ذ. أحمد الريسوني
الغموض والضبابية وخلط الأوراق، وإثارة الغبار والضجيج، وصرف الأنظار والأذهان عن القضايا الجوهرية والأصلية، إلى قضايا هامشية.. كلها حالات وأساليب يعتمد عليها المفسدون والمعتدون، للتضليل وقلب الحقائق.
وقضية فلسطين، ومعركة غزة الآن، من أكثر القضايا التي تعرضت – وتتعرض – للتضليل والتحريف والتزييف، باستعمال كل هذه الأساليب.
ومن ذلك:
1. تقول الأساطير الصهيونية: إن اليهود أُخرجوا من وطنهم فلسطين، وفُرض عليهم الشتات، والآن عادوا إلى وطنهم وأرض أجدادهم..!
ونحن نسألهم ونسأل شركاءهم وأنصارهم: أولا متى جاء اليهود إلى فلسطين؟ ومن أين جاؤوا؟ ثم من أخرجهم منها؟ ومتى؟ وكيف؟
وهل اليهود المنتشرون اليوم في عشرات الدول من كل القارات، ومن كل الأجناس والألوان، كان أجدادهم في فلسطين، ومنها ينحدرون؟
ثم لو فرضنا أن: كل من كان لهم أقارب، أجداد أو أعمام، أو شركاء في الدين، قد سكنوا ذات يوم في بلد ما، ولو قبل آلاف السنين، يحق لهم أن يأتوا ويستولوا على ذلك البلد، ويطردوا ويقتلوا من فيه.. لو صحت هذه الدعوى لحقَّ لجميع شعوب المعمور أن تتحرك وتتقاتل ويرحّل بعضهم بعضا. وهذا من أعبث العبث، ولكنه هو ما يطبق على أرض فلسطين..
2. تقول الأساطير الصهيونية والاستعمارية: إن اليهود – مساكين – قد تعرضوا للاضطهاد والنكبات والمذابح، في مختلف الأعصار والأمصار.. فكان لا بد أن نوجد لهم حلا، وقد وجدناه وأوجدناه في فلسطين. ولكن حماس تريد مرة أخرى أن تنكل بهم وتطردهم وتقضي على دولتهم..
وأنا الآن لا أريد أن أحرجهم، فأسألهم ذلك السؤال القديم المتجدد، الذي يطرحه حتى البسطاء من الناس، وهو: لماذا اليهود – دون غيرهم – تعرضوا لهذا الاضطهاد واختُصوا به على مر التاريخ، حتى أصبحوا يعانون من عقدة “معاداة السامية”، تلاحقهم ويلاحقونها، في دول ومجتمعات عديدة ومتنوعة..
ولكني فقط أسألهم: ما هي الدول والشعوب التي مارست الاضطهاد والتعدي ومعاداة السامية على اليهود؟
فإذا عُرفت، وهي معروفة، فهي التي يجب أن تحل مشكلتهم وتُكـفِّـر عن خطاياها معهم. فلماذا الأوروبيون المسيحيون يرتكبون الاضطهاد والتنكيل والهولوكوست ضد اليهود، ثم يصدِّرونهم إلى فلسطين، وعلى حساب الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة؟؟!!
ألم يكن الأجدر والأقرب إلى المنطق والعدل والإنسانية، هو منحهم “وطنا قوميا ودولة خاصة بهم” في أوروبا، أو في العالم الجديد والقارات الجديدة الشاسعة (في أمريكا أو كندا أو أستراليا..)؟
لكن دهاقنة الاستعمار أرادوا – مع هدفهم التخلص من اليهود وتوظيفَهم- التنكيلَ بالمسلمين والانتقامَ منهم، وإقامةَ قاعدة صلبة موثوقة لهم، في قلب ديار المسلمين.
3. تقول إحدى الأساطير الصهيونية: إن فلسطين كانت وطنا بلا شعب، فأُعطيتْ لشعب بلا وطن، فما العيب في ذلك؟
ونقول لهم: اليهود ليسوا، ولم يكونوا في يوم من الأيام، بلا وطن، بل لهم أوطانهم العديدة، التي منها أجدادهم، وفيها جذورهم وأصولهم.. فمنهم عرب، ومنهم أمازيغ، ومنهم أوروبيون بجميع مواصفات الأوروبيين،، ومنهم فارسيون، ومنهم حبشيون/إثيوبيون.. ولذلك رفض كثير من يهود العالم التنكر لأوطانهم الحقيقية، والانسياق نحو غزو فلسطين، والاستيلاء على أراضيها، وقتل سكانها وتهجيرهم قسرا.
وأما اليهود أبناءُ فلسطين، فهؤلاء وطنهم فلسطين، فهم فلسطينيون مع سائر الفلسطينيين، من المسلمين والمسيحيين، كما كانوا منذ قرون وقرون..
وأما القول بأنَّ فلسطين كانت وطنا بلا شعب، فالجواب هو ما نراه من المقاومة الممتدة منذ نحو مائة عام، في حيفا والقدس والخليل وغزة وخانيونس وجنين، وسائر مدن فلسطين وقراها..
4. يقول الزعماء الصهاينة والغربيون: إن إسرائيل إنما تدافع عن نفسها، فلها الحق في أن تفعل ما يحقق لها الدفاع عن النفس.
ونقول لهم: إذا كانت “إسرائيل” تدافع عن نفسها، فخبرونا ما هي “نفسها” هذه التي تدافع عنها؟ إسرائيل لم تكن ثم كانت، ثم توسعت، ثم توسعت، ثم استولت وصادرت وضمَّت، ثم ملأت الدنيا بمستوطنيها وجيوشها.. فما الذي يشمله هذا “الدفاع عن النفس”؟ وهل غزة، وغلاف غزة، وغلاف غلاف غزة، هو أيضا يقع ضمن “النفس”؟
وإذا تجاوزنا ذلك القرار الاستعماري القهري، المسمى “قرار التقسيم”، فهل احتلال الضفة الغربية والقدس والجولان، منذ أكثر من نصف قرن دفاع عن النفس؟ وقبل ذلك احتلال سيناء وجنوب لبنان؟ وهل الحصار الخانق، المفروض على عموم سكان قطاع غزة منذ عشرين عاما، هو أيضا دفاع عن النفس؟
لقد ميَّعوا المبادئ والمصطلحات، حتى أصبحت بلا قيمة وبلا مصداقية وبلا معنى.
5. يقول الصهاينة وشركاؤهم وأبواقهم: إن حركة حماس، وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية، منظمات متطرفة إرهابية، فلا بد من القضاء عليها من أجل تحقيق السلام.
وهذه أكذوبة أخرى قد انفضح أمرها وتمزقت ستائرها. فالمقاومة الفلسطينية لم تفعل سوى ما تفعله جميع الشعوب الحرة التي ابتليت بالغزو والاحتلال الأجنبي القهري. وقد بدأ بعض المثقفين الأوروبيين يصفون الحرب على غزة والضفة بأنها حرب استعمارية.. ولذلك لم يجد عدد من كبار السياسيين الغربيين بُدّا من الاعتراف – المحتشم – بأن عملية 7 أكتوبر “لم تأت من فراغ”، بل سببها: احتلال سرطاني عنصري طال أمده، ومعه قتل بلا حدود، واستيلاء على الأراضي بلا حدود. ومعه اعتقالات بلا قيود، وهدم للبيوت على من فيها، ممن لم يقاوموا ولا تكلموا. وهناك ملايين الفلسطينيين أصبحوا مشردين، نازحين ولاجئين.. ثم يريد الصهاينة وشركاؤهم أن يصدقهم الناس – رغما عنهم – ويقولوا: 7 أكتوبر عمل إرهابي، وحماس تنظيم إرهابي..
المبالغة في الكذب، والإغراق في عالم الكذب، وإدمان التحريف والتضليل، هي التي جعلت الناس في النهاية – حتى في أمريكا وإسرائيل – يفقدون كل ثقة في الرئيس الأمريكي العجوز، وفي الزعيم الصهيوني النتن..
إن طوفان الأقصى، وحركة حماس، وسائر فصائل المقاومة، ليست سوى حلقات في مسلسل الكفاح الطويل المرير، الذي يخوضه الشعب الفلسطيني لأجل حقوقه وكرامته، وحريته واستقلاله.