها فإنه ليس واضحا بشكل جلي ومقنع خلف من تصطفون؟ وليس واضحا ما الذي تقولونه بصمتكم؟». إن الغشاوة التي طالما غلفت تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين من أصول مغربية قبل السابع من أكتوبر، وجعلت البعض يحمل عنهم كثيرا من الانطباعات الوردية، ويرى أنهم ومن منطلق تجربتهم في العيش المشترك في المغرب يمكن أن يكونوا من دعاة تحقيق السلام مع الفلسطينيين قد زالت تماما، وكشفت وبات جليا بعد ذلك التاريخ بالذات كيف أنهم يصطفون في خندق واحد مع الكيان المحتل في حرب الإبادة التي يشنها في غزة. وهذا ما يضع بالتأكيد علامة استفهام كبرى حول طبيعة الروابط والانتماءات التاريخية، التي قد تشدهم إلى بلد مثل المغرب، فهل إن الهوية المغربية تقف في نظرهم عند حدود زيارة قبور الأجداد، أو إيقاد الشموع في بعض الأماكن والمزارات القديمة والحفاظ على بعض مظاهر التراث الشعبي؟ وهل إنها في الأخير مجرد رصيد تاريخي واستراتيجي يخدم المصالح والأهداف الإسرائيلية فحسب، وواحد من بين المبررات والحجج التي تدفع الرباط، كما يتصورون، لأن تبقي على علاقاتها معهم؟
في كل الأحوال لم ينكر المغاربة، وعلى مرّ تاريخهم ما اعتبروه مكونا من مكونات دولتهم، ونعني به المكون العبري، ففي تصدير دستورهم لسنة 2011، على سبيل المثال، تم التنصيص على أن المملكة المغربية «دولة اسلامية ذات سيادة كاملة متشبثة بوحدتها الوطنية والترابية وبصيانة تلاحم مقومات هويتها الوطنية الموحدة بانصهار كل مكوناتها العربية الاسلامية والأمازيغية والصحراوية الحسانية والغنية بروافدها الافريقية والاندلسية والعبرية والمتوسطية». كما أن «الثقافة اليهودية جزء من التراث المغربي كما هو مذكور في دستورهم، واليهود المغاربة حتى لو كانوا إسرائيليين يظلون قانونيا رعايا للملك محمد السادس، وهو بعد تاريخي وثقافي وعاطفي غائب عن الإمارات والبحرين»، مثلما ذكر إيمانويل نافون الخبير في العلاقات الدولية في جامعة تل أبيب في حديثه في سبتمبر 2022 لصحيفة « ليزيكو» الفرنسية، وبالإضافة إلى ذلك فإنه من اللافت أيضا أن البيان الذي أصدره الديوان الملكي المغربي في 22 ديسمبر 2020، الذي تم من خلاله الإعلان عن التوقيع على اتفاق إعادة العلاقات بين الرباط وتل أبيب، حرص وفي سياق ذكر التدابير المعلن عنها من أجل استئناف تلك العلاقات، على أن يتم التنصيص وقبل «الاستئناف الكامل للاتصالات والعلاقات الدبلوماسية والرسمية مع اسرائيل على المستوى المناسب» على نقطة أولى وهي «الترخيص لشركات الطيران الإسرائيلية بنقل أفراد الجالية المغربية والسياح الإسرائيليين إلى المغرب» وتضمن بالمثل أيضا تأكيد العاهل المغربي في معرض حديثه إلى مئير بن شبات مستشار الأمن القومي الإسرائيلي على «الروابط الخاصة مع الجالية المغربية اليهودية، ولاسيما أفرادها الذين يشغلون مناصب مسؤولية في إسرائيل» وفقا لما جاء في نص البيان. فما الذي يريده اليهود المغاربة بعد ذلك؟ هل يتصورون أن ارتباطهم الروحي والتاريخي بالمغرب لن يفرض عليهم أي التزامات وأنهم سيكونون في حل من أي ضوابط وطنية أو حتى إنسانية؟ لقد قاموا قبل شهور فقط ببعض الجهود التي أفضت لاعتراف الكيان الإسرائيلي بمغربية الصحراء. وكان رئيس الكنيست الإسرائيلي أمير أوحانا اليهودي من أصول مغربية هو المبادر في يونيو الماضي للتصريح ومن مقر البرلمان المغربي بأن الصحراء مغربية مضيفا وفي ذلك السياق: «لقد عبرت عن ذلك سابقا وأجدد التأكيد عليه الآن بصفتي رئيسا للكنيست وبكل وضوح: يتعين على إسرائيل المضي قدما نحو هذا الهدف المتمثل في الاعتراف بمغربية الصحراء، أسوة بحليفنا الأقرب الولايات المتحدة الأمريكية». لكن إن كان الدافع الذي حرك أوحانا وغيره للقيام بتلك الخطوة هو شعوره نوعا ما بالانتماء إلى المغرب، فهل إن ذلك الإحساس ينتفي عندما يتعلق الأمر بالمجازر والانتهاكات التي ترتكب في الأراضي الفلسطينية المحتلة؟ لقد طالب بعض الحقوقيين في وقت ما بمنح الجنسية المغربية لجميع اليهود المغاربة الذين سبق لهم أن تنازلوا عنها، بل حتى لجميع أولادهم وأحفادهم. ورغم أنه من الصعب الآن أن تلقى مثل تلك المطالب صدى، خصوصا أن أعدادا من هؤلاء فضلت الصمت، أو كانت ضالعة في الانتهاكات والمجازر التي حصلت فإن المؤكد هو أن المغرب لن يتنكر لأي مكون من مكوناته وسيبقى كما كان أرض التعايش والانفتاح.
*كاتب وصحافي من تونس.