غزة تسقط مشروع الضرار
لن نسأم التأكيد على أن معركة طوفان الأقصى هي أحد أبرز الملاحم في تاريخ الأمة، فهي الملحمة الأبرز في مسيرة الصراع مع اليهود منذ نيف و سبعين عاماً، و حريٌ بهذه الملحمة أن توضع في. مصاف اليمامة و نهاوند و حطين. ليست العبرة في نتائج الحروب بأعداد القتلى و المصابين ، و لا بحجم الغنائم و الأسلاب، و لكنها بحجم التحولات الجيوسياسية التي نعقبها كثمرة من ثمار تلك المعركة و نتيجة من نتائجها. ما يعقب المعركة من تداعيات و ما ينجم عنها من تحولات هي المعيار الذي به تقاس مركزية المعارك.
لا أقول أن الطوفان قد أعاد للقضية الفلسطينية وهجها، فهي ما فقدت وهجها قط، و لكنه أعاد تموضع القضية الفلسطينية في الحسابات الجيوستراتيجية الإقليمية و الدولية. رغم مركزيتها في الوجدان الجمعي العربي، إنتهت قضية فلسطين إلى شلو ممزع تتنازعه سلطة فلسطينية مسلوبة القرار ، و حكومة صهيونية إستئصالية غاشمة، و نظام عربي سقيم الطوية ، يدور مع المؤشر الاميريكي حيث دار ، و قد طوع فائض القوة لديه لوأد القضية الفلسطينية ، و لن يتحقق ذلك إلا بوأد المقاومة التي أربكت مراسيم الوأد و أحبطت مساعي الاستئصال .
فجاء مشروع الضرار الذي تولت كبره واشنطن ، و صيغت مضامينه في أقبية أجهزة التفكير (Think Tanks) ثم صممت إستراتيجيات التنفيذ في مراكز صناعة السياسات ، ثم أحيلت الخطط التشغيلية للشركاء الإقليمين ، و بعد أن علم كل موقعه و شرع في الوفاء بالتزاماته و إزّينت الأرض و ظن أهلها أنهم قادرون عليها تحدر الطوفان فجرف معالم المشروع و أتى على بنيانه من القواعد و جعله خبراً بعد عين.
كان المشروع يقوم على ثلاثة مرتكزات نسفها الطوفان نسفاً فجعلها قاعاً صفصفا:
• تصفية القضية الفلسطينية و تحويلها إلى نزاع إجرائي حول مسائل هامشية بين السلطة و إسرائيل، و لكن بند التصفية هذا يقتضي تجريم المقاومة، و دك حصونها ، فحوصرت الحالة الجهادية في القطاع و حرمت حاضنتها الشعبية من كل أسباب الحياة و جلب النظام الاقليمي على حركة المقاومة بخيله و رجله و رمتها العرب عن قوس واحدة ، حتى غدت حماس مرادفاً للإرهاب و كتائب القسام معادلاً لعصاباب الجريمة. فجاء الطوفان ليبدد اليأس و ينزع الوهن و ليقلب المعادلة رأساً علي عقب و يفرض معادلة أخرى إنكسرت أمامها خطة الضرار و تبعثرت مكوناتها ، ليبزغ فجر فلسطين و تغدو واسطة العقد في الرؤية الاستراتيجية الاقليمية.
• دمج إسرائيل في الفضاء الإقليمي و حقنها في الجسد العربي لتصبح جزءاً منه على أن تحتفظ بخاصية التفوق و العلو . فبدأت مشاريع التطبيع تترى برعاية أميريكية حثيثية و إستجابة عربية بادية التعثر و لكنها منتظمة الخطى . فجاء الطوفان ليزيل غشاوة الشعوب و يهدر حجج التطبيع و يبطل كل مسوغات التقارب مع الصهاينه و يفرض معايير أخلاقية و سياسية جديدة ، هنالك أسقط في أيدي القوم و طاشت سهامهم و إنزوى التطبيع في الخطاب السياسي العربي حتى لا تسمع له ركزاً.
• إعادة تشكيل الوجدان العربي بهدم المحتوى العقدي و تفكيك البناء القيمي و تمزيق الرابطة الإيمانيّة ليغدو وجداناً منقطع الصلة بجذوره العقدية و موجهاته الأخلاقية لينشأ على تلك السجايا جيل عابث منصرف إلى اللهو ، لا يرى حرجاً في التفاعل مع الصهاينة ، و كانت البداية بمناهج التعليم ثم منابر تشكيل الوعي (خطب الجمعة) و ضبط الخطاب الإعلامي، و حسب القوم أنهم قد أنجزوا رسالتهم و حققوا مراميهم و بلغوا غايتهم ، فجاء الطوفان ليفأجهم بما لم يكونوا يحتسبون ! فإذا بهم أمام جيل شديد البأس ، قوي الشكيمة، جسور الطبع ، وثيق الصلة بمعتقده و مقدساته ، و لو وجد ثغرة لنفذ منها.
هكذا أسقطت غزة مشروع الضرار بأركانه الثلاثة ، و هكذا أعادت للأقصى مركزيته العقدية و السياسية و هكذا غيرت موازين القوى ، و مالذي ذكرت إلا غيض من فيض……. و العاقبة للتقوى.
د. عبدالله الغيلاني
24 نوفمبر ، 2023