احتجاجات أساتذة المغرب: أزمة مدرسة و انتفاضة كرامة
بقلم: ذ. موسى مريد
يعيش المغرب منذ أكتوبر الماضي على وقع احتجاجات و إضرابات متتالية شلت الدراسة بمختلف المدارس العمومية في البلاد، و ذلك مباشرة بعد صدور النظام الأساسي الجديد لرجال و نساء التعليم من طرف وزارة السيد شكيب بنموسى. هذا النظام الجديد لم يكن في اعتقادنا، إلا الشعلة التي أوقدت نار الغضب الكامن منذ سنوات في نفوس نساء و رجال التعليم. فالمشاركة المكثفة في الإضراب، و نجاح المسيرات الضخمة التي نظمها الأساتذة و دعت لها تنسيقياتهم المختلفة التي لا تعترف بها الدولة، هو نتيجة حتمية لتراكم الخيبات و كثرة الملفات التي لم تجد أبدا طريقها للحل، وتعبير عن انفجار غضب الأساتذة ضحايا التماطل و التسويف، بسبب عدم تنفيذ الانفاقات الكثيرة السابقة من طرف الحكومات المتعاقبة، و أيضا بسبب إحساس دفين بالحكرة لدى نساء و رجال التعليم نتيجة معاناتهم التي طالت عقودا، و تعرضوا خلالها لكل أشكال الاضطهاد و الظلم سواء من الحكومة أو من جزء من المجتمع، ظلم عمودي و أفقي، من طرف المسؤولين الحكوميين و الإداريين، من رؤساء حكومات و من وزراء، من بعض المدراء وبعض المسؤولين المباشرين، و أيضا من تفشي ظاهرة الاعتداء الجسدي و اللفظي و المعنوي على الأساتذة من طرف بعض الأفراد..
فالسياسات الحكومية المتعاقبة التي أغلقت سبل الحوار و تملصت من الاتفاقات و الالتزامات الموقعة منذ عقدين من الزمن، و خططت و نفذت خطيئة العمل بالتعاقد، و اقتطعت من أجور المضربين، و جعلت الأساتذة وحدهم من يدفعون فاتورة إصلاح غير مكتمل لأزمة صناديق التقاعد التي لم يتسببوا فيها أصلا، إضافة الى فشل كل الإصلاحات الفوقية التي جاء بها الوزراء المتعاقبون على القطاع، و الفساد و النهب الذي مس ميزانيات ضخمة رصدت للقطاع دون أي أثر إيجابي على المدرسة العمومية و على المدرسين.. كل هذه العوامل مجتمعة، أدت في المجمل الى ما يمكن تسميته بانتفاضة الكرامة، حيث انفجرت أمام الحكومة كقنبلة انشطارية، و في لحظة واحدة، عشرات الملفات و المطالب المادية و الرمزية و الفئوية و القانونية و البيداغوجية..
المشكلة الكبيرة التي زادت الأمر تعقيدا، تجلت في غياب مؤسسات نقابية تمثيلية قوية وعقلانية و مسموعة من طرف الأساتذة، فسنوات الحكرة و الظلم الذي تعرض له الأساتذة، أنتجت نقابات ضعيفة، بدون ارتباط حقيقي بالقواعد، تبدو ككائنات معلقة في الهواء، و لا تعبر عن نبض المدرسة و لا عن تطلعات الأساتذة، و زادها ضعفا كثرة الانشقاقات و الصراعات الداخلية، و فقدان الاستقلالية، و غياب الديمقراطية الداخلية و سيادة البيروقراطية.. فروعها في الغالب أصبح يسيطر عليها من لا ينتج جملة نضالية، و من لا يفهم في النقابة غير ممارسة (السخرة) لقضاء الأغراض الإدارية و جمع الانخراطات.. و لهذا لم تستطع قيادة هذه النقابات، التي تجاوزتها الأحداث، تأطير هذا الحراك، و الفعل فيه و توجيهه الوجهة الصحيحة، بل لم تستطع حتى فهمه، و لا استغلال ميزان القوى الجديد الذي فرضه نجاح الحراك الأستاذي للتفاوص من موقع قوة و بالتالي استعادة مكانتها لدى فئات واسعة من المدرسين، عبر الضغط من أجل تحقيق مطالبهم. بل لقد زادت قطيعتها معهم، نتيجة ضعفها البين في إدارة الحوار، و غياب نتائج ملموسة تقنع الأساتذة بالعودة الى أقسامهم، إذ كيف يعقل مثلا، أن إضراب الأساتذة، لم ينتج عنه في النهاية، سوى تحقيق مزيد من المكتسبات لفئات لا تحسب على المدرسين و لم تشاركهم احتجاجاتهم أصلا؟! و كيف لا تستطيع هذه النقابات تحقيق مطالب أستاذية ملحة لا تكلف خزينة الدولة سنتيما واحدا ؟!
لا يتعلق الأمر هنا إذن في العمق و الجوهر باحتجاجات أستاذية مشروعة مطالبة بتحسين الأجور و ظروف العمل، بل إن المشكلة الكبرى في اعتقادنا، تكمن في توجه الدولة نحو تطبيق إملاءات المؤسسات الأمبريالية الدائنة، و نهجت سياسة نيوليبرالية متوحشة في قطاع اجتماعي حيوي يمس مصير و حاضر و مستقبل شعب بأكمله و هو قطاع التربية و التعليم، فلقد عمدت الدولة الى تشجيع القطاع الخاص الذي صار قطاعا طفيليا ريعيا يتمدد كل يوم على حساب المدرسة العمومية، و أوجدت الوزارة الوصية للمدرسة العمومية ترسانة قانونية و اعتمدت وصفات وأنتجت قاموسا يمتح من ثقافة المقاولات، بل لقد صرح مسؤولون حكوميون غير ما مرة علنا بأن التعليم العمومي أصبح عبئا على الدولة! و أن الحل يكمن في تشجيع القطاع الخاص! و أن من أراد تعليم أطفاله عليه أن يدفع، و أن المجانية انتهت عمليا بعد المصادقة على ما يسمى القانون الإطار، و أن الخوصصة الشاملة للمدرسة العمومية طبقت فعليا حين ارتكبت خطيئة تشغيل الأساتذة بموجب عقود..
و خلاصة القضية، فإن المدرسة المغربية تعيش أزمة وجود و أزمة فكرة و أزمة معنى، و على الدولة و الفاعلين الانتباه الى أن الحراك الأستاذي ليس إلا تعبيرا عن هذه الأزمة الخطيرة، التي لا يمكن حلها الحل الصحيح في اعتقادنا سوى بالحوار الوطني المفتوح و الهادئ، و الذي يمكن عبره للدولة و القوى الحية في المجتمع و المثقفين، من إعادة النظر و الحسم في المشروع المجتمعي ككل، و الذي يستطيع أن تنتقل به البلاد من نظام المخزن الى نظام ديمقراطي و من اقتصاد الريع الى اقتصاد تضامني، مشروع مجتمعي يجعل من المدرسة العمومية مشتلا لإنتاج الثروة، و ليست مجرد عبء على الميزانية، مشروعا يقطع مع مدرسة المقاولة المراد لها خدمة الباطرونا الريعية و إمدادها بما تحتاجه من يد عاملة رخيصة خانعة، و ينتقل بالمغرب الى مدرسة العلم و المعرفة، مدرسة منتجة لجيل ناهض متشبع بكل القيم السامية ، مدرسة الكرامة و المساواة و العدالة الاجتماعية.